تحليلات وأبحاثسياسات

حزب «الوسط»: قراءة في البرنامج والأداء خلال عملية التحول الديمقراطي غير المكتملة

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

بقلم الباحثة: أسماء يوسف

 

ملخص

يهدف المقال إلى تقديم قراءة لأداء حزب «الوسط» خلال الفترة من فبراير 2011 إلى نهاية عام 2013، ليس بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في حالات الديمقراطيات المستقرة، نظرًا لقصر عمر الحزب وقصر عمر التجربة الديمقراطية نفسها. فكما يؤكد زيد عيادات، فإن تحليل عمليات التحول الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يجب أن ينطلق من أن هناك نموذجًا أوحد للانتقال الديمقراطي، كما أنه من الصعب قياس تجارب العالم العربي على خبرات وسط وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية؛ نظرًا لاختلافات في البنية الثقافية والاجتماعية والتاريخ السياسي. كما حذر من أن اعتماد نموذج محدد كمعيار للتحول بناءً على المفاهيم التقليدية للدولة والسلطة السياسية والتنظيم السياسي، قد يؤدي إلى تجاهل ديناميكيات الثورات العربية بشكل عام (Eyadat. 2015. P. 161).

يركز المقال على النظر في أداء الحزب في بعض المجالات، في حدود ما تفرضه عليه تجربة التحول الديمقراطي من تحديات، قد تختلف عن تلك التي تواجها الأحزاب في الديمقراطيات الراسخة، وفي حدود التجربة المصرية غير المكتملة والمتذبذبة (نأمل ذلك). لذلك سيحاول المقال إلقاء الضوء على بعض جوانب عمل الحزب التي قد تمثل تحديات تواجهها الأحزاب في المراحل المبكرة للانتقال الديمقراطي، ويمكن من خلالها فهم أداء الحزب خلال هذه الفترة، كآيديولوجيته، وعلاقته بالأحزاب الأخرى، وعلاقته بالجيش.

فكما أوضح جريج باور، هناك أربعة تحديات رئيسية تواجه الأحزاب السياسية الناشئة خلال فترات التحول الديمقراطي، وهي:

أولًا: تمايز الحزب السياسي من خلال الهوية والآيديولوجيا والسياسة.

ثانيًا: علاقة الحزب بالأحزاب الأخرى، وقدرة الحزب على المشاركة في حوار حزبي تعددي، قد يترتب عليه مدى قوة النظام السياسي لاحقًا.

ثالثًا: القدرة على التفاوض مع الجيش.

رابعًا: تمثيل الحزب في الفضاء العام السياسي (Power, 2013, p. 84).

يتناول المقال أداء الحزب على مستويين متداخلين: الأول، يتم فيه التعرف على بعض ما كُتب في دور الأحزاب السياسية أثناء عمليات التحول الديمقراطي، وله صلة بنقاط اهتمام المقال. أما المستوى الثاني فسيحاول استعراض بعض مواقف الحزب؛ خصوصًا موضعه من الاستقطاب الذي شهدته مصر خلال فترة الدراسة، في محاولة للتفكير حول ما يمكن اعتباره خطأ أو ربما فرصة ضائعة.

سيبدأ المقال بالتعرف على أهمية الأحزاب السياسية خلال عمليات التحول الديمقراطي بشكل عام، ثم سينتقل لمحاولة وصف الواقع الحزبي في مصر بعد 11 فبراير 2011، بعدها سيحاول المقال التعرف على نشأة حزب «الوسط» وآيديولوجيته، ومن ثم التعرف على أوجه تمايزه عن حزب «الحرية والعدالة» من وجهة نظر بعض مؤسسيه وبعض الباحثين.

أما النقطة التالية، فستصف علاقة «الوسط» بالأحزاب الأخرى؛ خصوصًا خلال عملية الاستقطاب، مع التعرف على بعض جوانبها، كإشكالية أولوية الانتخابات/ الدستور، وما إذا كانت هناك طريقة مثلى أو توقيت أمثل للاستحقاقات الديمقراطية المختلفة، وفقًا لبعض الباحثين في مجال التحول الديمقراطي.

وحيث إن النقاط السابقة كلها تعد بمثابة وصف للواقع، تحاول النقطة الأخيرة البدء في إعادة قراءة بعض جوانب هذا الواقع، من منظور يأخذ بعين الاعتبار ما أحاط هذا الواقع من حقائق أخرى ربما لم ينتبه لها «الوسط».

 

أهمية الأحزاب السياسية لعمليات الانتقال إلى الديمقراطية

تلعب الأحزاب السياسية دورًا مهمًّا خلال عمليات التحول الديمقراطي، فكما ذكر كل من Greg Power وRebecca Shoot، فإن الأحزاب السياسية تمثل وتصيغ اهتمامات المواطنين، وتساهم في تحديد الثقافة السياسية السائدة، كما تقدم أسس تفاعل شتى أطياف المجتمع بعضهم مع بعض، تلك الأسس التي ستساهم لاحقًا في بدء واستمرارية التسويات السياسية خلال عملية التحول الديمقراطي، بما يتضمنه ذلك من تقديم بدائل سياسية.

كما تلعب الأحزاب دورًا في صياغة الرؤى المختلفة حول ما يجب أن يكون عليه المجتمع، وكيفية استغلال موارده. ورغم ما طال الأحزاب من سوء سمعة متعلقة بالفساد، وسعي الأحزاب وراء السلطة على حساب الآيديولوجية والمبادئ، ورغم ما تواجهه الأحزاب السياسية من تحديات خلال المراحل المبكرة للانتقال، كعدم قدرتها على تلبية توقعات الناخبين، وضعف تجذرها في المجتمع، وقلة مواردها، وصعوبة تمييز برامجها عن برامج بقية الأحزاب، فإن عمل النظام الجديد يتوقف بشكل كبير على فعالية أداء هذه الأحزاب (Power and Shoot, 2013 p. 10 – 11).

بالانتقال إلى التجارب العربية، ومن بينها التجربة المصرية، يرى عيادات أن الأحزاب السياسية لعبت فقط دورًا هامشيًّا في كل من الثورة على النظم السلطوية في المنطقة، وفي عمليات التحول اللاحقة عليها، نتيجة لحقيقة أن العالم العربي حُكم لمئات السنين بواسطة الخلافة الإسلامية والأنظمة السلطانية، والتي لم تساعد على تطوير أي تجارب حزبية (Eyadat. 2015. P. 162).

في الحقيقة، الحديث عن ضعف دور الأحزاب السياسية في مراحل ما قبل التحول، لم يقتصر على التجربة المصرية، ولكن لا يعني هذا الاستغناء عن دورها خلال مراحل ترسيخ الديمقراطية. فكما أشار Schmitter فإن الأحزاب السياسية مهمة حتى ولو لم تلعب دورًا مهمًّا في إتمام الانتقال للديمقراطية، ولو لم تساهم في الاستقرار السياسي بالقدر المتوقع. فبمجرد الدعوة للانتخابات لا يمكن لعملية تحول ديمقراطي أن تتم دون أحزاب سياسية (Schmitter. 2010. P. 23). لذا يعتبر كل من أودونيل وشميتر لحظة اتخاذ القرار بالمشاركة هي لحظة بطولية للأحزاب؛ مقارنة بنقص الخبرة نتيجة لسياقات ما قبل الإطاحة بالحكم الاستبدادي التي تقوض العمل الحزبي (O’Donnell& Schmitter.1986. p.57 – 58).

 

أزمة العمل الحزبي في مصر والاستقطاب

يمكن تناول مسألة الحياة الحزبية في مصر عبر نقطتين أساسيتين، سيكون لهما تأثير على ثقة الجماهير في العمل الحزبي بشكل عام. تتعلق النقطة الأولى بما تواجهه الأحزاب؛ سواء القديمة والتي ظهرت بعد الإطاحة بالنظم الديكتاتورية، من عدم ثقة من قبل الجماهير. ففيما قبل الإطاحة بالنظم السلطوية أو حتى خلال المراحل المبكرة للتحول، قد لا تؤدي الأحزاب دورًا مهمًّا؛ خصوصًا فيما يتعلق بالحشد والضغط على الأنظمة الحاكمة، وفي الغالب يقع عبء زعزعة النظام على النقابات والحركات الاجتماعية ومنظمات حقوق الإنسان والمثقفين، أما الأحزاب فتكون في حالة فوضى وانقسام (O’Donnell& Schmitter.1986. p.57). بالإضافة إلى حداثة وجودها وقلة عدد المؤيدين وضعف القدرات التمويلية، فقد تواجه الأحزاب الجديدة انعدام ثقة وقلة احترام الجماهير (Schmitter. 2010. P. 23- 24).

بالعودة إلى مصر، كان لطبيعة الحياة الحزبية في مصر خلال فترة مبارك تأثير كبير على ضعف الأحزاب من ناحية، وعدم ثقة الجماهير فيها من ناحية ثانية، فانتهى الأمر بأحزاب المعارضة وقتها ضعيفة ومفككة (Stacher. 2004). كما أنه نتيجة للقمع السياسي والقيود المفروضة عليها، لم تستطع الأحزاب أن تلعب دورًا فعالًا في مواجهة النظام. فكما يوضح ماضي، أنهم حتى لم يضطلعوا بدور جماعات معارضة تسعى إلى تغيير سياسي حقيقي (Mady. 2013. P. 318). وهو ما ظهر في أن معظم الأحزاب، ومعهم الإسلاميون، تفاجأوا بالتظاهرات كما تفاجأ النظام، وهو مؤشر على ضعف ارتباطهم جميعًا بالشارع.

من جهة أخرى، وبعد الإطاحة بمبارك، قابل المصريون الأحزاب السياسية بشيء من الشك؛ خصوصًا تلك التي كانت موجودة قبل الثورة، والتي سمح لها النظام بالوجود مقابل العمل معه من خلال تمثيل رمزي بالبرلمان، فرأى الناس تلك الأحزاب على أنها وفرت غطاءً شرعيًّا للنظام المصري، ومكنته من احتواء المعارضة، وتسببوا في فشل أي تحالفات ديمقراطية ممكنة (Mady. 2013. Stacher. 2004). ومن ثم لم ير المصريون الأحزاب بشكل عام على أنها أداة فعالة في التغيير السياسي؛ بل يذهب عيادات إلى أن فوز «الإخوان» في كل من الانتخابات البرلمانية والرئاسية، هو دليل على ضعف الأحزاب السياسية في مصر بشكل عام، وأن شعبية الأحزاب الإسلامية لم تكن لأسباب سياسية ولا بسبب نشاطهم السياسي، ولكن بسبب الخدمات الاجتماعية التي كانوا يقدمونها على مدار فترة طويلة من الزمن (Eyadat. 2015. P. 163 – 168).

كما لوحظ أيضًا استقبال المواطنين للعدد الكبير من الأحزاب الجديدة التي أعلن عن تأسيسها أو الرغبة في تأسيسها بعد سقوط مبارك، بشيء من التهكم والخوف معًا، رغم أنه من الطبيعي -كما تؤكد Aoudia (وشميتر وغيرهما)- أن يظهر عدد كبير من الأحزاب عقب الإطاحة بالنظم الاستبدادية، وتعد مشاركتهم في الانتخابات التأسيسية أمرًا بديهيًّا، مع اتسام المرحلة بالقلق وعدم التأكد (Ait-Aoudia. 2018. P. 343).

أما النقطة الثانية فيما يتعلق بقراءة المشهد الحزبي في مصر عقب الثورة، فهو الاستقطاب غير المسبوق الذي شهده المجتمع المصري. فبمجرد انتهاء فترة الثمانية عشر يومًا بسقوط مبارك، لاح في الأفق استقطاب سياسي لم يتخلص المجتمع المصري من آثاره حتى لحظتنا هذه.

وحول آثار الاستقطاب السياسي على التحول الديمقراطي، توضح إليزابيث نوجنت أن قدرة الفاعلين السياسيين من عدمها على تقديم تنازلات وحلول وسط بشأن المسائل الموضوعية والإجرائية للتحول، لها تأثيرات يمكن قياسها خلال المضي قدمًا في عملية التحول؛ بل من المرجح أن يقود الاستقطاب إلى إخراج عملية التحول الديمقراطي قاطبة عن مسارها. وتشير نوجنت إلى ثلاثة مكونات أساسية للتحول الديمقراطي يمكن للاستقطاب السياسي أن يعيقها. فقد يؤدي الاستقطاب إلى فشل الفاعلين السياسيين؛ ليس فقط في إيجاد حلول وسط فيما يخص إجراءات تنظيم عملية صياغة الدستور؛ بل أيضًا فيما يخص القضايا الأساسية والجوهرية التي يجب أن يتناولها نص الدستور، مما يؤدي لهيمنة حزب معين على العملية، ليأتي النص انعكاسًا لمصالح حزبية على حساب القيم الديمقراطية الليبرالية.

كما تتأثر عملية وطبيعة الانتخابات التأسيسية بالاستقطاب، وتؤكد نوجنت على أنه سواء تم الاتفاق على التسريع بإجراء الانتخابات الديمقراطية الأولى بأي ثمن لأجل تسريع وتيرة الانتقال، أو الاتفاق على تأجيلها تخوفًا من أن تسريعها قد يعيق المسار الديمقراطي على المدى الطويل، بسبب المنافسة غير المتكافئة، فالمؤكد أن الاستقطاب وعدم اتفاق الأحزاب واللاعبين السياسيين على أي من الخيارين من شأنه أن يعيق العملية برمتها.

وبينما لا يوجد إجماع بين الأكاديميين حول توقيت الانتخابات، فالأهم أن يشعر جميع المشاركين بالرضا حول التوقيت المختار، وإلا سيشعر اللاعبون الذين لديهم تفضيلات مختلفة، خصوصًا الأقل جاهزية، بأن اختيار التوقيت يخدم مصالح منافسيهم، وهو ما قد يدفعهم إما لتأجيلها وإما لتقويض شرعيتها الديمقراطية؛ بل وربما يتسببون في تعطيل المسار قاطبة.

وأخيرًا، يؤثر الاستقطاب على ملف العدالة الانتقالية، فمن غير المرجح أن يستطيع الفاعلون المستقطبون محاسبة النظام القديم، كما قد ينظر اللاعبون بعين الشك بعضهم إلى بعض بهذا الخصوص، بناء على تحالفات كل منهم مع النظام القديم (Nugent. 2020. P.216 – 218).

وبالنظر إلى تفاصيل الأحداث في مصر منذ سقوط مبارك، يمكن ملاحظة حالة الاستقطاب الشديدة التي بدأتها التيارات الإسلامية اليمينية، ابتداء من النقاش حول ضرورة وضع الدستور أولًا أم الانتخابات أولًا، ثم الخلاف على كل شيء يخصهما. استقطاب اتخذ طابعًا دينيًّا استدعى فيه الإسلاميون الشارع في تظاهرات حاشدة من أتباعهم، يتوعدون الجميع بدعوى حماية هوية الدولة الإسلامية. وبهذا تحول الصراع من صراع مفترض حول الإجراءات ومفهوم الدولة وعلاقتها بالمواطن، إلى صراع هوياتي انقسم على أثره المجتمع، وأثار الرعب في نفوس من لا يشاركون الإسلاميين رؤيتهم لما يجب أن يكون عليه المجتمع.

قد تبدو تجربة التحول الديمقراطي في تشيلي؛ خصوصًا فيما يتعلق بالاستقطاب، الأقرب للحالة المصرية، فوفقًا لجينارو أريغادا: فتك الاستقطاب بالمجتمع، وتغلغلت الكراهية السياسية والاجتماعية في النسيج الاجتماعي، ورأى جزء كبير من المواطنين في الانقلاب بديلًا مقبولًا عن النظام الديمقراطي (أريغادا. 2016. ص. 94 – 95).

 

تعريف بحزب «الوسط»

تقسم خريطة وضعها البرلمان الأوروبي للأحزاب السياسية في مصر الأحزاب، وفقًا لأربعة محاور: يعبر المحور الرأسي عن المرجعية الدينية مقابل العلمانية، ويعبر المحور الأفقي عن الانتماء لليمين مقابل اليسار. وفقًا لهذه الخريطة، يصنف حزب «الوسط» على أنه حزب إسلامي معتدل، يعد أقرب الأحزاب الإسلامية إلى العلمانية على محور المرجعية الدينية/ العلمانية، كما يعد ثاني أقرب الأحزاب الإسلامية إلى اليسار بعد حزب «التيار» على محور الطيف السياسي اليميني/ اليساري، ما يجعله تقريبًا يتوسط الخريطة مع ميل طفيف إلى اليسار (European Parliament, 2011).

وحول سياق ظهور حزب «الوسط»، تعيد كاري فيكهام الأمر إلى أول عقدين من القرن العشرين، حيث ازدهار ما تطلق عليه «التفسير الليبرالي للإسلام» خلال هذه الفترة، بفضل حركة الحداثة الإسلامية على يد المصلح المصري محمد عبده، والتي أعقبها طمس هذا التيار خلال العقود التالية لصالح إحياء التقاليد الأصولية الرافضة لتأثر الإسلام بالثقافة الغربية، فلم يستطع التيار المعتدل الصمود أمام التيار الأصولي آنذاك. إلا أنه -وفقًا للكاتبة- بعد عقود من التهميش، استطاع التيار المعتدل من الإسلام السياسي العودة خلال فترة التسعينات من القرن الماضي. وترى أن عدة عوامل ساعدت على ذلك، على رأسها سمعة الديمقراطية دوليًّا خلال هذه الفترة؛ خصوصًا بعد نجاح عديد من تجارب التحول الديمقراطي خلال موجتها الثالثة. بالإضافة إلى حسابات استراتيجية متعلقة بما تسميه «التعلم السياسي» لقادة الحزب المنشقين عن جماعة «الإخوان المسلمين»، والذي تمثل في تغير في قيمهم ومعتقداتهم، ومما سهل عملية التغيير القيمي لقادة الحزب هو تأثير تفاعل أطياف المعارضة الإسلامية والعلمانية في مصر، في طريق سعيهم لأهداف مشتركة لتغيير النظام السلطوي. (Wickham, 2004, p. 210).

 

تمايز حزب «الوسط»

يعد الحديث عن مرجعية حزب «الوسط» مربكًا إلى حد ما، فماذا تعني المرجعية الحضارية الإسلامية؟ وما الفارق بينها وبين مرجعية «الإخوان المسلمين» تحديدًا، إن لم يكن حزبًا ليبراليًّا أو قوميًّا أو يساريًّا… إلى آخر التصنيفات المختلفة؟

تعتبر كاري فيكهام تجربة حزب «الوسط» بمثابة التجربة الأبرز في العالم العربي لتحويل الأفكار المتعلقة بما يعرف بالإسلام المعتدل إلى برنامج سياسي، يقوم على أفكار التعددية والتمثيل وحقوق الإنسان. فـ«الوسط» يسعى لتأسيس نظام سياسي قائم على الشريعة، مع التأكيد على ضرورة إعادة النظر في «الشريعة». كما يؤكد برنامج الحزب على مبدأ السيادة الشعبية أساسًا لشرعية السلطة السياسية، يقر بالتعددية في كل مجالات الحياة السياسية والاجتماعية، بالإضافة لدعم الحقوق المتساوية للمواطنين، بمن فيهم المرأة والأقليات غير المسلمة. وهو ما يبعد بالحزب -وفقًا لها- عن المحافظة الدينية لجماعة «الإخوان المسلمين» والجماعات الإسلامية السائدة. فلديها يعد برنامج حزب «الوسط» بمثابة خروج حاد على التفسيرات المحافظة للإسلام –الشريعة– التي اعتنقها مؤسسو الحزب في وقت سابق (2004, p. 207).

كما أكد نائب رئيس حزب «الوسط» والبرلماني السابق عمرو فريد([1])، أن الحزب مر بعدة تغيرات في تركيبته الفكرية وبنيته الآيديولوجية، «فرغم تصنيف البعض للحزب بأنه إسلامي محافظ/ يميني؛ نظرًا لارتباط مؤسسيه الأوائل بجماعة (الإخوان المسلمين)، فإن الحزب استفاد من فترات التأسيس الأربع التي امتدت على مدار خمس عشرة سنة، وعكف على تطوير أفكاره، وحاول فهم ودراسة النماذج السياسية الشبيهة له حول العالم، وكيف استطاعت تطبيق برامجها بشكل عملي» (فريد، 2022).

ترى فيكهام أن حزب «الوسط» يمكن أن يقع آيديولوجيًّا بين أولئك الذين يروجون للدفاع الصارم عن الشريعة الإسلامية، وأولئك المستعدين للتخلص من التقاليد الإسلامية قاطبة لصالح القيم والمؤسسات الغربية. ورغم تمايزه عن «الإخوان المسلمين» بالمدخل الذي يرى من خلاله الشريعة محل اجتهاد ومراجعة شاملة، فإن الحزب لم يستطع حل التوتر بين المبادئ الديمقراطية والدينية المترتبة على النظرة الجامدة لـ«الإخوان» للشريعة الإسلامية، ولكنه يظل بقدر أو بآخر مرنًا فيما يتعلق بتفسير وتطبيق الشريعة، وبأنها مجموعة عامة من المبادئ يجب تطويعها لتواكب العالم المتغير الذي نعيش فيه، وهو ما سهَّل دمج أفكار كسيادة الشعب، والتعددية السياسية والآيديولوجية، وحقوق المواطنة المتساوية مع مشروع «الوسط» للإصلاح الإسلامي (2004, p. 208 – 209).

أحد أشكال التمايز الآيديولوجي الأخرى بين الفريقين، هو أنه بينما يرى حزب «الوسط» أن المجتمع هو صاحب السلطة الأول والأوحد، من خلال الدستور وقوانينه التي يجب أن توضع من خلال جمعية تمثل المجتمع، يرى «الإخوان» أن المسلمين ملزمون بالخضوع لله وتقديس الشريعة المستخلصة من القرآن والسنة، وأن الإنسان ليس أمامه سوى أن يحتكم لما أنزل الله في شكل الشريعة، والحاكم عليه أن يحكم وفقًا للشريعة، مع تدريب الأمة على متطلبات ذلك (2004, p. 209).

 

شكل آخر من أشكال التمايز بين الحزبين، هو رؤيته للتعددية، فرغم اتفاق الطرفين على أن التعددية مبدأ قرآني يقر بالتعدد الإنساني، يأخذ حزب «الوسط» مبدأ التعددية إلى مستوى أعلى يتمثل في أن المبدأ الحضاري الأهم للأمة هو التعددية بكل أبعادها السياسية والدينية والثقافية والاجتماعية… إلخ. فلدى «الوسط» مصطلح «الأمة» لا يعني فقط المسلمين؛ بل هو مجتمع أوسع يشمل كل من يعيش في البلد، كالأقباط في حالة مصر. وهو ما يشرح فكرة المرجعية الحضارية الإسلامية التي تعني لديهم أن كل مكونات الأمة شاركت في صنع هذه الحضارة، كما أن المشروع الحضاري الإسلامي يشمل كُلًّا من المسلمين والمسيحيين على قدم المساواة، من حيث الانتماء والدور والأصالة، بمعنى المواطنة الكاملة للمرأة وغير المسلمين (2004, p. 209 – 210).

 

كما تنطوي فكرة الحزب الإسلامية التقدمية -وفقًا لفريد- على عدم وجوب تحقق الخلافة الإسلامية كنظام سياسي ثابت وملزم، ويعد هذا أحد أهم أوجه التمايز بين «الوسط» ومعظم الأحزاب الإسلامية التي قامت فكرتها بالأساس على استعادة الخلافة الإسلامية (فريد، 2022). ورغم تطور خطاب «الإخوان المسلمين» خلال فترة ما بعد الثورة؛ فإن برنامج حزب «الوسط» وخطابه يظلان أكثر وضوحًا بهذا الخصوص.

علاقة حزب «الوسط» بالأحزاب الأخرى

قبل ثورة يناير، كان حزب «الوسط» -وفقًا لفريد- حاضرًا ومشاركًا، من خلال قياداته، في عديد من الأنشطة والحملات التي ضمت مختلف التيارات المصرية المعارضة آنذاك. فلقد شارك الحزب في تأسيس حركة «كفاية»، التي أُسست في منزل رئيس الحزب أبو العلا ماضي (فريد، 2022)، كما شارك الحزب أيضًا في تأسيس «الجمعية الوطنية للتغيير»، حيث صاغ بيانها التأسيسي المحامي عصام سلطان، وأعلنه في منزل الدكتور محمد البرادعي. كما أكد أحد قيادات الحزب أن قضايا الحريات وحقوق الإنسان وحرية تأسيس الأحزاب وإصدار الصحف ووسائل الإعلان، كانت أهم سمات نضال الحزب فيما قبل الثورة. بالإضافة للتعاون لعقد ندوات مع أحزاب أخرى، كـ«الكرامة» و«الجبهة» (مصدر مطلع بحزب «الوسط» فضل عدم ذكر اسمه).

على الجانب الآخر، أشاد الباحث السياسي والناشط اليساري حسام الحملاوي بدور الحزب قبل الثورة، وقال إنه رغم دعم الحزب للحراك الديمقراطي، فإنه لم يكن دعمًا قويًا؛ مرجعًا ذلك إلى –ربما- ضعف وجودهم التنظيمي بشكل عام آنذاك، أكثر من كونهم غير مهتمين بالشأن السياسي (الحملاوي، 2022).

ودائمًا ما أشار قادة وأعضاء الحزب في مناسبات مختلفة إلى انفتاحهم الفكري، ورغبتهم الدائمة في التواصل مع التيارات الليبرالية واليسارية، وهو ما أشار إليه الحملاوي من محاولات أحد أعضاء الحزب التواصل معه في نهاية التسعينات أو بداية الألفية الجديدة، لحضور ندوات الحزب، خصوصًا أنه في هذا الوقت كان «الإخوان» والإسلاميون بشكل عام معادين للغاية لأي من التيارات العلمانية (الحملاوي، 2022).

أما على المستوى الخارجي، فيذكر أحد قادة الحزب مشاركتهم في عدد من الفعاليات على المستويين الإقليمي والدولي؛ خصوصًا المتعلقة منها بالحوار بين الثقافات([2]) بالإضافة لزيارات لبرلمانات ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وعدد من مراكز الأبحاث في عدة دول أوروبية.

أما بعد الثورة، فالمتابع للمشهد السياسي في مصر يلاحظ محاولات حزب «الوسط» لعب دور الوسيط بين القوى السياسية المختلفة؛ خصوصًا أثناء الأزمات التي شهدتها الساحة المصرية خلال هذه الفترة، بالإضافة إلى تنسيقات ولقاءات مع الأحزاب الأخرى على مستوى أمانات الحزب في المحافظات المختلفة. ولكن بدأت هذه العلاقات في الفتور مع بدء الخلافات حول الدستور والانتخابات البرلمانية وانتخابات الرئاسة، حتى وصلت إلى شكل من أشكال التوتر.

يرجع فريد التوتر إلى بدايات تولي الرئيس محمد مرسي الحكم تحديدًا. يرى فريد أن منشأ هذا التوتر كان لاعتبار البعض أن «الحزب يدعم مواقف الرئيس لأسباب آيديولوجية، في حين أن الحزب كان يسعى دائمًا للحفاظ على الثورة من أعدائها، وهذا ليس تنصلًا من أي أخطاء قد حدثت، ولكنه توضيح مني بصفتي أمينًا عامًّا مساعدًا للحزب في ذلك الوقت، ومشاركًا في صنع معظم القرارات، وتأكيد على أن نياتنا كانت سليمة، وأظن أن هذا هو ما اتضح جليًّا في مواقف الحزب الآن، وبعد عشر سنوات من أحداث 3 يوليو، وبعد أن عانى الجميع من مغبة ما آل إليه النزاع والخلاف وقتها» (فريد).

يوضح فريد أن الحزب لم يتخلَّ عن نبض الشارع، مدلِّلًا بموقف الحزب الرافض لـ«مجزرة» اعتصام مجلس الوزراء؛ حيث انسحب رئيس الحزب أبو العلا ماضي من المجلس الاستشاري الذي عينه المجلس العسكري، احتجاجًا على ما حدث. بالإضافة لمشاركة الحزب في التظاهرات ضد وثيقة علي السلمي (وثيقة المبادئ فوق الدستورية). وفيما يتعلق بالإعلان الدستوري المكمل الذي يعتبره البعض المسمار الأخير في نعش فترة حكم «الإخوان» في مصر، يقول فريد إنه على الرغم موافقة الحزب في البداية على الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي بشكل عام، لأجل تقييد صلاحيات المجلس العسكري، فإنه اختلف معه في المضمون، وقد أعلن ذلك بوضوح وقتها؛ بل وساهم بشكل أساسي وفاعل بمشاركة الدكتور محمد سليم العوا مع آخرين، في إلغاء الإعلان، والخروج من تلك الأزمة بسلام (فريد، 2022).

عديد من المواقف التي تبناها حزب «الوسط» بعد ثورة يناير، والتي تراوح دوره فيها ما بين وسيط أو متحالف؛ خصوصًا إشكاليات الدستور/ الانتخابات، ودور المجلس العسكري، ثم الإعلان الدستوري، أدت إلى اتهامه من قبل بعض القوى العلمانية بأنه بمثابة ساحة خلفية لجماعة «الإخوان المسلمين» وحزبها «الحرية والعدالة». يشرح فريد ذلك بأن الهدف من وراء تأييد الحزب لقرار التسريع بالانتخابات التأسيسية كان إنهاء فترة حكم المجلس العسكري في أسرع وقت ممكن، ونقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة، رغم أن التعجيل بإجراء الانتخابات لم يكن في مصلحة الحزب، لعدم جاهزيته (كالأحزاب العلمانية) للمشاركة في تلك الاستحقاقات. ويضيف أن ذلك أيضًا ما يفسر موقف الحزب من الاستفتاء على الدستور (فريد، 2022).

وحيث إن معضلة التعجيل بإجراء الانتخابات وقتها لم تتعلق بمسألة إنهاء وجود الجيش وجاهزية الأحزاب فقط؛ بل انطوت أيضًا على سؤال هوياتي آيديولوجي متعلق بالدستور الذي سيصاغ لاحقًا من قبل لجنة، يُختار أعضاؤها بواسطة أعضاء البرلمان الجديد، وهو ما قد يؤدي إلى دستور ذي صبغة دينية إسلامية. وحيث إن حزب «الوسط» حزب إسلامي في النهاية، فهناك انتقاد مشروع، مفاده: نعم ربما يضحي «الوسط» بعدد أكبر من المقاعد في البرلمان بسبب عدم جاهزيته؛ لكنه كحزب إسلامي سيكون متأكدًا من أن أغلبية إسلامية برلمانية ستضمن صياغة دستور ذي صبغة إسلامية حال التعجيل بانتخابات من المتوقع جدًّا أن تأتي بأغلبية إسلامية، حتى ولو لم يكن «الوسط» بينها؛ لكنها تظل إسلامية. لا أحد يمكنه الإجابة على مثل هذا التساؤل؛ لكنه يظل تساؤلًا مشروعًا. على كل، لا يرى الحملاوي أن «الوسط» كان بمثابة ساحة خلفية لـ«الإخوان»، فلديه أنه على الرغم من أن الحزب كان بالفعل جزءًا من التوافق الإسلامي وقتها؛ فإنه لم يكن متذيلًا جماعة «الإخوان» كما يدعي البعض (الحملاوي 2022).

حاول الحزب إثبات عدم تابعيته لـ«الإخوان» من خلال رفضه التحالف مع حزب «الحرية والعدالة» إبان الانتخابات البرلمانية. يقول فريد: «كان الحزب حذرًا جدًّا بهذا الخصوص، واختار عدم التحالف مع (الإخوان)، رغم ما يحمله هذا من خسارة حصة مضمونة في البرلمان، فقد ارتأى الحزب أن الصعود المتدرج مع بناء شخصيته السياسية والمستقلة، هو الطريق الأمثل للبناء الصحيح» (فريد، 2022).

 

التعامل مع الجيش والدولة العميقة

تعد إشكالية التعامل مع الجيش والشرطة والمخابرات الداخلية، واحدة من أهم التحديات التي تواجه قادة التحول الديمقراطي في معظم التجارب، وهو ما قد أخر عمليات التحول في بعض الحالات، وفقًا لأبراهام لوينثال وسيرجيو بيطار. ولديهما أنه على الرغم من اختلاف الطرق المختلفة لإخضاع القوات المسلحة والمؤسسات الأمنية للسلطة المدنية، فإنه من المهم وجود نوع من الحزم في هذا التعامل، والذي قد يتمثل في العزل الفوري للضباط المسؤولين عن التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان، ووضع كبار القادة العسكريين تحت سلطة وزراء مدنيين لشئون الدفاع، بالإضافة إلى سد جميع الطرق أمام تدخل ضباط الجيش في الحياة السياسية أو الحزبية أو المشاركة فيها (لوينثال وسيرجيو. 2016. ص. 648 – 649). وهو ما لم يحدث في مصر، فمنذ البداية استطاع الجيش أن يحكم قبضته على الأمور، وأضاع التحالف الإسلامي مع الجيش، ثم لاحقًا التحالف العلماني مع الجيش، أية فرصة للتصدي بحزم لتدخلات الجيش في الحياة السياسية.

كما أنه لم يكن خافيًا على أحد كون الجيش المصري لاعبًا رئيسيًّا في الساحة السياسية المصرية، ابتداء من عزل مبارك، ومرورًا بعزل مرسي، وليس انتهاء بلحظتنا هذه. بل يرى عيادات أن مسارات التحول في مصر اعتمدت على مَن مِن القوى السياسية سيحظى بمساندة الجيش. فبعد الإطاحة بمبارك استغل الجيش شرعيته الشعبية للحفاظ على دوره الرئيسي في الحياة السياسية المصرية (Eyadat. 2015. P. 169)، وهو ما أثر بالطبع على طبيعة سير الأمور. ففي يونيو 2012 أعلنت المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب، وأحقية أحمد شفيق في خوض انتخابات الرئاسة، وهو ما اعتبره بعض أعضاء «الإخوان» بمثابة انقلاب (نوار، 2012). استجابة لهذا القرار قام المجلس العسكري بإعلان نفسه السلطة العليا في مصر (2015)، ورد المجلس العسكري بأنه لم يقم بإجراء أية صفقات، وأنه انحاز لإرادة الشعب، وينفذ حكم المحكمة الدستورية العليا (المصدر، 2012). من جانبه رد مرسي في أغسطس 2012 بعزل بعض كبار قادة الجيش، وبدأت حكومة «الحرية والعدالة» مع حلفائها من السلفيين نوعًا من الشراكة غير المستقرة مع المجلس العسكري، تضمنت إصدار دستور ذي صبغة دينية، انطوى على استبعاد وإقصاء التيار العلماني تقريبًا من العملية قاطبة (Eyadat. 2015. P. 169).

فيما يتعلق بحزب «الوسط» وموقفه من الجيش والمجلس العسكري، ورموز الدولة القديمة، وتحالف الإسلاميين/ الجيش. يرى أحد قادة الحزب (في مقابلة مع كاتبة المقال) أن «الوسط» كان «وسطًا» في هذا الأمر أيضًا، حيث كان هدفه الأساسي «انتزاع الدولة ومؤسساتها من الجيش والدولة العميقة»، على أن يتم ذلك بشكل تدريجي أو مرحلي. فقد رفض الحزب، إبان صياغة دستور 2012، مواد طالب الجيش بوضعها، كأن يكون القضاء العسكري في باب السلطة القضائية، وأن تكون ميزانية الجيش سرية، وهو ما تم التفاوض حوله ليتم إقرار سرية الميزانية بضوابط، للاطلاع عليها بالتفصيل في مجلس الدفاع الوطني المشكل من عدد متساوٍ من المدنيين والعسكريين، ويرأسه رئيس الجمهورية الذي يرجح القرار، على أن تعرض الميزانية رقمًا إجماليًّا على مجلس النواب. أيضًا شارك «الوسط» في صياغة مادة بالدستور تسمح للمدنيين بتولي منصب وزير الدفاع، بعد حوار مع القوى السياسية الممثلة في الجمعية التأسيسية، إلا أنهم -أي «الوسط»- اضطروا لقبول بقاء منصب وزير الدفاع للعسكريين بعد عدة مفاوضات.

ورغم تصريحات قيادات «الوسط» الرافضة لتدخل الجيش في الحياة السياسية، وموقفهم الحاسم من رموز نظام مبارك، وكان ذلك واضحًا في تصريحات أعضائه؛ خصوصًا عصام سلطان، نائب رئيس الحزب سابقًا، والمعتقل حاليًّا، فإن وجود «الوسط» ضمن المجلس الاستشاري الذي أنشأه المجلس العسكري، بالإضافة للمفاوضات والتنازلات، ربما يكون محل انتقاد. فقد انتقد الحملاوي التقاء رموز الحزب بالمجلس العسكري، ودعمهم لخارطة طريق العسكر خلال الفترة الانتقالية، إلا أنه يرى أنه يحسب للحزب استقالة رئيسه أبو العلا ماضي من المجلس الاستشاري احتجاجًا على مجزرة اعتصام مجلس الوزراء، وإن كان من الخطأ الانضمام للمجلس الاستشاري من الأساس (الحملاوي، 2022). ويؤكد فريد أنه على الرغم من محاولة الحزب الدؤوبة عدم الاصطدام المباشر مع الدولة العميقة، فإنه دعم قانون العزل السياسي داخل البرلمان، ولم يكتب للقانون التطبيق لعدم دستوريته، ولكنه (أي الحزب)، وفق بعد ذلك في إدراجه في فقرة مهمة من دستور 2012، التي أُلغيت مرة أخرى في دستور 2014. أضف إلى ذلك محاولات الحزب داخل مجلس الشورى إصدار وتمرير قانون السلطة القضائية، وهو ما قوبل وقتها بمعارضة معظم الأحزاب، بما فيهم «الإخوان» حتى وإن كان على استحياء (فريد، 2022).

 

محاولة للفهم والتقييم

فشلت عملية التحول الديمقراطي في مصر في أولى جولاتها. وكما يؤكد أشرف الشريف فإن بعد سقوط «الإخوان» عادت المعركة الثورية ضد استبداد الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والبيروقراطية وحلفائها من رجال الأعمال، وهي معركة معقدة وعسيرة، ولن تحل الأمور بمجرد إقرار دستور جديد وبرلمان منتخب (آنذاك 2014)، فعملية خلق نظام سياسي في مصر موبوءة بالمشاحنات والخلافات بين مؤسسات الدولة، وعدم قدرة الدولة على تقديم حلول للأزمات الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة لانقسامات الفاعلين السياسيين (El-Sherif. 2014. P. 24 – 25). هذا على جانب من أمكنهم الاستمرار في العمل السياسي. على الجانب الآخر، ورغم مرور ما يربو على تسع سنوات على انقلاب 3 يوليو، فما زالت ظلال الاستقطاب الذي بدأ بسقوط مبارك تسيطر على الخطاب المعارض في مصر وفي المهجر، من خلال ثنائية الإجابة على تساؤل: من المتسبب في فشل الثورة؟ وبحسب كل تيار تأتي الإجابة، فهي: الإسلاميون أو العلمانيون. وفي الحقيقة تعد مثل هذه الإجابات نوعًا من الإجابات السهلة والبسيطة لسؤال أكثر تعقيدًا. ففي التجربة المصرية، كما هو في كل تجارب التحول الديمقراطي في العالم، يتحدد مسار التحول بمجموعة كبيرة جدًّا من العوامل، كالبيئة الدولية والإقليمية، وموقع الجيش والدولة العميقة، والأوضاع الاقتصادية، والأحزاب السياسية… إلخ. وحيث إن المقال يحاول قراءة أداء واحد من هذه الأحزاب، ولكن في سياق أكبر تمكَّن منه الاستقطاب الشديد، استقطاب لا يمكن فصله أو فهمه بمعزل عن الثقافة السياسية المتوارثة في المجتمع، مع تربص الجيش بعملية التغيير كلها، لما تتضمنه من تهديد لمصالحه ووجوده في الحياة السياسية؛ ففي السطور القليلة القادمة سيحاول المقال مناقشة هذه النقطة تحديدًا، بناء على مواقف «الوسط»، كمحاولة نقدية لتقييم أداء «الوسط».

فيما يتعلق بمسار التغيير الذي انحاز له «الوسط»، والذي تسبق فيه الانتخابات الدستور، ثم إرهاصات تشكيل الجمعية التأسيسية وعملية صياغة الدستور، دائمًا ما يبرر قادة «الوسط»، من خلال المقابلات (مع كاتبة المقال) وخلال مناسبات أخرى مختلفة، بأن الهدف من اختيار هذا المسار كان تسريع عملية إرساء المؤسسات الديمقراطية وعملية التحول الديمقراطي ذاتها. وأرى أنه انحياز مبني على قرار ربما غاب عنه جزء كبير من السياق السياسي في مصر وقتها. بالطبع التعجيل بعملية بناء المؤسسات مهم؛ لكن ربما كان من الأهم محاولة قراءة المشهد المستقطب، وتربص الجيش والدولة العميقة بعملية التغيير.

ففي إطار حديثه عن سيادة القانون، وأن توفر المؤسسات الديمقراطية وحده قد يكون غير كافٍ، يوضح جورج جوف أن المؤسسات الديمقراطية توفر هياكل للحكم قد تكون ديمقراطية، وقد تكون أوتوقراطية. فالمؤسسات -على أهميتها- لا تولد قوة ما؛ سواء للحكومة أو المجتمع. فلديه أن القوة الأساسية المطلوبة لعملية الانتقال الفعال تنشأ من رغبة المجتمع في الانخراط في العملية نفسها؛ سواء كمتلقٍّ سلبي لفوائد الحكم الديمقراطي، أو كمشارك نشط في إجراءاته. ليس هذا فحسب؛ بل إن هذا النوع من التصور الجماعي يجب استبطانه واستيعابه من قبل المجتمع، لينتج ثقافة سياسية متماسكة يمكن تبنيها من قبل غالبية المجتمع، وإلا فستكون ثقافة هشة عرضة للانهيار بسبب أي تحدٍّ آيديولوجي. فالحكم الديمقراطي يعتمد في المقام الأول على إرساء آليات يمكن من خلالها التعبير عن المصالح المتعارضة والتوفيق ما بينها. فالمهم -وفقًا له- هو ثقافة الحكم أكثر من المؤسسات التي يتم من خلالها التعبير عن هذه الثقافة، وهو ما تنظمه سيادة القانون بما يضمن تفعيل ثقافة سياسية تعكس مصالح جميع المجموعات المتنافسة (Joffe. 2022. 77 – 80).

مثل هذه الثقافة السياسية افتقدتها الساحة السياسية المصرية على مدار التجربة قصيرة العمر، فلم يُغنِ وجود برلمان منتخب ولا جمعية تأسيسية لصياغة الدستور ولا رئيس منتخب لأول مرة، عن مثل هذه الثقافة، كما لم تحمِ هذه المؤسسات تجربة التغيير من الانهيار. وهذا ما أخطأ «الوسط» في عدم إدراكه واستدراكه وقتها.

برأيي أيضًا أن التركيز على المسار السابق ذكره، والذي تبناه «الوسط»، قد يكون أكثر ملاءمة في حال كانت مصر تنعم بديمقراطية مستقرة، بها حياة حزبية قوية وثقافة سياسية ديمقراطية راسخة، ثم حدث شيء ما فقطع المسيرة الديمقراطية، وأدى إلى تدخل الجيش في الحياة السياسية، وبالتالي سيكون من المنطقي تسريع العودة إلى المؤسسات الديمقراطية. وهو ما أخطأ «الوسط» في عدم إدراكه آنذاك. أو ربما الأمر متعلق بطبيعة الحزب كحزب إسلامي، وطريقة عمل الأحزاب الإسلامية بشكل عام، حيث كل شيء ثابت ومستقر، ويتم الاحتكام لما تمليه أوزان القوى السياسية وعلاقات القوة بينهم. فوفقًا لمارك لينش، فإنه من الواضح أن الأحزاب الإسلامية عمومًا تعمل بشكل أفضل ضمن قواعد مؤسسية محددة بوضوح تام. وإن كان لينش يقصد «الإخوان» في هذه الحالة، ويوصي بتنمية القدرة على تقديم تنازلات أكثر مما قد يمليه ميزان القوة الموضوعي، وبذل الجهد لطمأنة جميع الأطراف؛ خصوصًا في ظل دعاية معادية (Lynch. 2016. 24 – 26)، إلا أنه يمكن الاستفادة من تلك النصيحة أيضًا في حالة حزب «الوسط»، مع الأخذ في الاعتبار أن تستند هذه المرونة على قاعدة من تحالفات سياسية مع التيارات السياسية الأخرى، خصوصًا إذا تعلقت بالتعامل مع الجيش أو الدولة العميقة.

عامل آخر كان يمكن لتوفره وفهمه أن يقلل حدة الاستقطاب بين النخب السياسية (ثم المجتمع)، وهو ما يطلق عليه أودونيل وشميتر «القبول المشروط»، فالديمقراطية المعاصرة تتطلب أن يتفق اللاعبون على أن يتنافسوا؛ بحيث أن أولئك الذين يفوزون بالانتخابات يمارسون تفوقهم الانتخابي بشكل مؤقت، شريطة ألا يعيق أولئك الذين ربما يفوزون في المستقبل من الوصول للحكم، كما أن أولئك الذين يخسرون في الحاضر يحترمون السلطة المشروطة والمؤقتة للفائزين، لكي يتخذوا قرارات ملزمة في مقابل أن يُسمح لهم (للخاسرين) بالوصول للسلطة وصنع القرارات في المستقبل. كما يقبل المواطنون هذه الديمقراطية مع معرفة أن نتائجها مشروطة ومؤقتة، وأحيانًا غير متوقعة تتوقف على تفضيلاتهم واختياراتهم من خلال انتخابات حرة (O’Donnell& Schmitter.1986. p.59).

لم تسمح حالة عدم الثقة التي تلبست النخب السياسية المصرية وقتها حتى بمجرد طرح مثل هذا المبدأ. فخاف الجميع من أن «الفائز سينال كل شيء»، وأن من سيصل للكرسي أولًا لن يبرحه أبدًا. فمن خلال مجموعة من المقابلات التي أجرتها، تقول نوجنت بأنه من جهة، وصف الليبراليون واليساريون «الإخوان المسلمين» بأنهم متعطشون للسلطة، ولا يلعبون وفقًا لقواعد اللعبة، وأن ذلك بدا واضحًا جدًّا لهم مع دعم «الإخوان» لقرار التعجيل بالانتخابات البرلمانية، تاركين التيارات العلمانية في وضع غير مواتٍ تنظيميًّا، ثم مع إصرارهم على تعديل الدستور خارج تحالف يضم الجميع، ثم صياغة الدستور. على الجهة الأخرى، ارتأى «الإخوان» أنهم حصلوا على الأغلبية، ومن حقهم أن يحكموا، وإلى متى عليهم الانتظار كي تصبح التيارات العلمانية جاهزة (Nugent. 2020. P.239 – 240). إذن ساد الشك بين الجميع، ومن ثم عدم القدرة على تقديم تنازلات بين الفاعلين السياسيين، وهي نقطة غاية في الأهمية. فكما يؤكد شميتر، الاستقرار الديمقراطي يقوم على ثقافة سياسية متسامحة بين المجموعات المختلفة، بالإضافة إلى الثقة في المؤسسات، والاستعداد لتقديم التنازلات والوصول لحلول وسط (Schmitter. 2010. P.22).

وبالوصول لهذه المرحلة، فشلت محاولات «الوسط» لاحتواء حالة الاستقطاب لدى أي طرف من الأطراف، ويُرجع أحد قادة الحزب عدم فعالية «الوسط» في لعب دور ربما كان هو الأفضل لأدائه، إلى رفض «الإخوان» لأي دور لحزب «الوسط». وبرأيي سواء سمح «الإخوان» لـ«الوسط» أم لم يسمحوا، فقد تأخر الوقت بعد أكثر من عامين من الانقسام الحاد، وتبادل مواقع «المقرب من الجيش» ما بين الإسلاميين والعلمانيين؛ بل قد تأخر الوقت لأن «الوسط» نفسه كان قد أصبح جزءًا من هذا الانقسام وقتها.

أوضح المقال في موضع سابق مسألة عدم اتفاق الباحثين على توقيتات مثالية للاستحقاقات الديمقراطية المختلفة؛ بل إن البعض، كسمير مقدسي، علَّق أهمية كبرى للمؤسسات الديمقراطية (بعكس جوف واهتمامه بالثقافة السياسية) ودعا إلى عدم الخوف من نجاح انتخابي أولي لجماعات سياسية دينية معينة، فـ«نجاحهم الأولي يمكن احتوائه لاحقًا بشكل ديمقراطي؛ خصوصًا إذا فشلوا في الحكم» (Makdisi. 2017. 34). وهو ما عبر عنه أحد قادة الحزب، عندما أكد (في مقابلة مع كاتبة المقال) أن الحزب اتبع مبادئه، واختار المسار الأصلح، وأن عديدًا من مكونات التيار المدني يقرِّون الآن بأنهم ساهموا بمواقفهم غير المستجيبة للتفاوض للوصول إلى نقطة الانقلاب العسكري، «وبأنهم لو صبروا حتى إجراء الانتخابات، كان (الإخوان) سيفقدون مقاعدهم؛ نظرًا لفشلهم في إدارة الدولة، وبالتالي كنا سنصل للتغيير دون دماء ودون انقلاب يقضي على الديمقراطية والاقتصاد» (مقابلة مع أحد قادة الحزب فضل عدم ذكر اسمه).

وعلى الرغم من ذلك -برأيي- فإن موقف «الوسط» كان به سوء تقدير نابع من التعجل لإنشاء مؤسسات ديمقراطية وإبعاد الجيش عن السلطة، بما تضمنه ذلك من تجاهل لاحتمالية أن هذا المسار قد يؤدي إلى منافسة غير عادلة قد تضر بالأحزاب غير المستعدة، ومن ثم هيمنة التيار الإسلامي إلى غير رجعة، وفقًا لتخوفات التيار العلماني. ولذا كان من المهم توفر شبه توافق بين جميع التيارات السياسية على مسار التحول، بغض النظر عن طبيعته.

 

خاتمة

يمكن تلخيص أهم الانتقادات الموجهة لحزب «الوسط» في ثلاث نقاط أساسية:

الأولى: مسألة المرجعية، وإغراقها في التفاصيل المؤدية لنقاشات فقهية قد تحيد بالحزب عن عمله، بما يأخذه حتمًا لمنطقة صراع الديني مع السياسي.

الثانية: متعلقة بالمسار الذي انحاز له حزب «الوسط»، والذي –برأيي وبغض النظر عن دوافعه- تجاهل السياق المصري آنذاك، وما تموج به الساحة السياسية المصرية من استقطاب وخوف وتخوين ومحاولات هيمنة.

الثالثة: متعلقة بعلاقة «الوسط» بالجيش، والتي اتسمت بنوع من التردد «أو اتخاذ موقف وسط»، يتراوح ما بين محاولة استرداد الدولة من الجيش والنظام القديم، والقبول بالتفاوض حول بعض الأمور.

وبرأيي أن المشكلة هنا ليست اتباع هذا النهج، بل ربما في السير إليه منفردًا. يرى فريد أن الحزب قد أخطأ بالفعل في بعض الأمور؛ مؤكدًا حسن النيات والانطلاق من شعار الحزب “الوطن قبل الوسط»؛ بل يرى أحد قيادات الحزب أن «الوسط» اتخذ مواقفه باتساق كامل مع مبادئه. ولأن النيات الحسنة غير كافية لإسقاط الأنظمة الاستبدادية واستبدال أخرى ديمقراطية بها، فربما يكون من الجيد بدء عملية تفكير جاد حول ما يمكن تداركه حال تغير الحال من حال إلى حال.

يرى مقدسي أن فشل التحول الديمقراطي عقب انتفاضات؛ رغم كونه شيئًا مأساويًّا، فإنه مرحلة عابرة بالتأكيد. فهي مرحلة تمهد الطريق لتغيير قد يكون تدريجيًّا ومترددًا وصعبًا، فالتحول الديمقراطي قد لا يتحقق بسرعة، ويمر بمراحل قد تشهد ممارسة جزئية للديمقراطية، ولكن بمرور الوقت تستمر وصولًا لأشكال للحكم أكثر تقدمًا (Makdisi. 2017. 31 – 33). لأجل ذلك سيحاول المقال أن يختتم بتقديم مجموعة من الاقتراحات بخصوص النقاط الأساسية التي تناولها النقاش السابق:

أولًا: فيما يتعلق بمرجعية الحزب، أرى أن مرجعية الحزب قد تكون أحيانًا مربكة؛ خصوصًا بالنسبة للناخب الذي يبحث عن الفروق بين الحزب وغيره من الأحزاب العلمانية أو الإسلامية. كون مرجعية الحزب نتاج مشروع حضاري كبير ومهم لبلد مثل مصر، فقد يكون من الأفضل أن يتم فصل النقاش عن المشروع والعمل عليه في مؤسسة منفصلة تابعة للحزب، تضم مركز أبحاث خاصًّا بها، على غرار بعض الأحزاب في الدول الأوروبية، كأحزاب اليسار والخضر في ألمانيا مثلًا. كما أن الإغراق في نقاشات مرجعية الحضارة الإسلامية، بما تشمله من نقاشات حول الشريعة وقابليتها للمراجعة قد يستدعي (أو استدعى) كثيرًا من الجدل الفقهي والديني بين أعضاء الحزب، بما قد لا يتناسب مع العمل السياسي الحزبي. فمن الأفضل -في رأيي- التركيز على برنامج سياسي واضح ومحدد، وعدم القلق كثيرًا بشأن موقع الحزب على محور العلماني/ الديني، والاهتمام بموقعه من البرامج الاجتماعية والاقتصادية، مع ترك النقاشات الأخرى لمؤسسة تابعة للحزب. بالطبع لا يمكن لأحد أن يملي على أي من الأحزاب التخلي عن آيديولوجيتهم المعلنة؛ خصوصًا في حالة كـ«الوسط»؛ لكن استحضار النقاشات الدينية، وفي سياق يسوده الشك والتربص، غالبًا ما يؤدي إلى التشتت عن العمل السياسي، وهو الهدف الأول. فربما من الأفضل إبعاد كل ما هو ديني عن العمل الحزبي.

أذكر هنا جملة لبراون ناثان، في سياق حديثه عن رفض «الإخوان» المقارنة بينهم وبين الثيوقراطية الإيرانية، وهو ما يتفق معه ناثان ولكنه يحذر بأن النموذج الإيراني يعلمنا درسًا مهمًّا: وهو عندما يدخل الدين السياسة، فنادرًا ما يبقى الواقع على ما هو عليه (Brown. 2013. P. 19).

من جهة أخرى، هذا النوع من الفصل قد يجنب بعض المنتسبين المحتملين أن يختلط عليهم الأمر، ويظنوا أن «الوسط» نسخة أخرى من أي من الأحزاب الإسلامية الأخرى. فقد كان هناك أعضاء بالحزب يمينيين دينيين جدًّا على أن يتوافقوا مع فكرة الحزب، أو علمانيين جدًّا على أن يوجَدوا بالحزب. وبحسب فهمي لفكرة الحزب، فإنها إن كانت تحتمل وجود تيار علماني، فلن يكون في صالح الحزب أو فكرته وجود يمينيين دينيين انضموا لأنهم ظنوا ألا فارق بين «الوسط» و«الإخوان» والسلفيين.

ثانيًا: ألا وقد ناقش المقال مشكلة الاستقطاب وعدم توفر القدر الكافي من الثقافة السياسية التي قد تمثل حائطًا واقيًا ضده، فقد يفكر الحزب بشكل جاد في بداية العمل على كوادره من الآن بهذا الشأن، وهي عملية ليست سهلة، كما ستحتاجها مصر حال فُتح المجال العام، خصوصًا بعدما شهدته مصر من انقسام وصل حد الكراهية بين المصريين. فقد ذكر جوف بأن الاستبطان والاستيعاب الاجتماعي للثقافة السياسية للحكم الديمقراطي، تعد بمثابة المدخل الأساسي للتحول الديمقراطي، وهي عملية لا يمكن إنجازها خلال أشهر قليلة (Joffe. 2022. P. 91).

لذا، قد يكون من المهم أن يبدأ الحزب في عمليات إعداد شاملة لكوادره؛ سواء في الداخل أو الخارج، إعداد يؤهلهم لمختلف مجالات معترك الحياة السياسية. قد يكون ذلك صعب للغاية في ظل الظروف القمعية غير المسبوقة في مصر حاليًّا؛ لكن من الممكن إيجاد بعض الطرق، حتى لو تضمنت عمل ذلك بشكل فردي. فلن تحتمل أي تجربة سياسية مقبلة أي نوع من أنواع الارتجال في مصر. لذا من المهم ليس فقط لحزب «الوسط»، ولكن لكل الأحزاب، أن تبدأ عملية إعداد شاملة تستهدف تأهيل سياسيين على درجة من الفهم والثقافة. يرى شميتر أن تصدر «أي شخص» للعمل السياسي من قبيل الأساطير أو الخرافة، فيرى أن الهاوي أو غير المؤهل ربما يقود النضال ضد الاستبداد، وربما يحتل موقعًا ما خلال المراحل المبكرة للتحول، لكن يجب بعد ذلك إفساح المجال للمتخصصين والمؤهلين من السياسيين (Schmitter. 2010. P. 27).

ثالثًا: وكما يأمل فريد، أنه حال انفتاح المجال العام أمام المشاركة السياسية، يجب التنسيق والتوافق بين التيارات السياسية المختلفة، حول شكل الدولة وإدارة الفترة الانتقالية، بما يضمن مشاركة الجميع. مع التركيز على أهمية العدالة الانتقالية، ووضع ميثاق إعلامي من شأنه منع تكرار ما حدث قبل ذلك، من بث للكراهية والتحريض.

وبالحديث عن احتمالية فتح المجال العام، فقد يكون من الأفضل أن يفكر «الوسط» في مسألة التحالف، إن لم يكن الاندماج، مع الأحزاب القريبة منه. وهي تجربة بالفعل خاضها الحزب سابقًا. فوفقًا لنائب رئيس الحزب للشئون الخارجية، حاتم عزام، كانت هناك محاولة لاندماج كل من «الوسط» و«الحضارة» و«مصر القوية»، وهو ما نجح مع حزب «الحضارة» الذي يعد أقرب للتيار المدني منه إلى التيارات الإسلامية. قد يظل من المهم أن يفكر حزب «الوسط» ربما في اندماج أو تكتل أكبر.

تؤكد كتابات المختصين في دراسات التحول الديمقراطي، أنه من الطبيعي أن تمر عمليات التحول الديمقراطي بعثرات وانتكاسات لتعود لتكتمل مرة أخرى. وكما أوضحت لينا خطيب أنه بغض النظر عن النموذج الذي يمكن أن ينطبق على تجارب التحول الديمقراطي في العالم العربي، وبغض النظر عن أن بعض النماذج تنبئ بأن تجارب العالم العربي، بينها مصر، قد تؤدي أو لا تؤدي إلى الديمقراطية الليبرالية، أو ربما تستمر في التأرجح ما بين انتفاضات يعقبها فشل في ترسيخ الممارسة الديمقراطية، فإن المهم هنا هو حقيقة أن الوضع الراهن الذي كان سائدًا يومًا ما قد تغير بشكل جذري، ما يعني أنه تم زرع بذور المشاركة السياسية المؤسسية (Khatib. 2013. P. 316. 317).

لكن يجب أيضًا على الفاعلين السياسيين والمثقفين، وبمساعدة الأكاديميين، ألا يتوقفوا عند التعلق بنموذج واحد من نماذج التغيير، وأن يكونوا أكثر مرونة وانفتاحًا على صيغ أكثر تشاركية للديمقراطية. بهذا الخصوص يروقني أن أنهي بـ «حدس» شميتر بأنه من المرجح ألا تقودنا خيبة الأمل في الديمقراطية إلى أنظمة مستبدة أخرى، فقد تقودنا إلى شكل مختلف من أشكال الممارسة الديمقراطية (Schmitter. 2010. P. 22). شكل ربما يكون أفضل مما نعرفه الآن.

 

اقتراحات لأبحاث مستقبلية

تطرح تجربة حزب «الوسط» عديدًا من الأفكار البحثية، كما يلي:

1- المابعد إسلاموية، وإمكانية حلولها محل الإسلام السياسي بشكله التقليدي، والفرق بين حزب «الوسط» و«الإخوان المسلمين» في هذا الصدد، وقدرة مفهوم الإسلام التقدمي على الصمود في عالم السياسة.

2- مسألة فقدان مرجعية الحضارة الإسلامية، وتمايزها عن مرجعية «الإخوان المسلمين»؛ خصوصًا مع احتمالية تطور المنظومة الفكرية لـ«الإخوان»، بافتراض استمرار المناخ الديمقراطي.

3- تمثيل المرأة والأقباط والشباب في كل الهيئة العليا والهيئات التنفيذية للحزب، ومدى توافق ذلك مع خطاب الحزب من جهة، ومبادئ الحزب ومرجعيته من جهة أخرى. (وإن كنت أرى أن قصر عمر التجربة لن يؤدي إلى تحليل كافٍ وشامل لهذه النقطة).

*****

 

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

 

المصادر والمراجع

باللغة العربية:

– أبو العلا ماضي مع معتز الدمرداش. 2011. حزب «الوسط». 2 أكتوبر. رابط

– اجتماع القوى السياسية بـ«الوسط».2011. حزب «الوسط». 13 سبتمبر. رابط

– أريغادا، جينارو. 2016. تشيلي. الانتقال الناجح في تشيلي: من الاستقطاب الشديد إلى ديمقراطية مستقرة. في: تجارب التحول إلى الديمقراطية: حوارات مع القادة السياسيين. حرر بواسطة: سيرجيو بيطار، أبراهام لوينثال. القاهرة: دار الشروق. ص 93– 164.

– المجلس العسكري المصري يقول إن البرلمان حُل بأمر المحكمة. 2012. المصدر أونلاين. 9 يوليو. متاح على: رابط

– المؤتمر الصحفي في حزب «الوسط» بعد لقاء مرشحي الرئاسة. 2012. حزب «الوسط». 9 أبريل. رابط

– «الوسط» يتقدم للبرلمان بمشروع قانون لمنع الفلول من الترشح للرئاسة. اليوم السابع. 8 أبريل 2012. على: رابط

– باهي حسن. عصام سلطان: قضية الزند وراء مقاومة تعديلات السلطة القضائية. 2013. 20 أبريل. رابط

– جمعة استرداد الثورة. 2011. حزب «الوسط». 30 سبتمبر. رابط

– حاتم عزام، مقابلة شخصية من خلال البريد الالكتروني، 7 أغسطس 2022.

– حسام الحملاوي، مقابلة شخصية من خلال البريد الإلكتروني، 31 يوليو 2022.

– سلطان يعلن ترشحه للانتخابات بدمياط (حول انتقاداته لتدخلات الجيش في الحياة السياسية). 2011. حزب «الوسط». 24 سبتمبر. رابط

– نوار، دنيا. 2012. المحكمة الدستورية تحل مجلس الشعب وتقضي بأحقية شفيق بخوض انتخابات الرئاسة. france24. 14 يونيو. متاح على: رابط

– عمرو فريد، مقابلة شخصية من خلال البريد الإلكتروني، 1 أغسطس 2022.

– لوينثال، أبراهام ف. وسيرجيو بيطار شقرا. 2016. التحول من الحكم الاستبدادي إلى الحكم الديمقراطي: الدروس المستفادة من القادة السياسيين لبناء المستقبل. في: تجارب التحول إلى الديمقراطية: حوارات مع القادة السياسيين. حرر بواسطة: سيرجيو بيطار، أبراهام لوينثال. القاهرة: دار الشروق. ص 616– 668.

– ماضي، عبد الفتاح. 2019. العوامل الخارجية والثورات العربية: أربع إشكاليات للبحث. عدد 36، يناير. متاح على: رابط

– مقتطفات من البرنامج الانتخابي لـ«الوسط». 2011. حزب «الوسط». 25 أكتوبر. رابط

 

باللغة الإنجليزية:

Ait-Aoudia, Myriam. 2018. Conditions for New Parties’ Participation in a Founding Election in a Democratic Transition: The Algerian Case. Party Politics. Vol 24 (4). pp. 434- 443. Accessed July 39, 2022. Available at: link link

Brown, Nathan J. 2013. Islam and Politics in The New Egypt. Washington: Carnegie Endowment for International Peace. April. Available at: link

El-Sherif, Ashraf. 2014. Egypt’s Post-Mubarak Predicament. Washington: Carnegie Endowment for International Peace. Available at: link

Eyadat, Zaid. 2015. ‘’A Transition without Player: The Role of Political Parties in the Arab Revolutions’’. Democracy and Security. April-June, vol. 11, No. 2, Bringing People Back in Politics: The Role of Civil Society, Organizations, and Political Parties in a Post-Arab Spring Context, pp. 160 – 175. Accessed August 1st, 2022. Available at: link

Hatina, Meir. 2005. The ‘Other Islam’: The Egyptian Wasat Party. Critique: Critical Middle Eastern Studies. 14:2, 171-184. Available at: link

Joffe, George. 2022. ‘’Authoritarian Resilience and The Absence of Democratic Transition: The Implications of 2011’’. Journal of Islamic Studies. Vol. 33. Issue 1. January, pp. 72 – 94. Accessed August 1st 2022. Available at: link

Khatib, Lina. 2013. Political Participation and Democratic Transition in The Arab World. University of Pennsylvania Journal of International Law, 34 (2), pp. 315-340. Available at: link

Kraetzschmar, H and Zollner, B. 2020. We Are All Wasatiyyun: The Shifting Sands of

Center Positioning in Egypt’s Early Post-Revolutionary Party Politics. Middle East Critique.

29 (2). pp. 139-158. Available at: link

Lynch, Marc. 2016. In Uncharted Waters: Islamist Parties Beyond Egypt’s Muslim Brotherhood. Washington: Carnegie Endowment for International Peace. Available at: link

Mady. Abdel-Fattah. 2013. Popular Discontent, Revolution, and Democratization in a Globalizing World. Indiana Journal of Global Legal Studies. Vol. 20. Issue. 1. pp. 313 – 337. Available at: link

Makdisi, Samir. 2017. ‘’Reflections on the Arab Uprising’’. In Combining Economic and Political Development: The Experience of MENA. Edited by Giacomo Luciani. pp. 22 – 40. Leiden: Brill. Available at: link

Map of Egyptian Political Parties: First Phase of Parliamentary Elections 28 November 2011. 2011. Available at: link

Norton, Augustus Richard. 2009. “6. Thwarted Politics: The Case of Egypt’s Hizb al-Wasat”. In: Remaking Muslim Politics: Pluralism, Contestation, Democratization. edited by Robert W. Hefner, Princeton: Princeton University Press, 2009, pp. 133-160. Available at: link

Nugent, Elizabeth R. 2020. After Repression: How Polarization Derails Democratic Transition. Princeton: Princeton University Press. Available at: link

O’Donnell, Guillermo, Schmitter Philippe C.1986. Transitions from Authoritarian Rule: Tentative Conclusions about Uncertain Democracies. Baltimore: The Johns Hopkins University Press. available at: link

Power, Greg. 2013. ‘’Conclusion on Parties in Transitional States: Changing the Rrelationship between People and Power in the Arab World.’’ In Political Parties in Democratic Transition: A DIPD Reader, Edited by Greg Power and Rebecca A. Shoot, p. 83 – 92, Copenhagen: Danish Institute for Parties and Democracy.

Power, Greg, and Rebecca A.Shoot. 2013. ‘’The Pivotal Role of Political Parties in Transition: An Introduction.’’ In Political Parties in Democratic Transition: A DIPD Reader, Edited by Greg Power and Rebecca A. Shoot, p. 9 – 19, Copenhagen: Danish Institute for Parties and Democracy.

Schmitter, Philippe. 2010. ‘’Twenty-Five Years, Fifteen Findings’’. Journal of Democracy. Vol. 21, N. 1, pp. 17-28. Accessed August 3rd, 2022. Available at: link

Wickham, Carrie Rosefsky. 2004. ‘’The Path to Moderation: Strategy and Learning in the Formation of Egypt’s Wasat Party.’’ Comparative Politics. Vol. 36, No. 2. pp. 205 – 228. Accessed July 25th 2022. Available at: link

Stacher, Joshua A. 2004. Parties Over: The Demise of Egypt’s Opposition Parties. British Journal of Middle Eastern Studies. Nov., Vol. 31, No. 2. pp. 215 – 233. Available at: link

Zollner, Barbara. 2018. Does Participation Lead to Moderation? Understanding Changes in Egyptian Islamist Parties Post-Arab Spring. In: Islamists and the Politics of the Arab Uprisings: Governance, Pluralisation and Contention. Edited by Kraetzschmar, H. and Rivetti, P. Edinburgh, UK: Edinburgh University Press. available at: link

 

*****

([1]) عمرو فريد، نائب رئيس حزب «الوسط» وبرلماني سابق، انضم للحزب مع محاولة تأسيسه الرابعة عام 2004، من خلال علاقته بالمؤسسين الأوائل الذين تعرف عليهم وعلى أفكارهم، منذ انضمامه لـ«جمعية مصر للثقافة والحوار» التي قاموا بتأسيسها عام 1999 (ترأسها آنذاك الدكتور محمد سليم العوا). ويرى فريد أن الحزب في ذلك الوقت عبر عنه تمامًا بأفكاره الإسلامية التقدمية، وشعر أنه إن قُدر له التوفيق فسيصبح من أهم الأحزاب بمصر.

([2]) كمشاركات وكيل المؤسسين فيما عرف بالحوار العربي– الأوروبي– الأمريكي الذي كان ينظمه معهد الحوار الدائم بواشنطن، مع وزارة الخارجية السويسرية، بالإضافة للقاءات الحوار المصري الألماني المنظم من قبل كل من الهيئة الإنجيلية القبطية بمصر، والأكاديمية البروتستانتية بألمانيا، والحوار الإسلامي المسيحي في لندن، وحوارات واجتماعات الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وغيرها من الأنشطة التي تظهر اهتمامًا بقيم الحوار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى