مقالات وآراء

مجتمع السياسات: حتى لا تغرق سفينة الوطن

عام 2022 لن يكون عاماً سهلاً على أغلب بلدان العالم في الجانب الاقتصادي وفي الجوانب الاجتماعية. التركيز الآن منصب على غزو روسيا لأوكرانيا والآثار المترتبة على هذه الحرب في بلدان العالم كافة، وأزمات الغذاء تتصدر التحذيرات الصادرة من المؤسسات الدولية ومن المؤسسات المحلية، ومصر ليست استثناء بين هذه الدول؛ بل قد تكون الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر أكثر هشاشة من دول أخرى عديدة. ورغم أن الحاجة إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية لزيادة تدفق العملات الأجنبية بالإضافة إلى محاولة تأمين الموارد الغذائية تبدو كأولويات لدى النظام حالياً؛ لكن الأوضاع المعيشة والحياتية تحتاج إلى إصلاحات عاجلة وسياسات أكثر فاعلية.

خلال العامين الماضيين تأثرت أوضاع المواطنين بشكل ملحوظ بسبب وباء كورونا وآثاره الاقتصادية والاجتماعية والصحية السلبية على قطاعات متعددة في المجتمع. وجاءت حرب روسيا وأوكرانيا لتزيد هذه الأوضاع سوءاً، كما ظهرت احتجاجات ماسبيرو وعمال شركة يونيفرسال هي أمثلة لمشاكل اجتماعية بدأت في الظهور للعلن رغم القبضة الأمنية غير المسبوقة، وهي دلالة على أن المشاكل والاعتراضات “المستورة” هي أكثر بكثير من تلك “المعلنة”.

ربما يكون الجانب الإيجابي الوحيد لهذه الأوضاع السيئة أنها تمثل وقتا مناسبا لإيجاد حلول؛ للتعامل بشكل أفضل مع المشاكلات الحالية. في مقال سابق ذكرتُ أن مصر في حاجة إلى تكوين “مجتمع السياسات”، وأقصد بمجتمع السياسات المجموعات التي تكون قريبة من عملية صنع السياسات العامة في مجال ما، ويكون لديها معرفة وخبرة كافية من أجل المشاركة في النقاشات حول هذه السياسات، وقد يتألف هذا المجتمع من الموظفين الحكوميين والوزراء والفنيين المختصين، لكنه يمكن أن يشمل أيضا أصحاب المصلحة -المستفيدين أو المتضررين من هذه السياسات-، والباحثين العاملين في هذا المجال، والإعلاميين المتخصصين، والمواطنين الأكثر تأثرا بهذه السياسات، ولا أقصد الباحثين المتخصصين في هذا المجال فقط؛ بل أقصد كل المهتمين بهذا المجال من قطاعات مختلفة، فهذا يعطي مساحة أوسع للمشاركة، كما يعطي فرصة للاستماع لوجهات نظر متباينة لأفراد من مواقع مختلفة، وامتزاج الأكاديمي مع المهني والمتخصص مع العام أثناء النقاشات هو الهدف من إيجاد هذه المساحة.

تحتاج مصر في الحقيقة إلى “مجتمعات” للسياسات العامة وليس مجتمع واحد، وأقصد بذلك أننا في حاجة إلى تكوين مجتمع خاص بالسياسات الاقتصادية والتنمية، ومجتمع خاص بسياسات التعليم -سواء العام أو الفني أو الجامعي-، ومجتمع خاص بالإدارة والتنمية على المستوى المحلي، وهكذا.  توجد لدي الحكومة وزارات وهيئات تعمل على هذه المواضيع؛ لكن الملاحظ أن هذه الوزارات والهيئات إما أنها لا تمتلك الكفاءة الكافية، أو لا تمتلك قدرة الوصول للموارد اللازمة. تكوين مجموعات العمل المتخصصة هذه في قطاعات سياسية محددة (الصحة/التعليم/التنمية المحلية/الطاقة.. وغيرها)

والتي تضم في أعضائها خبراء وباحثين وصانعي قرار سابقين وإعلامين مهتمين بهذا القطاع يمكن أن يُسهّل عمل لقاءات واجتماعات دورية متخصصة لمتابعة ومناقشة التطورات التي تحدث في كل قطاع. وستكون هذه الخطوة الأولى في سلسلة خطوات تالية لكنها خطوة أساسية. وجود مساحات لتبادل النقاشات والآراء حول السياسات الأنسب لمصر هي مساحة غير موجودة داخل مصر حالياُ بسبب القبضة الأمنية. وجود هذه المساحة عبر آليات التواصل الاجتماعي بحيث تضم بين جنباتها مشاركين هدفهم الأساسي فهم المشاكل الحالية ومحاولة الوصول إلى حلول لها سيكون خطوة يستفيد منها المواطن المصري المتضرر الأساسي من عدم وجود سياسات رشيدة أو تطبيقها بشكل سيء.

يمكن أن يوجد على رأس كل مجموعة منسق يعمل على تنسيق العمل بين أعضائها وإدارة الاجتماعات والفاعليات المختلفة. لكن وظيفة هذا المنسق ليس “رئاسة” المجموعة؛ بل “تنسيق” العمل بين أعضائها، فمجتمع السياسات هو مساحة لتوليد الأفكار والسياسات بين المهتمين بهذا المجال وليس المكان المناسب لاتخاذ قرارات.

وهذا فرق جوهري مهم. فالمجموعة لا تستهدف بالأساس أن تكون هيئة استشارية للحكومة المصرية والنظام الاستبدادي المصري بحيث يكون نتيجة عملها هو إطالة عمر نظام غير ديموقراطي يقمع شعبه ويعمل على تبني سياسات تساعد على إفقارهم؛ لكن العكس هو المطلوب، وهو توسيع المشاركة في صنع السياسات العامة وإظهار أن فتح مزيد من المساحات والسماح لمزيد من الآراء بالتعبير عن نفسها يمكن أن يؤدي إلى سياسات أكثر كفاءة وأكثر عدالة.

فجوهر أزمة النظام بالإضافة إلى أزمات المواطن المصري يمكن أن تُحل بالمساحات المفتوحة، والحريات، وآليات ووسائل الحكم الرشيد. بدون هذا، فإن النظام لن يكون قادراً على مواجهه هذه الأزمات بشكل جيد وسيكون المواطن هو المتضرر الأول منها. والخلاصة في هذه النقطة أنه يمكن للنظام أن يستفيد من الآراء والسياسات التي تصدر من هذه المجتمعات ويمكن أن يتبناها إن أراد، لكن المستهدف الأول لمجتمع السياسات هو المجتمع المصري بشكل عام سواء من خلال تفعيل رموزه وكوادره في المشاركة في صنع السياسات العامة، أو كمستهدف نهائي لتلقي هذه الاقتراحات وتبنيها والمطالبة بها إذا وجد أنها مناسبة.

يمكن لهذه المجموعات أن تعمل على المتابعة الدقيقة للتطورات الحالية في هذه القطاعات لفهم المسارات الحالية وتوقع المسارات المستقبلية وأثارها المتوقعة. فالمتابعة والفهم الدقيق هو أساس لفهم الواقع الحالي بشكل جيد من أجل الوصول إلى حلول واقتراحات مناسبة.  كما يمكنها أيضا العمل على بناء القدرات داخل أفراد هذه المجموعات المشاركين فيها بما يساعد على تطوير الأفكار والحلول وإنضاجها.  كما يمكن أن يساعد بناء القدرات هذا على ظهور شخصيات لديها قدرة على فهم وتقديم اقتراحات عملية لإدارة هذه القطاعات مستقبلاً.

مجتمع السياسات هو واحد من أفكار أخرى متعددة تعمل على بناء القدرة لدى الفاعليين السياسيين في مصر من أجل الوصول إلى أفكار وممارسات وخطابات وسياسات أكثر فاعلية وأكثر عدالة وقابلة للتطبيق من الناحية السياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى