تحليلات وأبحاثسياسات

التيار الليبرالي في مصر.. الصعود والأزمة

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بقلم الباحث: هشام محمد

تعريفات أساسية:

نشأت إرهاصات التيار الليبرالي في مصر مع بدايات حركة النهضة المصرية، في القرن التاسع عشر، وذلك في خضم التفاعل الحضاري مع القيم السياسية والاقتصادية الأوروبية. وتفاعل هذا التيار مع التاريخ المصري منذ تلك البداية، مرورًا بمرحلة ما بعد ثورة 1919 وصياغة دستور 1923؛ حيث كان ذلك الدستور بمثابة بداية لما أطلق عليها «الحقبة الليبرالية» في تاريخ مصر، نظرًا لتوفر درجة من التعددية الحزبية، وانتخابات برلمانية، وتداول للسلطة بين عدد من الأحزاب، وصحافة تتمتع بحرية نسبيًّا، رغم ما شاب هذه الفترة من تجاوزات وتدخلات أوتوقراطية من القصر الملكي وسلطة الاحتلال الإنجليزي.

انتهت هذه الفترة بعد حركة يوليو (تموز) 1952 التي أسست لـ«دولة يوليو» التي حكمت مصر بنسخ مختلفة؛ لكنها اشتركت جميعًا في أن الجيش تحول لمؤسسة التجنيد السياسي الرئيسية، مع وجود بيروقراطية تابعة، مع تقويض لقدرات المجتمع المدني، والعمل السياسي التنظيمي.

عاد التيار الليبرالي المصري للساحة السياسية مع انفتاح السادات، وشارك في الانتخابات التشريعية بداية من انتخابات 1984، ثم تطور ليصبح جزءًا أساسيًّا من الحركة الاحتجاجية العريضة التي أطاحت بحكم مبارك، على أثر انتفاضة يناير (كانون الثاني) 2011.

تتعدد تعريفات التيار الليبرالي، وفقًا للتصورات حول الخيط الفكري الناظم لهذا التيار. فوفقًا لقاموس أكسفورد للسياسة، فإن الليبرالية تقوم فلسفيًّا حول «الاعتقاد بأن هدف السياسة هو الحفاظ على الحقوق الفردية وتعظيم حرية الاختيار»([1]). وهو التعريف نفسه الذي تذهب إليه الموسوعة البريطانية التي تذهب إلى أن الليبرالية عقيدة سياسية قائمة على حماية حرية الأفراد، إما بعضهم من بعض، وإما من الحكومات التي يمكن أن تشكل تهديدًا للحرية والحقوق الأساسية([2]).

ويذهب البعض لتعريفها وفقًا لقيم الفردانية (أي احترام حقوق الأفراد في الاختيار والاقتناع والتعبير)، كما في تعريف ياسر قنصوة: «فمبادئ الليبرالية كانت وما زالت ممثلة في: (أ) الإيمان بالقيمة العليا للفرد وحريته وحقوقه. (ب) الإيمان بأن للفرد حقوقًا طبيعية مستقلة عن الحكومة، وعلى الحكومة أن تقوم بحمايتها ضد اعتداء الآخرين ومنها ذاتها. (ج) الاعتراف بالقيمة العليا للحرية، أو تأمين ما يحق للفرد»([3]).

ومن منطلق النزعة الفردانية لليبرالية، فإن الليبرالية تؤمن بحقوق طبيعية للأفراد، تعلو وتسبق على حقوقهم الدستورية والقانونية، أي أنها حقوق «فوق دستورية»، مثل الحق في الحياة، وفي حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، والحق في التملك، والمبادرة الفردية للمشاركة في السوق بمعناها الاقتصادي.

وبناء على ما تقدم، طورت الليبرالية مفهوم ما يعرف بالديمقراطية الليبرالية القائمة على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، إما أمام الاستبداد الحكومي، وإما من ديكتاتورية الأغلبية التي ربما تصادر بعض الحقوق الفردية بحكم الكثرة العددية. وعليه تم تطوير مفاهيم دولة القانون التي تحكم وفقًا لقواعد قانونية عامة ومجردة، لا تمس الحقوق الأساسية للأفراد، وتحرص على توزيع السلطة لضمان التوازن والرقابة المتبادلة.

كما تضمن الديمقراطية الليبرالية التنافس السياسي بين الأفكار والأفراد، في صورة برامج سياسية للتعامل مع مشكلات المجتمع، بما يضمن صفة التعدد في الرؤى والتنوع في القناعات، مع ضمان سلمية التنافس السياسي والاقتصادي، والرقابة على السلطة في أداء عملها، وضمان عدم تركز السلطة لتحقيق التوازن وتقويض فرص الاستبداد، والتداول السلمي للسلطة، مع ضمان فصل واضح بين السلطة الدينية والسياسية، وذلك لضمان بشرية القوانين الإنسانية، بحيث تكون قابلة للمناقشة والتعديل والتغيير، وضمان نزع القداسة أو الحصانة الدينية عن السلطة السياسية، وهو النزع الضروري لمراقبة السلطة، وكذا لتأكيد التسامح في حالة الاختلاف العقائدي وحياد الدولة أمام مواطنيها. وهو ما يمكن أن نسميه: مبادئ الديمقراطية الليبرالية.

ورغم اتفاق التعريفات الأساسية على إطار لوصف الفكر الليبرالي، فإن السياق المصري المستقطب وفقًا لطبيعة مرحلة ما بعد يونيو (حزيران) 2013، قد أضفى ارتباكًا على المصطلح. وتظهر أزمة التعريف في الحالة المصرية نظرًا لظهور تيارين أساسيين داخل التيار الليبرالي المصري: أولهما ليبرالية متحالفة مع السلطة؛ حيث تقدم مفاهيم حريات السوق، ودور أكبر للقطاع الخاص المتحالف مع الدولة في العملية الاقتصادية، وليبرالية مناوئة للسلطة، وهي التي تقدم الحريات السياسية الأساسية، والتنافسية السياسية والاقتصادية، وتداول السلطة والرقابة عليها، والحريات الشخصية، والمبادرات الفردية، كأولوية غير قابلة للتفاوض حولها أو التنازل عنها.

فوفقًا لشادي حميد: «في السياق المصري، غالبًا ما تستخدم كلمة (ليبرالي) للدلالة على الأشخاص الذين لا يحبون الإسلاميين. يلف الغموض بمعنى كلمة الليبرالية الحقيقي في بلدٍ كمصر؛ حيث يقوم عدد كبير من الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بالليبراليين بتمجيد للجيش، أو يعتقدون بضرورة منع الأحزاب الإسلامية من خوض غمار الانتخابات في المقام الأول»([4]).

خلق هذا الارتباك حول تعريف التيار الليبرالي ارتباكًا مقابلاً في تعريف مَن المقصود بالليبراليين المصريين؛ خصوصًا لتنوع الأطر السياسية التي تجمعهم، وكذلك تنوع مواقفهم الأساسية تجاه الحريات العامة، ومساحات تدخل الدولة، والموقف من العلاقات المدنية العسكرية ذات التوازن المختل لصالح العسكريين في مصر. لذا ففضًّا لهذا التشابك، فإن هذه الورقة تعني بالأساس بالتيار الليبرالي المعارض الذي يؤمن بالحريات والحقوق الفردية الطبيعية، بما فيها حقوق الاختلاف والاعتقاد، والتعبير، والتنافسية السياسية السلمية، واقتصاد السوق كنمط أساسي للاقتصاد، وعلمانية الدولة، أي فصل المؤسسة الدينية عن الدولة.

تحاول الورقة الإجابة عن السؤال التالي: ما أثر حركة التيار الليبرالي (صعودًا وهبوطًا) على الانتفاضة المصرية؟ كما تطرح عددًا من الأسئلة الفرعية، مثل: إلى أي حد أسهم الخطاب الليبرالي في تدعيم التطور الديمقراطي في مصر بعد يناير؟ وما مستقبل التيار الليبرالي في ظل الحالة السياسية الحالية؟

 

– صعود الخطاب الليبرالي بداية التسعينات:

انقسم التيار بين تيار موالٍ يقدم غطاءً أيديولوجيًّا لرؤية النظام الجديدة (له رموز ظهرت أولًا في «مركز الأهرام»، وخبراء ماليين في مؤسسات دولية، وفي «لجنة السياسات») وليبرالية تاريخية معارضة تركزت في حزب «الوفد».

صعد التيار الليبرالي في ظل نبوءات بنهاية التاريخ([5])، وانتصار أخير لليبرالية تصاحبه عالميًّا انهيارات الكتلة الشرقية وسور برلين؛ بل والاتحاد السوفياتي نفسه في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات. انتشرت الثورات الملونة غير العنيفة التي تستمد القيم الليبرالية واقتصاد السوق كحركة مقاومة فعالة ضد النظم الشيوعية والأوتوقراطية القديمة. كان العالم يبدو أنه في مسار موجة ثالثة لصعود الديمقراطية كما وصفها صمويل هنتنغتون([6]).

لم يختلف المشهد محليًّا كثيرًا، فمصر المثقلة بتركة «اشتراكية» ضاغطة على مستويات الكفاءة والإنتاج، وقطاع عام شكل عبئًا على الاقتصاد المصري، أصبحت مهيأة بشكل كبير لاستعادة الزخم الليبرالي التاريخي المفقود لتيار ليبرالي مصري فقد دوره تمامًا بعد يوليو 1952. كما انهار تمامًا مشروع الدولة الراعية الذي أسسته التجربة الناصرية المتعثرة بالطموحات الكبرى والقدرات المحدودة والهزائم التاريخية.

كانت جاذبية الليبرالية كأيديولوجية منتصرة عالميًّا دافعًا إلى أن تكون غطاء أيديولوجيًّا لدوائر مقربة للنظام، فيما يمكن أن نسميه «الليبرالية الموالية»، لها رموز ظهرت أولًا في «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية»، وخبراء ماليين في مؤسسات دولية، وفي «لجنة السياسات» التي أسسها جمال مبارك. وعلى الجانب الآخر، ظهرت ليبرالية تاريخية معارضة تركزت في حزب «الوفد» الذي حاول أن يستدعي حالة تاريخية، ظهر لدى كثيرين أن الزمن قد تجاوزها، مما أدى لفقدان «الوفد» لدوره كنقطة تجميع لليبراليين المعارضين وبدأت تظهر تدريجيًّا ما يمكن أن نطلق عليها «الليبرالية المناوئة». وهو تيار تم تشكيله في ثلاث محطات رئيسية: الأولى ظهور «حركة كفاية» التي ضمت ممثلين عن الطيف السياسي المصري المعارض لحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. مع حضور لافت لليبراليين؛ سواء في الحركة الأم، أو في الحركات المتفرعة منها، مثل «شباب من أجل التغيير».

كانت انتخابات الرئاسة 2005، وحملة المرشح أيمن نور تحديدًا، محطة ثانية مثَّلت نقطة تجميع أساسية لنشطاء وشباب ليبراليين، استحدثوا طرقًا جديدة وغير معتادة في معارضة الرئيس الأسبق مبارك. كانت «حركة شباب 6 أبريل» المحطة الثالثة التي أسهم التيار الليبرالي مساهمة جوهرية في تأسيسها؛ حيث كان اثنان من مؤسسيها على الأقل نشطاء ليبراليين خارجين من حزب «الغد» (جناح أيمن نور)، ومشاركين في حملته الانتخابية([7]).

تمددت الحركة فيما بعد، وأنتجت أدبيات احتجاجية باستخدام وسائط الإعلام الاجتماعي (السوشيال الميديا)، والتشبيك اللامركزي، وهي الطرق والأدبيات التي تطورت فيما بعد لتشكل مناهج وأدبيات الحركة الاحتجاجية ليناير 2011.

تجادل جيليان شويدلر بأن بعض الجماعات أو التيارات تخفف من خطابها الراديكالي كلما تفاعلت في بيئة مفتوحة، وتعاونت مع تيارات أخرى. وهو ما يمكن تسميته «الاعتدال بالتفاعل»([8]).

أسهم تفاعل التيار الليبرالي مع الإسلاميين في تطوير الخطاب السياسي العام، والدفع باتجاه تبني مزيد من أدبيات الديمقراطية الليبرالية، والوصول إلى مزيد من التوافق حول مبادئ ديمقراطية، مثل التعددية، ودور المرأة، ومدنية الدولة… إلخ. وهو ما ظهر جليًّا في الجدل المثار حول برنامج حزب «الإخوان المسلمين» بعد الطرح الأول لهذا البرنامج في عام 2007([9])؛ حيث طور «الإخوان» طرحهم بعد الانتقادات الموجهة، وتم تبني تحديث اقترب من الموقف الليبرالي حول بعض القضايا، مثل: حقوق الأقليات، ودور المرأة، ومدنية الدولة، ودور رجال الدين.

لم يحمل التيار الليبرالي المعارض بشكل عام إرث الشك المتبادل بين التيارات الأخرى. فعلى عكس حزب «التجمع» ذي التوجه اليساري الذي كان عداؤه مع الإسلاميين أكبر من عدائه مع النظام، ظهر التيار الليبرالي المعارض منذ نشأته الثانية في الثمانينات والتسعينات، وحتى في طوره المناوئ للنظام، أكثر مرونة في تشكيل التحالفات الجبهوية مع الإسلاميين واليسار، وهو العمل الجبهوي. فكوَّن تحالفات حركية وانتخابية وسياسية، سواء على المستوى المركزي أو المحلي، لتنسيق المواقف أو لتشكيل جبهات معارضة واسعة، أو للتنسيقات الانتخابية مع معارضين من تيارات أخرى، سواء كانوا إسلاميين أو يساريين. تشاركت أحزاب ليبرالية عريقة في تحالفات انتخابية مع الإسلاميين منذ مطلع الثمانينات (تجربة «الوفد» في انتخابات 1984)، كما تم تشكيل تنسيقات وتحالفات على المستوى المحلي («تحالف القوى الوطنية من أجل التغيير» –تقوا– بمدينة الإسكندرية، في الفترة من 2008 حتى الانتخابات البرلمانية 2010)، كما استطاع التيار بالتعاون مع أحزاب إسلامية ويسارية بلورة جبهة معارضة ضد التوريث والتمديد، متمثلة في «الجمعية الوطنية للتغيير» التي أسسها محمد البرادعي بالشراكة مع الطيف السياسي المعارض. وربما كانت قدرة هذا التيار في الدخول في جبهات أو تحالفات قد خلقت حلقة وصل كانت مفقودة بين أطياف المعارضة المصرية. كان هذا العمل الجبهوي إيذانًا بتشكل تحالف الثمانية عشر يومًا، وهو التحالف الذي قاد انتفاضة يناير في مرحلتها الأولى حتى خلع الرئيس الأسبق مبارك، كما كان قادرًا لأول مرة على تشكيل جبهة وطنية عريضة عابرة للأيديولوجيا، قادرة على حشد الشارع والإطاحة بالنظام.

كما تميز التيار الليبرالي بقدرته على التواصل والتعلم من التجارب الغربية، أو تجارب الثورات الديمقراطية في العالم، وذلك نظرًا لطبيعة التيار غير المتشككة في أدبيات الديمقراطية كمنتج إنساني عالمي. استفاد التيار الليبرالي بشكل واضح من أدبيات ما تعرف بالموجة الديمقراطية الثالثة التي انطلقت في دول أوروبا الشرقية، وأدوات النضال السلمي لإسقاط النظم الشيوعية، والتي تم وصمها من عدد من تيارات الطيف السياسي المصري بأنها مؤامرة غربية. أتاحت هذه الاستفادة أن يطور هذا التيار أدوات احتجاج سلمي قادرة على الحشد حول قضايا حقوقية، وذلك باستخدام شبكات التواصل الاجتماعي، والتشبيك القاعدي حول قضية واحدة، (قضية خالد سعيد مثلًا).

لذا يمكن أن نُجمل بأن التيار الليبرالي المعارض تميز في مرحلة ما قبل الثورة بالتالي:

  • مرونة في تشكيل التحالفات مهدت الطريق لعمل جبهوي أوسع.
  • تواصل مع أدبيات ديمقراطية من تجارب متنوعة، مما أتاح له فرص للتعلم والتشبيك.
  • المرونة الأيديولوجية التي سمحت بجذب قطاع من الشباب للعمل في تنظيمات سياسية واسعة، ولا تتطلب ولاء أيديولوجيًّا صارمًا؛ بل تحتشد حول مطالب لرفض النظام، والتبشير بنظم أكثر ديمقراطية وتنوع، دون الدخول في الجدل العقائدي حول طبيعتها الاقتصادية أو توجهاتها العقائدية («حركة شباب 6 أبريل» مثلًا)، غير أن تلك المرونة الأيديولوجية انعكست فيما بعد على البنى التنظيمية للتيار الليبرالي، وأفقدته جزءًا كبيرًا من فاعليته، بعد قيام انتفاضة يناير، كما سنوضح لاحقًا.

 

– التيار الليبرالي في الثورة:

تشكلت جبهة معارضة قوية ضد مبارك، ولأول مرة استطاعت هذه المعارضة أن تتجاوز انقساماتها البينية وتشكل تحالفًا واسعًا وفضفاضًا؛ لكنه فعال، مستخدمة قدرته على الحشد الشبكي حول قضايا محددة (مثل قضايا التعذيب، والتوريث، والانتخابات) بدلًا من الجدل الأيديولوجي، والتصادم بين الخطاب اليساري اليميني من جهة، أو العلماني الديني من جهة، وهو ما أدى لظهور تحالف الثمانية عشر يومًا، الذي قاد الثورة في مرحلتها الأولى لتحقيق انتصارها الأكبر بالإطاحة بالرئيس الأسبق مبارك. ساهمت كيانات احتجاجية يغلب عليها الطابع الليبرالي في تنسيق الحالة الثورية، مما أنتج مطالب يغلب عليها الطابع الإصلاحي الليبرالي، الراغب في خلق نظام تعددي وتنافسي، وإنهاء المظاهر البوليسية للحكم([10]).

غير أن الانتفاضة والعمل السياسي في ظل نظام أكثر انفتاحًا قد كشف عن أزمات بنيوية وسياسية في التيار الليبرالي المصري، منها:

1- فقدان القيادة:

عانى التيار الليبرالي من أزمة قيادة حادة بعد الثورة؛ حيث عجز حزب «الوفد» عن تقديم قيادة تجمع التيار الليبرالي، وذلك لفقدان الحزب حيويته بعد انصراف قطاعات كبيرة من القيادات الوسيطة والشابة عنه، وعجزه عن الخروج من متلازمة الحزب التاريخي الذي يعيش على إرث الماضي. كما عانى حزب «الغد» (جناح أيمن نور) من أزمة ثقة حادة بين التيارات السياسية تجاه شخص زعيمه ومؤسسه أيمن نور، الذي لم تحظَ مبادرته لتوحيد القوى الليبرالية، تحت شعار «ائتلاف الغد المدني الحر»([11]) باهتمام القوى السياسية، وفشل نور في تسويق صورته كزعيم لذلك التيار، بعد الأداء المتراجع لحزبه، والمشكلات الداخلية التي عصفت به. وفشل عمرو حمزاوي في إنتاج صورة القائد السياسي. وعجزت التيارات الاحتجاجية الشابة على إفراز قيادات شارع وقيادات تنظيمية. تم تقديم محمد البرادعي على أنه قائد للتيار الليبرالي المصري. ورغم نجاح البرادعي في إحداث زخم كبير بتأسيس حزب «الدستور»، وامتلاكه ما يمكن أن نسميه جاذبية الوظيفة الدولية، وشغله لمنصب مرموق كموظف أممي بارز، كانت قيادة البرادعي بمثابة فخ التيار. فالرجل الحائز على جائزة «نوبل» افتقد مهارات التواصل اللازمة لتجميع التيار، ولحشد الأنصار، وللتواصل مع الشارع. لم يملك البرادعي الخبرات اللازمة لعمل حملات طرق أبواب، ولم يملك قدرات كافية لمخاطبة الجماهير، وانحصر خطابه وأثره في التأثير النخبوي لا الجماهيري بمعناه الشامل. كما فشلت مبادرة الرجل في تأسيس حزب «الثورة»؛ حيث تحول الحزب إلى منصة تجميع لأطياف سياسية غير متجانسة، وغير قادرة على العمل التنظيمي ولا صياغة رسائل سياسية محددة. بالإضافة لتردده الدائم في خوض التنافس الانتخابي، وعدم قدرته على التعامل مع الصدمات والحملات المضادة التي أدارها ضده خصومه السياسيون (أغلبهم من الإسلاميين، أو من القلب الصلب لدولة يوليو المتمثل في الحكام العسكريين وحلفائهم).

تجلت أزمة القيادة داخل التيار الليبرالي في انتخابات الرئاسة، فبعد انسحاب البرادعي من السباق الرئاسي، عجز التيار عن تقديم أي مرشح لهذه الانتخابات، وانحصرت المنافسة بين أنصار دولة يوليو وأبنائها، والإسلاميين، والقوميين الناصريين.

  • التشظي التنظيمي:

بنهاية المرحلة الأولى للثورة، والنجاح في الإطاحة برأس النظام، عجزت الانتفاضة عن الانتقال من مرحلة الاحتجاج إلى مرحلة التنظيم. انقسمت خريطة الأحزاب والتنظيمات الليبرالية بين أحزاب ليبرالية تقليدية، مثل «الوفد»، وأحزاب ليبرالية مستمرة لخدمة مشروع سياسي شخصي، مثل «الغد» (جناح أيمن نور)، وأحزاب ليبرالية ذات علاقة مع أجنحة داخل النظام، مثل حزب «الجبهة» الذي أسسه أسامة الغزالي حرب، أحد أبرز وجوه الليبراليين في «مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية» والعضو السابق في «لجنة سياسات الحزب الوطني»، والمجموعة المقربة من جمال مبارك، وأحزاب ليبرالية جديدة، مثل حزب «العدل»، وأحزاب التفت حول قيادات، مثل حزب «الدستور» الذي التف حول قيادة محمد البرادعي، الموظف الأممي ورئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأسبق، وحزب «مصر الحرية» الذي أنشأه عمرو حمزاوي، الباحث والأكاديمي الذي حظي بشعبية مقبولة جعلته يفوز بانتخابات فردية في أول انتخابات بعد الثورة، غير أن حزبه لم يحظَ بالشعبية نفسها. وكذلك حزب «المصريين الأحرار» الذي قدم نفسه على أنه حزب ليبرالي، إلا أن أولوية خطابه كانت محاربة الإسلاميين، وتسبب ذلك الخطاب، بالإضافة إلى توجهات مؤسسه وداعمه الأول، نجيب ساويرس، إلى استقطاب دعم كبير من الناخبين المسيحيين، ما جعله يُنظر له على أنه «حزب للأقباط»([12])، أكثر منه حزب ليبرالي. وأحزاب لها حضور إقليمي تلتف حول نواب سابقين (مثل «الإصلاح والتنمية»). أدى هذا التشظي إلى عجز التيار على تحقيق اختراقات انتخابية كبيرة في أول انتخابات للبرلمان المصري («مجلس الشعب» آنذاك) بعد الثورة؛ حيث تم تقدير هذه النسبة بـ16.31%([13]).

كما عجزت الحركات الشبابية ذات الميل الليبرالي (مثل «حركة شباب 6 أبريل») عن أن تتحول من حركات احتجاجية إلى أحزاب تنظيمية، نظرًا لاختلاف المهارات اللازمة في الحالتين.

بشكل عام، غابت المهارات التنظيمية السياسية عن أغلب الأحزاب الليبرالية المصرية بعد الثورة، وهي ظاهرة مصاحبة للتحولات الديمقراطية، فغالبًا تجرف النظم الاستبدادية المهارات السياسية اللازمة لنشأة التنظيمات السياسية لما تشكله من خطر عليها، لذا، فإن عمليات التحول الديمقراطي بعد الثورات تعاني من اختلالات تنظيمية كبيرة في تكوين الأحزاب السياسية، وتحويل الطبيعة المركزية الاستبدادية للمؤسسات إلى مؤسسات أكثر انفتاحًا وديمقراطية. وهو ما ذهب له فوكوياما، من أن الانتقال الديمقراطي له ثلاث مراحل:

(1) التعبئة الأولية للإطاحة بالنظام القديم، (2) إجراء انتخابات حرة، و(3) القدرة على تقديم الخدمات العامة. في حين أن المرحلة الأولى تنجح في كثير من الأحيان، فإن المرحلتين الثانية والثالثة يصعب إدراكهما بسبب قلة الخبرة في تنظيم الأحزاب السياسية([14]).

3- ارتباك الخطاب الأيديولوجي:

عانى التيار الليبرالي من عدم وضوح أيديولوجي بشكل كبير، وبرغم أن عدم الوضوح قد جذب إليه شرائح مختلفة في فترة العمل الاحتجاجي ضد مبارك، فإن ذلك الارتباك أو الغموض الأيديولوجي قد خلق مزيدًا من الأزمات للتيار الليبرالي أثناء فترة ما بعد الثورة ومحاولة التنظيم. ويمثل حزب «الدستور» الذي تم تأسيسه بآمال عريضة لتجميع التيار، نموذجًا لهذا الارتباك الأيديولوجي؛ حيث ظهر الحزب للنور بمبادرة من مؤسسه محمد البرادعي لتجميع قوى الثورة، الأمر الذي أدى إلى جذب عناصر متنافرة أيديولوجيًّا لم تكن قادرة على العمل المشترك. عصف التصدع الأيديولوجي والضعف التنظيمي والصراعات الداخلية بين أجنحة الحزب بمشروع الحزب الليبرالي الكبير، وأدخل الحزب في مشكلات داخلية قوضت من قدرته على التأثير([15]).

 

ساهم هذا الارتباك في اختطاف التيار من قبل أحزاب وجماعات دولتية، قدمت نفسها تحت راية الليبرالية، فنشأت أحزاب مؤيدة للسلطة بالتعاون مع معارضين ليبراليين، مثل نموذج حزب «المؤتمر» الذي نشأ بالتعاون مع المعارض الليبرالي أيمن نور([16])، أو سيطرة عناصر أوتوقراطية على أحزاب ليبرالية عريقة، مثل تجربة حزب «الوفد».

 

قدمت هذه العناصر خطابًا مؤيدًا للدولة في خططها لتصفية العمل السياسي بشكل عام، وفي العصف بالحريات السياسية بالكلية. وهو ما أدخل التيار في أزمة بنيوية كبيرة، فمن ناحية أسهم العصف بحالة الحريات السياسية في تقويض الأحزاب كلها، بما فيها الليبرالية. ومن ناحية أخرى أحدث ذلك تصدعًا في رؤية التيار الليبرالي لنفسه كتيار مدافع عن الحقوق الفردية والحريات العامة، مما خلق تناقضًا يمكن أن نطلق عليه «الليبرالية السلطوية»، والتي تعني تيارًا يعلن إيمانه بالليبرالية كفلسفة عليا؛ لكنه في الوقت نفسه يدعم إجراءات سلطوية من شأنها أن تقضي على أي تطور للتيار الليبرالي.

 

– الصدمة والرعب.. الاستثمار في الاستقطاب

كانت حالة الاستقطاب إحدى أهم أزمات الحالة المصرية التي أدت إلى العصف بالانتفاضة نفسها، وقد تأثر التيار الليبرالي بهذه الأزمة؛ بل كان في كثير من المناسبات الطرف الثاني في الحالة الاستقطابية.

بشكل عام، فإن الجيوش ذات الطبيعة المؤسسية المنضبطة نسبيًّا، والتي تقوم على التجنيد العام، والقيادة الاحترافية الهرمية، لا تقمع عادة الانتفاضات الشعبية حتى لا تسبب انشقاقًا في صفوفها. قدم ديريك لوتربيك تفسيرًا لرد فعل الجيوش الإيجابي على «الانتفاضة المؤيدة للإصلاحات»([17])، وأشار إلى أن هناك عاملين يفسران هذه الاستجابات الإيجابية: الأول هو مأسسة الجيش (أي درجة انضباطها المؤسسي وبنائها الهرمي) والثاني هو صلات المؤسسة العسكرية بمجتمعهم بشكل عام، وليس بشكل طائفي، فكلما كان المجندون والضباط ينتمون إلى طوائف المجتمع المختلفة كان ذلك دافعًا للجيوش إلى عدم التعامل بعدوانية مع الانتفاضات الشعبية. ويمكن إضافة عامل آخر، وهو المصالح العسكرية التي تظهر على المحك. لذا، إذا كانت المطالب الأساسية للانتفاضة تتحدى المصالح العسكرية، ففي الغالب تلجأ الجيوش إلى التحالف مع قطاعات أكثر محافظة، وخلق حالة استقطابية لمواجهة الانتفاضة الشعبية، أو تقوم بتقديم تنازلات شكلية لحين الالتفاف على المطالب الأساسية.

واجه الجيش المصري انتفاضة شعبية كبيرة بجبهة معارضة موحدة تمامًا، تتكون من مجموعات علمانية ليبرالية، وتيارات يسارية وقومية وإسلامية. وهنا كان على النظام ذي القالب العسكري أن يفكك التحالف بين الجبهة الثورية المنتشية بانتصاراتها.

أدى الصراع حول الدستور، وحول هوية الدولة وطموحات السلطة، إلى انهيار تحالف الثمانية عشر يومًا. كما أدت المطالبات بتطبيق الشريعة، وغموض الخطاب الإسلامي حول مدي هذا التطبيق، إلى فزع ليبرالي من خَمْيَنة الحالة المصرية (أي أن تكون مثل الثورة الإيرانية وتجربة الخميني). ساهم الإسلاميون والليبراليون في تأزيم الموقف، فمن ناحية أظهرت القوى الإسلامية المنتشية بانتصاراتها في استفتاء 19 مارس (آذار) خطابًا إقصائيًّا ضد العلمانيين. كما تصاعد خوف الليبراليين بعد رفض الإسلاميين بشكل واضح مناقشة فكرة الحقوق الطبيعية (الحقوق فوق الدستورية) التي كان التيار الليبرالي يهدف من خلالها لحماية الحقوق الفردية من اعتداءات الأغلبية، في حين رأتها القوى الإسلامية افتئاتًا على إرادة المصريين، وعلى هوية مصر الإٍسلامية([18])، مما أوحى بنية مبيتة لدى الإسلاميين بعدم احترام الحقوق الفردية ومصادرتها لصالح حكم الشريعة. كما لعبت أزمة الإعلان الدستوري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 دورًا كبيرًا في تزكية حالة الاستقطاب، وكان هذا الإعلان بمثابة نقطة البداية التي تحالفت فيها القوى الليبرالية مع القوى الموالية للنظام، وهو التحالف الذي سيرسم مسارات 30 يونيو 2013 فيما بعد. فرغم أن الإعلان الدستوري كان موجهًا في جزء منه إلى تقويض مراكز قوى محصنة من بقايا نظام مبارك، مثل إقالة النائب العام، وإعادة محاكمة المتورطين في قتل المتظاهرين، فإن عجز الإسلاميين عن تسويقه، وعجزهم عن تشكيل تحالف عريض يضم الليبراليين واليساريين ضد فلول نظام مبارك، ومحاولة تحصين الجمعية التأسيسية للدستور من الطعن القضائي، وتحصين قرارات رئيس الجمهورية، جعل الإعلان يبدو بمثابة خطوة لتركيز السلطة، بهدف الإطاحة بكل الخصوم من غير الإسلاميين، مما جعل التيار الليبرالي يتبنى مطالب «الدولتيين» للدفاع عن النائب العام، ومراكز قوى عصر مبارك. كما أظهر الحشد في نوفمبر 2012 فيما عُرف بجمعة «الشريعة والشرعية» تكتل القوى الإسلامية بهدف نهائي، وهو الوصول لدولة الشريعة. الأمر الذي أضفى مزيدًا من المخاوف لدى الليبراليين.

كانت معركة الدستور إحدى أهم معارك الاستقطاب. ومثَّل بعض مواد الدستور فزاعات جديدة للقوى الليبرالية، مثل المادة 4 التي منحت دورًا للأزهر كسلطة دينية لها الحق في مراجعة التشريعات وإبداء الرأي فيها. والمادة 219 التي كانت بمثابة مادة لتفصيل المادة الثانية التي تعد الشريعة المصدر الأساسي للتشريع. وهي مواد تم تفسيرها من قبل القوى الليبرالية واليسارية المتحالفة معها في معركة الدستور، على أنها محاولة من الإسلاميين لاختطاف الحكم، وفرض أجندة تحد من الحريات الفردية، وتفرض بالقوة حكمًا دينيًّا([19]).

أظهرت القوى الليبرالية تحت تأثير الفزع وعدم اليقين عدم مرونة في التفاوض مع الإسلاميين؛ حيث تم الانسحاب من الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور، ورفضت دعوات الحوار التي قدمها الرئيس مرسي، في الوقت الذي رحبت بدعوات حوار من وزارة الدفاع، في إشارة لا تخطئها العين لتحول التحالفات.

تحالف الليبراليون مع أنصار دولة يوليو (الدولتيون من داخل النظام وخارجه) لإسقاط محمد مرسي وحكم «الإخوان». وفي هذا السياق يجادل جون جوديس:

«ربما يكون الجيش وأنصار الديكتاتور السابق حسني مبارك قد تسببوا في نقص الوقود الذي ساعد في إسقاط مرسي، وأبقى الشرطة المصرية بعيدة عن الشوارع خلال فترات الفوضى. بالإضافة إلى ذلك، ساعد أعضاء بارزون في مؤسسة الدولة، متحالفون مع الجيش وكانوا مقربين سابقًا من مبارك، في تمويل (تمرد) المنظمة الليبرالية التي تقف وراء احتجاجات الشوارع التي تطالب بالإطاحة بمرسي. يشير هذا بالتأكيد إلى أن الجيش وأصدقاء الديكتاتور السابق قد تلاعبوا بالاحتجاجات الليبرالية»([20]).

قوبل هذا الموقف بتصلب مضاد من الكتلة الإسلامية ضد القوى العلمانية، لخلق استقطاب علماني- إسلامي، أدى للعصف تمامًا بأي محاولة للتقارب. تعزز هذا الاستقطاب بالمواجهات الدموية بين الأطراف حول قصر الاتحادية، وحول «مكتب الإرشاد»، ومقار حزب «الحرية والعدالة». هنا أعاد العسكريون لعبة تغيير بوصلة التحالفات بالتحالف مع الليبراليين ضد الإسلاميين. كان تحالف الليبراليين مع العسكريين للتخلص من شبح خَمْيَنة الدولة المصرية، مقاربة تهدف إلى اختيار أقل الضررين، وفقًا لتصورات التيار الليبرالي آنذاك.

فوفقًا لألفريد ستيبان، قد يتحالف عديد من الشرائح الاجتماعية مع الجيش ذي الطابع الأوتوقراطي، خوفًا من خصم سياسي منتخب. دعا ستيبان هذا النوع من التحالف بين الجيش والشرائح الاجتماعية غير الراضية لإزالة حكومة منتخبة «لحظات بروميرية»([21])، في إشارة إلى مقال ماركس: «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت». لشرح سبب دعم البرجوازية الفرنسية للاستبداد العسكري عام 1851. في حالة مصر، فإن خوف النخب الليبرالية، وعديد من شرائح الطبقة الوسطى والأقليات الدينية (خصوصًا الأقباط المسيحيين) مما تسمى «أسلمة» المجتمع، مهد الطريق للجيش لإيجاد حلفاء جدد بين خصومه السابقين من الحركات السياسية الليبرالية والعلمانية([22]).

 

– تراجع الخطاب الليبرالي وعسكرة السياسة:

مدفوعين بخوف وفزع رآه البعض مبالغًا فيه، واعتبره آخرون مشروعًا، أسس الليبراليون مع الجيش ما يمكن أن نسميه تحالف «أقل الشرين»، للتخلص مما ظنوه الخطر الأكبر، وهو محاولة التيار الإسلامي فرض أجندة تهدف إلى تأسيس دولة دينية تعصف بالحقوق الفردية في الاعتقاد والحريات الشخصية بصفة عامة. وهو ما عبر عنه خالد داود، أحد قيادات «جبهة الإنقاذ» (تحالف علماني واسع كان يهدف للإطاحة بمرسي، ونسَّق مواقفه مع القوات المسلحة): «لا أشعر بأي ندم على عزل مرسي؛ لأن (الإخوان المسلمين) كانوا يشكلون تهديدًا كبيرًا على مستقبل هذا البلد… لقد خانوا كل مبدأ من مبادئ الثورة المصرية»([23]). غير أن تناقضًا أساسيًّا ظهر في موقف الليبراليين بعد دعم انقلاب عسكري في مواجهة رئيس مدني منتخب، وهو التناقض الذي عبر عنه محمد البرادعي بعد إجراءات يوليو، بقوله: «لقد كان قرارًا مؤلمًا… كان خارج الإطار القانوني؛ لكن لم يكن لدينا خيار آخر»([24]).

وقع التيار الليبرالي في فخ استدعاء القوة الصلبة للدولة للتخلص من خصم سياسي، مما فتح شهية هذه القوة الصلبة نفسها للتخلص من الجميع. فالعصف العنيف بفاعل سياسي كبير غالبًا ما يصاحبه عصف بالمجال السياسي كله.

استخدم الجيش حلفاءه الجدد من القوى الليبرالية واليسارية معبرًا ما بين الحالة الثورية والعودة إلى إرث دولة يوليو ذات الخلفية العسكرية والطابع الأوتوقراطي الدولتي. فتم تعيين محمد البرادعي نائبًا لرئيس الجمهورية، وحازم الببلاوي رئيسًا للوزراء، بالإضافة لوزراء آخرين محسوبين على القوى العلمانية بشكل عام، والليبرالية بشكل خاص. سرعان ما انهار التحالف، بعدما فقدت القوى الليبرالية القدرة على الحشد، وتراجع الزخم الاحتجاجي في الشارع بعد استخدام تكتيكات عنيفة من قبل الدولة لتجفيف الحالة الثورية. كما أن ارتفاع شعبية المؤسسة العسكرية في ظل ارتفاع ملحوظ في يوفوريا قومية شيفونية، والعودة إلى نمط عبادة الشخصية ((cult of personality حول شخص وزير الدفاع وقتها، والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، الذي خلق شرعيته من صورة إعلامية تم الإلحاح عليها كبطل قومي واجه مؤامرات تهدف للإطاحة بـ«الدولة المصرية» من «قوى الشر»، قد منح أجهزة الدولة الفرصة الذهبية لإعادة الأمور إلى الحالة الأوتوقراطية بأقل تكلفة ممكنة. كما أسهم الخطاب الإعلامي للدولة في عسكرة المجال العام، باستخدام مفردات الحرب، من خلال التأكيد على ما تعرف بـ«حروب الجيل الرابع». وهي الحروب المتخيلة التي يتم تصوير فيها خصوم النظام السياسيين كعناصر معادية، وذلك لشرعنة استهدافهم بشكل عنيف من دون رفض شعبي يُذكر لانتهاك حقوقهم. كما وظفت الدولة الحملة الأمنية على الإرهاب، أو ما يعرف بـ«الحرب ضد الإرهاب» في تعميم تهمة الإرهاب، واستخدامها لتصفية معارضين آخرين.

بناءً على ما تقدم، تراجع الخطاب الليبرالي الحقوقي بشكل كبير، وتم استبدال خطابات شيفونية وقومية به، مع تمجيد منظم للعسكريين وأجهزة الدولة، وشيطنة ممنهجة للقوى السياسية والكيانات الحزبية. تراجع عديد من الليبراليين عن الدعم غير المشروط لإجراءات يوليو 2013، وهو ما تجلى بعد تصفية الدولة لاعتصامَي «رابعة» و«النهضة»، واستقالة البرادعي، وإدانة عدد من المحسوبين على التيار الليبرالي الاستخدام المفرط للقوة في فض الاعتصامين. وهو ما عبر عنه عمرو حمزاوي في رفضه لسيطرة العسكريين على السلطة والتكتيكات العنيفة المصاحبة لهذه السيطرة، بوصفه بـ«الفاشية تحت التظاهر الزائف بالديمقراطية والليبرالية»([25]). كما تنامت معارضة ليبرالية قليلة غير متكافئة مع قوة الدولة، وهو ما قابلته الدولة بتوجيه آلة القمع (بدرجة أقل نسبيًّا بالمقارنة بالقمع الموجه للإسلاميين) لأحزاب ليبرالية، باعتقال نشطائها، أو بمنعها من ممارسة أنشطتها([26])، وتبنت أحزاب ليبرالية أخرى مقاربة التماهي الكامل مع رؤية الدولة، مثل حزبَي «الوفد»، و«المصريين الأحرار». وتبنت أحزاب أخرى مقاربة تهدف إلى معارضة محدودة من داخل خطوط حمراء كبيرة، مثل الحزب «المصري الديمقراطي الاجتماعي» الذي يشارك بعض أعضائه في مجلس النواب تحت لافتة تنسيقية «شباب الأحزاب والسياسيين»، وهو كيان تم إنشاؤه تحت إشراف أجهزة أمنية تحدد خطوط المعارضة الحمراء. غير أن المحصلة النهائية كانت تراجع الخطاب الليبرالي بشكل عام، وتراجع الثقة في قياداته (إن وُجدت) بعدما تم فرض حالة صمت إجباري ألقت بظلالها على المجال السياسي كله، وفرضت خطابًا أكثر راديكالية، تراجع معه الخطاب الليبرالي.

 

 

 

– استنتاج

بشكل عام يتراجع الخطاب الليبرالي إذا ما انتشر خطاب اليمين الشيفوني القومي، وهو الخطاب الذي يركز على الوحدة الفاشية في مواجهة أعداء متخيلين أو حقيقيين، في ظل ارتفاع خطاب العسكرة الذي يمجد العسكريين كمنقذين للبلاد، وأيضًا تحت تأثير حالة الاستقطاب والصدامات الدموية، وتردي الحالة الاقتصادية التي تجعل المعارضة العلمانية تميل إلى تبني مواقف أكثر ميلًا لليسار الاشتراكي، أو حتى الشيوعي منها إلى الليبرالية. وهو ما تحقق بعد يوليو 2013.

لذا يمكن الزعم بأن التيار الليبرالي المصري قد فقد جزءًا كبيرًا من زخمه ورصيده الذي صنعه في العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين؛ حيث لعب التيار الليبرالي دورًا كبيرًا في تجميع جبهة معارضة ضد حكم الرئيس الأوتوقراطي حسني مبارك، كما لعبت الحركات الاحتجاجية ذات الميل الليبرالي دورًا في خلق تكتيكات احتجاج جديدة، تعتمد على التشبيك المرن حول قضايا كبيرة، مستخدمة شبكات الاتصال الاجتماعي، وهو ما هيأ بيئة الاحتجاج التي أدت ليناير 2011.

ورغم نجاح التيار الليبرالي في المساهمة في خلق بيئة احتجاجية مواتية للإطاحة برأس النظام، فإنه عانى أزمات بنيوية، متمثلة في أزمة القيادة، والتشظي التنظيمي، والغموض الأيديولوجي. كما قوض الاستقطاب المصحوب بمخاوف كبيرة من التحول إلى دولة دينية التجربة برمتها. كلها عوامل أدت إلى تقويض الخطاب الليبرالي. كما أسهم التحالف مع «الدولتيين»؛ سواء من العسكريين أو المدنيين، بهدف الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، في خلق أزمة أخلاقية وسياسية عصفت بمصداقية التيار الليبرالي؛ حيث وقع التيار ضحية اختياراته بعدما استدعى القوة الصلبة للدولة للإطاحة بخصم سياسي وفاعل سياسي كبير، الأمر الذي أدى إلى الإطاحة بالمجال السياسي كله، على أثر العودة الخشنة إلى إرث دولة يوليو ذات الخلفية العسكرية.

حاول عدد من الأحزاب الليبرالية التكيف مع الضغوط الجديدة؛ إلا أنها مع بقية القوى السياسية المعارضة، افتقدت القدرة على الحركة والتفاعل تحت وطأة آلة أمنية تنتهج سياسة «صفر تسامح» مع كل القوى المعارضة. كما أدى غلق المجال العام إلى تفاقم أزمات ضعف القيادة والتنظيم التي تزيد بشكل أكبر تحت الحكم الاستبدادي.

حاولت بعض الأحزاب الليبرالية تبني مقاربة المعارضة من داخل الخطوط الحمراء التي رسمتها الدولة، غير أنها تجربة قد تؤدي إلى التدمير الذاتي؛ حيث تتحول الأحزاب لمؤسسات تبرير سياسي أكثر منها أحزاب تمثل مصالح قواعدها. وهو ما حدث بالفعل في تبني كثير من تلك الأحزاب خطابًا لتبرير سياسات النظام، لا الدفاع عن قواعدها.

لم يكن أداء الليبراليين على قدر التوقعات في محاولة الإسهام في تطوير الديمقراطية المصرية بعد انتفاضة يناير، فبالاشتراك مع القوى الإسلامية، شاركت القوى الليبرالية في تزكية حالة الاستقطاب الذي قضى بدوره على أي فرص للتحول الديمقراطي الذي يقوم في أساسه على قبول التنوع وتقديم التنازلات المشتركة، كما منح فرصة للقوى الأوتوقراطية المعادية للتحول في استغلال الخلاف للقضاء على التجربة بأكملها، من خلال التلاعب بالأطراف بتغيير بوصلة التحالف التي قام بها الجيش في الفترة ما بين 2011 إلى 2014، والتي انتهت في النهاية بالتخلص من الجميع، وظهور الجيش والقوى الأوتوقراطية المحيطة به كفائز وحيد.

وعليه، يرتبط تطور التيار الليبرالي في المستقبل بقدرته على التشارك مع تيارات أخرى في فتح المجال السياسي المغلق بقوة السلاح، وبقوة العنف المنظم، من دولة يوليو التي أعادت بناء نفسها على أنقاض الصراعات البينية بين شركاء الثمانية عشر يومًا.

 

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

*****

([1]) McLean, I., & McMillan, A. (2009). In The concise oxford dictionary of politics. essay, Oxford University Press. p40

([2]) Encyclopedia Britannica, inc. (n.d.). Liberalism. Encyclopedia Britannica. Retrieved June 21, 2022, from link

(3) قنصوة ياسر. (2007). الليبرالية 9th ed., Ser.) الموسوعة السياسية للشباب). نهضة مصر. ص8.

([4]) Hamid, S. (2016, July 29). خطأ الليبراليين في مصر. Brookings. Retrieved June 21, 2022, from link

(1) راجع كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير:

Fukuyama, F. (1992). The end of history and the last man. Penguin.

([6]) Huntington, S. P. (1993). The Third Wave: Democratization in the late twentieth century. University of Oklahoma.

(1) حركة شباب 6 أبريل.

Carnegie Middle East Center. (2010, September 22). Retrieved June 1, 2022, from link

([8]) SCHWEDLER, J. (2011). CAN ISLAMISTS BECOME MODERATES? Rethinking the Inclusion-Moderation Hypothesis. World Politics, 63(2), 347–376. link

([9]) Swissinfo.ch. (2017, October 28). نقاط محصورة” في برنامج جماعة “محظورة”! SWI swissinfo.ch. Retrieved June 15, 2022, from link

(1) عمرو حمزاوي.

(2011, February 4). من ميدان التحرير. Carnegie Middle East Center. Retrieved June 21, 2022, from link

(2) أيمن نور يطلق مبادرة حزب جديد للقوى المدنية. اليوم السابع.

(2011, March 27). Retrieved June 22, 2022, from link

([12]) BBC. (2011, June 23). خريطة الأحزاب السياسية في مصر بعد الثورة. BBC News عربي. Retrieved June 21, 2022, from link

(2) تم الوصول لهذه النسبة بإضافة كتل أحزاب: «الوفد»، و«المصري الديمقراطي الاجتماعي»، و«المصريين الأحرار»، و«الإصلاح والتنمية»، و«غد الثورة»، و«العدل»، و«مصر الحرية»، في النتيجة المعلنة من مصدر مؤرشف لجريدة «الأهرام»: رابط

([14]) Fukuyama, F. (2014). Political order and political decay: From the industrial revolution to the

globalisation of democracy. New York: Farrar, Strauss, and Giroux. As cited in: Strachan, A. L. (2017, November 29). Factors affecting success or failure of political transitions – gov.uk. Retrieved June 21, 2022, from link p5

([15]) (www.dw.com), D. W. (2013, May 2). الصراعات الداخلية في حزب الدستور تهدد مستقبل الليبراليين: DW: 02.05.2013. DW.COM. Retrieved June 22, 2022, from link

(3) عمرو موسى يعلن تأسيس حزب «المؤتمر» بانضمام 20 حزبًا مدنيًّا… أيمن نور متحدثًا رسميًّا للحزب… ويدعو صباحي والبرادعي للتوحد… وأسامة الغزالي: الهدف من الاندماج الإسهام في بلورة النظام السياسي المصري. اليوم السابع،

(2012, September 17). Retrieved June 22, 2022, from link

([17]) Lutterbeck, D. (2011). Arab Uprisings and Armed Forces. Ubiquity Press. p44.

(1) القاهرة، د. حسن أبوطالب-. (2011, September 5). “وثيقة فوق الدستور” تشعل الاستقطاب السياسي في مصر. SWI swissinfo.ch. Retrieved June 23, 2022, from link

(2) مصر 2012 دستور. Constitute. (n.d.). Retrieved June 23, 2022, from link

[20] Judis, J. (2013, July 16). Egypt’s Liberals are in denial. Carnegie Endowment for International Peace. Retrieved June 23, 2022, from link

[21]  Alfred Stepan, “Rethinking Military Politics: Brazil and the Southern Cone”, Princeton: Princeton University Press, 1988. PP 10-11

[22] , El-Sherif, Ashraf. “THE EGYPTIAN MUSLIM BROTHERHOOD’S FAILURES.” The Carnegie Endowment. July

  1. Accessed June 23, 2022. https://carnegieendowment.org/files/muslim_brotherhood_failures.pdf.

([23]) Kouddous, S. A. (2015, June 29). What happened to Egypt’s liberals after the coup? The Nation. Retrieved June 23, 2022, from link

([24]) Hamid, S. (2013, August 12). Egypt’s liberal guilt. Time. Retrieved June 23, 2022, from link

([25]) Kirkpatrick, D. D. (2013, July 15). Egyptian liberals embrace the military, Brooking no dissent. The New York Times. Retrieved June 23, 2022, from link

(2) انظر:

BBC. (2013, November 27). مصر: أعضاء بلجنة الدستور يجمدون عضويتهم احتجاجا على اعتقال رافضين لقانون التظاهر. BBC News عربي. Retrieved June 23, 2022, from link

فرانس 24 / France 24. (2019, February 23). “حزب الدستور” المصري المعارض يندد بتعرّضه “لحملة تضييق واعتقال” – فرانس 24. فرانس 24 / France 24. Retrieved June 23, 2022, from link

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى