مقالات وآراء

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

بين الحين والآخر تدور داخل جماعة الإخوان وخارجها أحاديثُ تتعلق بنقد الجماعة في أمور تنظيمية إجرائية، أو ممارسات سياسية واجتماعية، أو علاقات دولية وإقليمية، لكن تغيب أحيانا عن كثيرين من المؤمنين والمنتمين لفكرة الجماعة ومؤسسها الأستاذ حسن البنّا -مِمّنْ بقوا داخل التنظيم أو خرجوا-، أهمية النظر في تقييم الأفكار وصلاحيتها وقدرتها على تلبية الطموح الكبير -الذي كان داخل الإخوان يتمثل في تحقيق حكم إسلامي عظيم، أو نهضة وطنية شاملة، أو أستاذية للعالم-.

الأفكار المؤسسة هي أساس الممارسات والسلوك، وهي صاحبة الخيال المهيمن على الأنصار، خيال يرسم صورة لقوة الأفكار، وصلاحية الانتصار بها في أي زمان ومكان، وأمام أي معضلة أو مشكلة. والتوقف عن النظر في الأفكار المؤسِّسة للحركة والفعل السياسي والاجتماعي قد يؤول إلى حالة تيه أو جمود أو تكرار للأزمات، حتى لو تعددت الأشكال التنظيمية، ومهمة النظر في الأفكار المؤسّسة المُلْهمة تعلو على أهمية النظر في اللوائح والإجراءات والأشكال التنظيمية.

يحاول هذا المقال إلقاء حجر في مياه الأفكار المؤسِّسة، وأُوجّهُ هذا المقال لأولئك الذين تفاعلوا مع فكر البنّا وحركته وما زالوا، ويحترمون التفكير والبحث، ويقدرون الحوار والنقاش، ويبتغون الحق حيث كان، لا حيث الهوى والعادة. لا يرُكز المقال على طبيعة الإسلام وعلاقته بالحياة والسياسة، ولا يناقش التصورات والاجتهادات السياسية أو التنظيمية لحسن البنا، ولا يُقيّم شخصية البنا، ولكنه يناقش الفكرة الأساسية لمشروعه وما يصاحبها من خيال وتصور؛ ما زال يُلهم كثيرا من المؤيدين أو المنتقدين للجماعة، ويحتاج إلى التأمل والنظر.

 

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

أساس فكرة البنّا

أسس حسن البنا فكرته الإسلامية للتغيير الاجتماعي والسياسي على عدة ركائز:

أولا: أن الإسلام غير محصور في العبادات الروحية، ولكنه يشمل كل جوانب الحياة، فهو معنىً شامل ينتظم شؤون الحياة جميعا، ويُفتي في كل شأن منها ويضع له نظاما محكما دقيقا، ولا يقف مكتوفا أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لا بد منها لإصلاح الناس”[1].

ثانيا: هذا التدخل في كل جوانب الحياة لا يعتمد على الأهواء، ولكنه يعتمد على المعين الصافي[2] -بحسب كلام البنا- ويقصد بهذا القرآن والسنة النبوية.

ثالثا: هذه الفكرة ومعينها الصافي صالحة لإحداث تغيير اجتماعي وسياسي، وصالحة لأن تحل مشاكل الناس في أي زمان ومكان، ومع أي معضلة ومشكلة تواجههم، “فقد انتظم -يقصد الإسلام- كل شئون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان”[3].

وسمي البنّا هذا الأساس “شمولية الإسلام” ووصفها بأنها فكرة “إسلامية صميمة”[4]وهي أكثر الأفكار محورية في حديث البنّا ورسائله ولا زالت تلهم الكثيرين حتى الآن-، وجعل الإيمان بها من أهم شروط الانتماء للجماعة، فأكّد على كل عضو وجوب: “أن تفهم الإسلام كما نفهمه”[5]، وهذا الفهم الشامل للإسلام -بحسب كلام البنّا- هو الذي “أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح”[6]، وهو وحده القادر على إيقاظنا من الغفلة “فإذا فهم المسلمون هذه الغاية، وجعلوها نصب أعينهم، فإنها وحدها كفيلة أن تكشف عنهم حجب الغفلة، وتبصرهم بمواطن النقص، وترشدهم إلى صنوف من الفلاح تسعد بها حياتهم، ويصح بها مجتمعهم، وتحقق بها آمالهم”[7]، فإذا تحقق هذا الفهم والانتساب الصحيح للإسلام والربانيين، سيجد المسلمون أنفسهم ضمن من يقيمهم القرآن “أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة”[8]، وهذه الوصاية تجعلهم “جيش الخلاص الذي ينقذ البشرية ويهديها سواء السبيل”[9].

 

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

كلام عاطفي أم طريق خطواته مرسومة:

أدرك البنّا أن هذا الكلام قد يوصف بالعاطفي، ويبدو أنه سُئل كثيرا عن البرامج والخطط وطبيعة الطريق ولحظة الانتصار، ودحضا لفكرة العاطفة والعمومية أكد البنّا في عدة مواضع أن الإخوان يسيرون في طريق عملي لا عاطفي، وأن هناك برامج عملية وخطوات تنفيذية ومراحل وغير ذلك، وأكد بوضوح لجموع الإخوان في أكثر من موضع أن “طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده، ولستُ مخالفاً هذه الحدود، التي اقتنعتُ كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريقاً طويلة، ولكن ليس هناك غيرها”[10]، وكذلك أكد أنّ “طريق الإخوان المسلمين مرسومة محدودة معروفة المراحل والخطوات، ليستْ متروكة للظروف والمصادفات”[11].

 

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

إلى متى سيصبر الإخوان؟

حثّ حسن البنا أنصاره على الصبر وعدم التعجل في قطف ثمار التمكين لهذه الفكرة وهذا الدين “إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلستُ معه في ذلك بحال، وخيرٌ له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات”[12]، لكنه لم يجعل هذا الصبر بلا حدود، فدعاهم للصبر معه حتى تحين اللحظة “ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله”[13]، ولأن هناك أمدٌ محددٌ يمكن بلوغه للنصر والنجاح والتمكين فقد أعلن البنّا أنه يُقَدّر وقتا لذلك، ويمكن اختصار هذا الوقت كما قال: “إني أُقدّر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته، وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبيهم أن تُقصّروا هذا الأجل إذا بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم، وقد تُهملِون فيخطئ هذا الحساب، وتختلف النتائج المترتبة عليه”[14].

 

هناك زمنٌ للانتصار قدّره البنا، ودعا أنصاره للصبر معه حتى يبلغوا هذا القدر، بل حثّهم على مزيد من العمل حتى يمكن اختصار هذا الوقت “وفي الوقت الذي يكون فيه منكم -معشر الإخوان المسلمين- ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيا روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء. وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإني فاعل إن شاء الله”[15]، ومع هذا الاحتياج العددي لمجموعة من المؤمنين المخلصين للفكرة، المنتظمين في مجموعات -سماها البنا مجازا كتيبة-، لم ينس البنّا أن يؤكد إسلامية هذ التصور العددي: “وصدق رسول الله القائل: (ولن يُغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)”[16].

تم اغتيال البنّا، وطورد أنصاره، وحورب تنظيمه، ومرت الجماعة في مصر بنظم متعددة وانقلابات وانتفاضات ومحاولات للثورة وتقلبات سياسية، وتغيرات كبرى إقليمية ودولية، حتى بلغت الجماعة أكثر من ٩٣ عاما من تأسيسها، ولم تشهد حتى الآن نجاعة هذه الأفكار الأولى وقدرتها على تحقيق الحلم المنشود في دولة إسلامية أو نهضة كبرى وأستاذية للعالم.

 

من الطبيعي أن تُطرح الآن عدة أسئلة مهمة تتعلق بالإدارة واللوائح والإجراءات، لكن من المهم أيضا أن نطرح أسئلة تتعلق بصلب افتراضات البنا ومسلماته المرتبطة بفكرته المركزية، وأقام بها خيالا؛ رآه ممكن الحدوث -مع صبر قليل وعمل كثير-، ورغم أن الإخوان انتشروا في مختلف بقاع العالم، وأصبحت أعدادهم بالملايين، وانتمى لهم علماء وساسة وحركات وتيارات وجماعات وحكومات، لم يتحقق وَعْد البنّا وحلمه وأمله -أو وعد الله الذي تحدث عنه البنّا-، ولم تشفع فاعلية البلاغة والعبارات الرنانة وفيض الاستئناس بالقرآن والحديث، في أن تضع لنا أجوبة مهمة ونقاشا جادا يحتاج الإخوان والمنتمون لفكر البنّا أن يديروه مع أنفسهم، فهو نقاش شخصي قبل أن يكون إداريا تنظيميا، فالانتماء للجماعة كان وما زال يرتكز على اعتقادٍ ديني في فهم طبيعة الإسلام، فإذا بلغ الأمر بالفكرة هذا المبلغ فلا أقل من تمحيص هذه الفكرة باستمرار، هل هي صحيحة بقدر كاف؟ وهل فهمنا لها وتفسيرنا لها كاف؟ وهل تقلبات الواقع وتحدياته وخبراتنا التي نكتسبها كل يوم أضافت شيئا في الفهم والتفكير أم لا؟

 

تحفيز التفكير حول فكر البنّا

أين كان هذا الحل السحري في معضلة الحكم الإسلامي الأول؟

إننا الآن نعاني في بلادنا من عدة أزمات مركبة، فأزمات الاستبداد والفساد والتبعية والفقر والبطالة وتدني الخدمات وعجز الموارد وزيادة الفجوة الطبقية وتحكم القلة في مصير الناس بأي طريقة، حتى لو كانت عبر انتهاك حقوقهم أو إنهاء حياتهم أو تدمير مصالحهم، فلا كرامة لأحد يغضب عليه حاكم أو جهاز أمني وسيادي، فأمن البلاد هو أمن الحاكم.

ماذا لو حاولنا استكشاف هذا الحل الواضح الناجع المعلوم، الذي يمكنه علاج أي معضلة كانت؟ ماذا لو عُدْنا إلى أول اختبار عملي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ونتأمل مواجهة الجيل الأول -أصحاب الرسول صلى الله وسلم- لهذه المعضلة قبل أن نُقيّم نجاعة هذا الحل الآن في زماننا؟ هل كان هذا الحل الإسلامي واضحا؟ وهل كان هذا الإيمان الصافي وصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم كافيا لحل المعضلة الجديدة المتعلقة بانتقال السلطة وشرعية الحكم؟

في أول اختبار عملي عاشه الصحابة بعد وفاة الرسول، وقبل أن يُدفن صلى الله عليه وسلم -وبحسب رواية الصحابي الجليل عمر بن الخطاب في صحيح البخاري- اجتمع بعض من المهاجرين حول الصدّيق أبي بكر، واجتمع الأنصار بعيدا عنهم، وخالف الصحابيان عليّ والزبير وآخرون معهم اجتماع المهاجرين، فقال عمر إن: “الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا عليٌّ والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت يا أبا بكر، انطلِق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم”[17].

لقد نشأت معضلة جديدة، تتعلق بالحكم وخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت بين صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مدينته، ولم تكن المعضلة بسبب احتلال أجنبي، أو موجة تغريب، أو إضعاف الهوية، أو جهل أهل المدينة، أو قلة الاعتزاز بالدين والتمسك به.

والمتأمل في ما وصل لنا من حوارات السقيفة لتنصيب الخليفة، سيجد أن المتحدثين هم الجيل الأول من كبار المؤمنين المخلصين، وهم أقرب الناس للمعين الصافي الذي يستند له البنا في فكرته، ولا يمكن التشكيك فيهم وفي إيمانهم وإخلاصهم وقرب صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأخذهم عنه مباشرة بلا حجاب زمني، ورغم ذلك تحدثوا جميعا وفق آرائهم وفهمهم وتقدير كل واحد منهم، فحديث الأنصار عن فضلهم ومكانتهم وأحقيتهم بالحكم؛ أقرّ شطرّه أبو بكر الصدّيق “ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل”[18]، لكنه أشار إلى أفضلية قريش ومكانتها بين العرب “ولن يُعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا”[19]، ومن هنا ظهرت فكرة الأمراء من قريش والوزراء من الأنصار، تلك التي رفضها أحد الأنصار -قيل أنه الصحابي الجليل الحباب بن المنذر- ورد عليها “منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش”[20].

بدا الحوار -فيما يخص معضلة الخلافة والحكم- يستند إلى الأفهام والتقديرات وليس إلى حلول جاهزة معلومة وواضحة لجميع الصحابة من الجيل الأول وقُبيل دفن الرسول، واشتعل النقاش كما روى الفاروق عمر “فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرِقتُ من الاختلاف”[21]، فلما تطور الاختلاف -بحسب كلام عمر- خاف من هذا التطور وبادر مبايعا أبي بكر “ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته”[22]، صحيح أن غالب الحضور بايعوا ووقاهم الله شر فتنة خاف منها عمر وكل الحضور، لكن بقيت آراءٌ أخرى، بعضها وصفَ ذلك بخذلان سعد بن عبادة وقال قائل منهم “قتلتم سعد بن عبادة”[23]، فرد عمر عليه “قتل الله سعد بن عبادة”[24].

وسط هذه الفتنة التي خاف منها الفاروق وقال إن الله وقاهم شرها، كانت قيمة الشورى مهمة جدا وأكد عليها وهو يروي أحداث السقيفة “فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يُتابع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يُقتلا”[25]، لكن هذه الحقيقة والقيمة العليا لم تكن كافية في ذاتها لضبط نموذج الحكم والسلوك السياسي ومقاومة الاستبداد، فالذي يواجه المُعضلات ويقدّر الحلول والمصلحة -عمليا- هم الناس لا النصوص والقيم، وطبيعيٌّ أن يحدث التنوع وينشأ التباين، فالنص لا يحكم ولا يقرر بنفسه، ولكن أفهام الناس هي التي تُقدّر وتُقرّر، وكلما ارتبط الأمر بمساحات لم يحسمها الرسول صلى الله عليه وسلم -وهي كثيرة-، كانت هناك حاجة مستمرة لاجتهادات بشرية متعددة ومتغيرة تصيب وتخطيء.

إن السلطة هنا تحتاج أمورا أخرى بجانب التركيز على قيمة الشورى المجردة، فالاحتماء بها لا يعني امتلاك نظام واضح المعالم لها، والاحتماء بالنبع الصافي من الكتاب والسنة والانتماء للجيل الأول والاقتراب من الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمنع حدوث معضلة انتقال السلطة في مجتمع قبلي بسيط، لقد فسّر عمر هذا الأمر المتعلق بخوفه من اختيار الأنصار “خشينا إنْ فارقَنا القومُ -يقصد الأنصار- ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى، وإما نخالفُهم فيكون فسادا”[26]، كلام الفاروق ينبض بإشارات تتعلق بطريقة التفكير والتقدير، فهناك رغبات وتصورات لدى الأنصار وكذلك لدى المهاجرين، وخاف عمر أن يختلف تصور الأنصار عنهم ولا يُرضيهم فإما أن يباعوا من بايع الأنصار، أو يخالفوهم.

 

لا تجيبُنا فكرة البنا -الإسلامية الشاملة صاحبة النظام الواضح المحدد خطواته- عن ماذا كان الحل الواضح في هذه السقيفة؟ ولِمَ احتدمت الأصوات؟ ولِمَ خشي عمر من حدوث فتنة؟

ربما لو توقف التاريخ عند هذه النقطة لما احتجنا التفكير وطرح الأسئلة، لكن أطلّت الفتنةُ بين الصحابة بعد سنوات، لتظهر رويدا رويدا في خلافة ذي النورين عثمان بن عفان، ثم تصير فتنة كبرى بعد مقتله، فاتسعتْ رقعةُ الدولة وتغيرتْ سبلُ الإدارة، وزاد المواطنون والمسلمون، وحدثت اعتراضات وشبهات، ووسط هذه الأجواء لم يتمكن الجيل الأول من كبار الصحابة من حسم التوجهات الكبرى في هذه الفتنة بسلاسة ووضوح، فلم يَحسم الإيمان والعقيدة والقواعد الكلية -عمليا- معضلةَ الخلاف بين الصحابيين عليّ ومعاوية، ومن الأحق بالحكم؟ وما الذي يقوله الحل الإسلامي عمليا دون جدال وسيوف؟ وكيف ستُنَظّم طريقة انتقال السلطة فيما بعد؟

من الواضح أيضا أن التوصيفات السُّنية حصرت الخلافة الراشدة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وربما ألحق بعضهم عمر بن عبد العزيز، لكنهم بهذا الوصف يُقرّون أنه لا خلافة راشدة أخرى، فالخلافة الراشدة النقية الصافية المتعلقة بالحكم والشورى ذهبت ولم تعد مرة أخرى، ولا تجيبنا دعوة البنّا لِمَ لمْ ينجح الجيل الأول في حماية الخلافة الراشدة؟ أو استردادها؟

تجاوز البنّا هذه المعضلات واختار الخيال الإسلامي المثالي -الواضح القابل للتنزيل ولحل كل المشكلات في كل زمان ومكان ومع أي بقعة جغرافية حسب رأيه-، ولم يتجاوز البنّا المعضلات الإسلامية الأولى فقط، بل تجاوز كل المعضلات تقريبا المتعلقة بانتقال السلطة والحكم، فتجاوز قيام الدولة الأموية والثورة العباسية وتفسخ الخلافة، وقيام الدولة العثمانية وضعفها وسقوطها، ثُمّ تغيرتْ أمورٌ كثيرة بعد اغتيال البنّا حتى الآن، حروب ومعاهدات وسقوط حكام وصعود آخرين، وثورات وانقلابات وتدخلات وتحالفات، وفي كل ذلك تتبدل أشكال العلاقات والحكم، وتتغير أساليب الاستبداد وأثرها على الناس.

 

التوظيف اللغوي في عرض الأفكار

إننا نستخدم اللغة في بناء الأفكار والتعبير عنها وبناء منطقها بطرق إبداعية خلاقة؛ لتحقق أثرا كبيرا في النفوس والواقع، ولكل زعيم ومفكر طريقة في الخطاب والتعبير عن فكرته، صحيح أنه يُعبّر عن مضامين واضحة، لكنّه يمرر أيضا معان ضمنية أو افتراضات ومسلمات تؤثر في النفوس أحيانا بشكل أقوى من تأثير الأفكار الواضحة، إن الخطاب يرسم تصورا وخيالا عن الفكرة ومنبعها وما الذي يمكن أن تُحقِّقَه؟ وما التحديات التي تقف أمامها؟ وما المآلات المتوقعة لهذه الفكرة؟

والمدقق في رسائل البنّا سيجد معالم هذه الصورة التخيلية بوضوح، ففكرة الإخوان هي فكرة الإسلام، وأنصار الإسلام -بحقٍ- هم الربانيون، واجتهادهم يعتمد على المعين الصافي من القرآن والسنة، وهم يملكون ما يُنظّم كلَّ شيء ويحل كلَّ معضلة ويستفيد من أي فكرة، والعالم بحاجة لهم، وهم -بتمسكهم بهذا الدين- سيصبحون جاهزين للعب دور الخلاص والمنقذ؛ ليصلوا إلى أستاذية العالم، ثم أخيرا طريق التنفيذ والنجاح والتمكين لهذه الفكرة معلوم ومرسوم وواضح، لكنه يحتاج بعض الصبر، ولا بأس من الاستئناس بآيات وأحاديث تؤكد وعد النصر وقربه.

هذا الخيال الملهم لكثيرين، هو مزيج من الأفكار والتوظيف اللغوي لطريقة عرض الأفكار، ولا يعني التوظيف اللغوي وجمال التعبير أو وضوحه وبساطته أو كثافة الاستشهاد من القرآن والسنة، أنّ الافتراضات والمسلمات الكامنة فيه، لها نفس درجة الوضوح واليقين، وأنها لا تحتاج مراجعة أو نقدا وتأملا.

فلا يمكن أن ننظر لاستشهاد البنّا بحديث “ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة” أنه استشهاد قطعي علمي، بقدر ما هو استئناس يوافق فهم البنّا، لكننا في نفس الوقت لا يمكننا أن نُخفيَ تأثير هذا الاستئناس على المتلقي المتشبع بالعاطفة الإسلامية، حيث يفيض هذا الاستئناس في كل الرسائل وفي كل فكرة يطرحها البنّا، سواء تعلقت الفكرة بالإيمان القلبي، أو بالتصورات السياسية، أو الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الخطوات العملية التنفيذية.

 

استدراكات للبنّا (معنا الحل … لكن ربما):

بالوقوف عند هذه الروح الإسلامية العامة، وما تمتلكه من حلول واضحة وقطعية، وما يدعمها من شواهد وتعبيرات -بحسب البنا-، سنجد استدراكات قليلة على بعض هذه الافتراضات والوعود المرتبطة بالفكرة المركزية -رغم أنها أقل تكرارا وتذكيرا من الصور الأخرى المهيمنة-، فأمام وجود نظام شامل لكل شيء، سنجد إشارةً أخرى أقل كثافة تتحدث أن الإسلام يعرض للقواعد الكلية فقط وأنه: “جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة، وخصوصا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها”[27].

سنجد أيضا أمام الوعد المؤكد والحتمي بالنصر والتمكين إشارات أخرى -أقل تكرارا من غيرها-: “وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فستُسجنون وتُعتقلون، وتُنقلون وتُشردون، وتُصادر مصالحكم وتُعطل أعمالكم وتُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان … ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين”[28].

وكأن الخلاصة، معنا حل كل شيء لكن ربما كان في إطار قواعد كلية، وسننتصر قريبا -لو صبرنا- لكن ربما يطول الطريق.

 

خلاصة:

أفكار الأستاذ حسن البنّا المؤسِّسة ورسائله تحتاج من أنصاره قبل ناقديه كثيرا من التأمل، ليس بغرض محاسبة البنّا وكلامه الذي قاله قبل عام ١٩٤٩ لنقيمه الآن، ولكن لتمحيص ما يُلهم بعضنا الآن ويرسم له تصورا عن الحل الإسلامي الجاهز في السياسة والحكم والاقتصاد والعمل الاجتماعي، ويتحرك بهذا التصور داعيا غيره، راجيا رضا الله، وصابرا على العواقب.

فمعضلات الحياة تحتاج عقولا لا تُحبس داخل تعبيرات بلاغية وتلميحات وافتراضات غير علمية أو واقعية، فالواقع يحتاج أكفاء يعرفون الواقع والأزمات ويسعون لمواجهة الأزمات وإنتاج الحلول وتطويرها باستمرار، ويُعدّون أنفسهم -وإن طال بهم الزمان- إعداد الكفاءة والدراية، لا إعداد الظن وانتظار المعجزات.

إن الإيمان وحده لا يمنع الاستبداد، والاعتزاز بالهوية الإسلامية والمعين الصافي في القرآن والسنة غير كاف لمواجهة معضلات الواقع -التي تتعلق بسبل التغيير والنظام السياسي والاقتصادي وتقدير مصالح الناس-، سنحتاج دائما أفهاما وتصورات وكفاءات متعددة، فهل يحصر الإسلاميون أنفسهم في أطر بلاغية مغلقة، أم ينفتحون على مزيد من النقد والتفكير وتطوير الأفهام والأفكار بجانب الاهتمام بالتشكيلات والإجراءات والتنظيم؟

 

ربما يمكننا القول إن الإسلام ملهمٌ وقادرٌ على التفاعل رغم تغير الأزمان، وهو إلهام وتفاعل يقوم به الفاعلون والمهتمون، لكنه ليس نظاما جاهزا للتطبيق، وسيؤثر في هذا التفاعل قدرات وخبرات وكفاءات وأفهام وتقديرات، سيصيب منها ويخطئ، وتبقى سنة التدافع والقدرة على الإنجاز.

إن نقطة البداية أو النهاية -للإخوان أو غيرهم من الأفراد أو المجموعات- تتعلق باستعدادٍ وإرادةٍ وقرارٍ لفتح العقول أو غلقها، فتحها للتفكير والبحث خارج قيود الافتراضات غير الدقيقة، أو غلقها بالتركيز على الإجراء والتنظيم وعمليات التشغيل والتنفيذ، نعم تحتاج الأفكار للتنظيم، لكن التنظيم الذي يقرر أن ينكفأ على افتراضات ومسلمات غير دقيقة -ويكرر ما يقوله ويعرفه ويفعله دون تفكير- ربما لم يتعلم درس التاريخ، نعم قد يصبر ويحتسب -وربما يصل للحكم- لكنه سيكتشف في لحظة ما أنه كان بحاجة لتمحيص أفكاره وتطويرها وتبصير أنصاره وقادته ونخبته.

إنّ تمحيص الأفكار ليس عملا ثانويا أو مضيعة للوقت، فرب جهد عظيم هوى بفكرة، ورب فكرة أحيت أمة وأزاحت ظلما وفسادا وأسست لعالم جديد.

 

المصادر:

[1]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة دعوتنا، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص١٠٠.

[2]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المؤتمر الخامس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٦١.

[3]  المرجع السابق، ص٢٦١.

[4]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة التعاليم، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢١٣.

[5]  المرجع السابق، ص٢١٣.

[6]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المؤتمر الخامس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٦٣.

[7]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة إلى أي شيء ندعو الناس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٨.

[8]  المرجع السابق، ص٢٧.

[9]  المرجع السابق، ص٣٦.

[10]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المؤتمر الخامس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٦٧.

[11]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المنهج، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص١٩٧.

[12]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المؤتمر الخامس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٦٧.

[13]  المرجع السابق، ص٢٦٧.

[14]  المرجع السابق، ص٢٦٨.

[15]  المرجع السابق، ص٢٦٨.

[16]  المرجع السابق، ص٢٦٨.

[17]  صحيح البخاري، الراوي عبد الله بن عباس، طبعة دار ابن كثير، حديث رقم ٦٨٣٠.

[18]  المرجع السابق.

[19]  المرجع السابق.

[20]  المرجع السابق.

[21]  المرجع السابق.

[22]  المرجع السابق.

[23]  المرجع السابق.

[24]  المرجع السابق.

[25]  صحيح البخاري، الراوي عبد الله بن عباس، طبعة دار ابن كثير، حديث رقم ٦٨٣٠.

[26]  المرجع السابق.

[27]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة المؤتمر الخامس، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٢٦١.

[28]  حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام البنا – رسالة بين الأمس واليوم، طبعة البصائر محققة بإشراف جمعة أمين عبد العزيز، ص٤٠٨.

الراغبين في التغيير ومسار العلاقات المصرية التركية

صنع السياسة الخارجية المصرية بين الثابت والمتغير

رفض سياسات صندوق النقد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى