سياساتتحليلات وأبحاث

تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية

نظرة تاريخية تحليلية

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية.. نظرة تاريخية تحليلية

مقدمة

إن ما مر به تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية بعد أحداث ثورة 25 يناير أعاد للواجهة مجموعة من الأسئلة عن وظيفة الشرطة، والسياسات المفترض اتباعها لإعادة إصلاح منظومة الشرطة. وكان السؤال المركزي المطروح: هل الشرطة في خدمة الشعب أم في خدمة النظام؟ ولعل ذلك الفارق الجوهري في السؤالين ينعكس بطبيعة الحال على الوظيفة ومفهوم الأمن.

إن مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية هو جزء يتبع مفهوم الأمن عند القيادة السياسية والسلطة التنفيذية المتمثلة في الرئيس بشكل رئيسي، فوزارة الداخلية تنفذ السياسات العليا للأمن الداخلي، طبقًا لما يملى عليها تنفيذه من برامج وخطط وأهداف، ويخضع تعيين وزير الداخلية من قبل الرئيس وليس رئيس الحكومة أو البرلمان.

هناك العديد من المؤشرات التي تؤكد أن المفهوم الرئيسي للأمن الذي تستند عليه وزارة الداخلية هو مفهوم حماية النظام من أي تهديدات، بداية من جذور نشأتها وحتى تنظيمها والقيم والمفاهيم التي يتدرب عليها المنتمون لوزارة الداخلية؛ ضباطًا كانوا أو مجندين، بجانب تسليحها وضوابط وآليات استعماله.

وبالرجوع لسلوك الداخلية خلال أحداث ما بعد الثورة، يمكن أن نقول إن وزارة الداخلية من خلال تكتيكاتها على الأرض كانت تمارس سياسة تهدف إلى إحداث فراغ أمني، بحجة عدم ممارسة العنف ضد المواطنين، أو عدم التدخل، بحجة أن الأمر سياسي، والممارسة هنا كان لها تأثير فعال في المساهمة في تنامي ظاهرة الاستقطاب بين المكونات السياسية والآيديولوجية في مصر، والمساهمة كذلك في إحداث ضغوط اقتصادية على أي نظام تنتجه الثورة من خلال الفراغ الأمني، الأمر الذي سينعكس بالتأثير على المستثمرين في سحب استثماراتهم أو عدم دخول استثمارات جديدة، بخلاف السياحة التي انخفضت بسبب الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار.

ما نريد مناقشته في تلك الورقة هو وضع تعريف مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية من واقع الممارسة وذكر العوامل التي ساهمت في تَشَكُل ذلك المفهوم عبر تتبع جذور تلك العناصر تاريخيا، والهدف من ذلك هو أن نشير إلى أن مسألة إصلاح جهاز الشرطة أو وزارة الداخلية يجب أن تذهب وتشتبك في اصلاح المفهوم ذاته وليس تغيير تبعية إدارات أو تغيير تسمية بعض القطاعات التابعة لوزارة الداخلية كما حدث مع “قطاع أمن الدولة” عندما تغير إلى “قطاع الأمن الوطني”، فإصلاح الجهاز أو تغييره يجب أن يكون أعمق من الإصلاحات الإدارية والهيكلية.

معظم الدراسات والأبحاث التي ناقشت اصلاح جهاز الشرطة في مصر ارتكزت على البنية الهيكلية والتشريعية بشكل أساسي ومناقشة بعض المعضلات المتعلقة بمسألة الاصلاح، وهي في معظمها جيد والبعض الأخر متكرر. تأتي على رأسهم المبادرة الوطنية لإعادة بناء الشرطة،[1] بورقته “شرطة لشعب مصر”،[2] وورقة السياسات التي خرجت من المؤتمر المصري للنهوض،[3] تحت عنوان “المؤسسة الأمنية (الشرطة) في مصر وتحديات الإصلاح”،[4]

والتي أشرف عليها مركز حضارة للدراسات والبحوث، بالإضافة إلى ورقتي عمر عاشور  “اصلاح القطاع الأمني في مصر: المشكلات والتحديات”، التي لخص فيها الأهداف الرئيسية من اصلاح القطاع الأمني في هدفين الأول انشاء أنظمة ادارة ورقابة ومساءلة فعالة لجهاز الأمن،

وذلك بأن تكون الرقابة داخليا من خلال السلطة التنفيذية أو خارجيا من البرلمان والسلطة التشريعية، أما الهدف الثاني يتمثل في تحسين طرق تقديم الخدمات الأمنية والعدلية،[5] أما الورقة الثانية “اصلاح القطاع الأمني وثورات الربيع العربي” تحدث فيها عن أن أهم الأسباب الرئيسية لخروج الثورات هو سلوك الأمن مع المجتمع بشكل عام وذكر العديد من الأمثلة في تونس ومصر وليبيا وسوريا ثم ذكر مجموعة من الأسباب التي حالت دون تحقيق عملية اصلاح ناجح،

منها الاستقطاب السياسي الشديد بين القوى المختلفة (سواء الإصلاحيين أو الثوريين) التي أدت إلى تسييس عملية إصلاح القطاع الأمني ​​وكذلك العنف السياسي، والمقاومة الداخلية المحسوبة على الفساد التي تلعبها القطاعات المناهضة للإصلاح داخل قطاع الأمن، ومحدودية قدرات وموارد الحكومات المنتخبة حديثًا، وكذلك ضعف المؤسسات الديمقراطية التي فشلت في احتواء الاستقطاب السياسي، بالإضافة إلى محدودية المعرفة والخبرة للذين يعملون على تحقيق الاصلاح الأمني.[6]

فيما لم تناقش معظم الأبحاث التحدي الخارجي والاقليمي عدى ورقة يزيد الصايغ “الفرصة الضائعة: السياسة وإصلاح الشرطة في مصر وتونس” التي تعرض فيها لبعض النقاط في اطار نقاشه التحديات والاشكاليات الأمنية في دول الربيع العربي بوجه عام جمع فيها بين المشكلات البنيوية في النظام السياسي والتي ساهمت في خروج الثورات وضعف الفواعل السياسية التي تتصدر المشهد بعد الثورة ومحدودية قدراتها في إتمام عملية الإصلاح أمام الأجهزة الأمنية التي كانت تمتلك فرصة في عملية الإصلاح لكنها لم تسير إليها على النحو الصحيح دون صناعة التحيزات وتحقيق مكاسب حزبية ضيقة بجانب امتلاك الأجهزة الأمنية قدرات كبيرة ساهمت في افشال تلك العملية.[7]

لقد كان هناك اجماع عند يزيد الصايغ وعاشور عن الدور الذي لعبه الاستقطاب السياسي في فشل اصلاح جهاز الشرطة وكونه عامل رئيسي استغلته الأجهزة الأمنية بوجه عام وجهاز الشرطة للعودة من جديد لسياساته القديمة، فيما طورت وزارة الداخلية دورها واتخذت من ملف مكافحة الارهاب مسوغا لعدم احداث أي تغييرات اصلاحية جوهرية في الجهاز وعلى وجه الخصوص جهاز الأمن الوطني الذي تم تغيير مسميات الادارات العامة فيه ليس أكثر.

فيما قدم العديد من الباحثين اقتراحات لإصلاح جهاز الشرطة من منظور تشريعي وإداري على سبيل المثال ورقة محمد علي نصر “دليل اصلاح جهاز الشرطة إداريا وتشريعيا” التي ترتكز رؤيته على بعدين، البعد الأول تشريعي والثاني إداري،

وقد ساعده فيها العقيد محمد محفوظ ممثلا عن مبادرة اعادة بناء الشرطة، ونائب عن مجلس الشورى من الحزب المصري الديموقراطي فريد البياضي، أكدت الدراسة على الطبيعة المدنية والخدمية لجهاز الشرطة طبقا لنص الدستور، و منع تدخل الشرطة في العمل السياسي والأهلي وكذلك الأنشطة الاقتصادية، وتفريغ الشرطة لمهمة حفظ الأمن و منع الجريمة واكتشاف مرتكبوها، وتعزيز احترام حقوق المواطنين وحرياتهم.[8]

تهدف تلك الورقة إلى مناقشة عميقة لفهم الأسباب التي تدفع جهاز الشرطة والمنتسبين له بتبني سلوكيات ومسارات تعمل على حماية النظام وتنفيذ سياساته الأمنية وقمع المعارضين السياسيين له، وذلك من خلال التَعَرُض بإيجاز إلى طبيعة نشأة الجهاز وتشكل الوظيفة من جذورها التاريخية، حيث مرت وزارة الداخلية منذ تأسيسها بعدة محطات رئيسية،

اتسمت كل مرحلة بمجموعة من الأحداث التي ساهمت في تشكيل عقلية العاملين بجهاز الشرطة، بداية من عهد محمد علي وحتى 1952. شهدت مصر خلال تلك الفترة أربع موجات من الحراك الشعبي دفعت السلطة إلى تأسيس أجهزة وأقسام لجمع المعلومات عن خصومهم ووضع التقديرات عن حركة الشعب ونخبه المختلفة، فيما عُرف باسم “البوليس السياسي” الذي كان يقوم برصد حركة المجتمع كله والتعامل مع كل من يمكن أن يكون مصدر تهديد للنظام.

وكذلك سنوضح من خلال الورقة دور الاحتلال الانجليزي في تشكيل العقيدة القتالية للأجهزة الأمنية بوجه عام، وكيف ساهمت تلك العوامل عبر الفترات الزمنية المختلفة في بناء مناعة ضد الثورات، وتشكيل مفهوم الأمن الذي يتوارث داخل جهاز الشرطة من جيل إلى آخر.

بشكل عام تأتي عملية اصلاح جهاز الشرطة ضمن عملية الإصلاح السياسي الشاملة للدولة والنظام، والتي يستحيل أن تتم بشكل مجزأ لكنها تعتبر أحد أهم الخطوات نحو الوصول للإصلاح الشامل للنظام، وهو الأمر الذي يتطلب معه فهم عقلية جهاز الشرطة والدوافع التي تحكم سلوكه والمنطلقات التي يتدرب عليها الضباط والجنود المنتسبين حتى يمكن وضع رؤية شامل وواقعية لعملية اصلاح الجهاز من جذوره.

جذور وظيفة البوليس السياسي

عمل بعض الضباط المتقاعدين من جهاز الشرطة بكتابة مجموعة من الكتب والدراسات من خلال اطلاعهم على الوثائق والمراسلات في الحقب التاريخية خلال القرنين الماضيين منذ قدوم محمد علي على رأس السلطة في مصر، وفي مقدمتهم عميد الشرطة والدكتور عبدالوهاب بكر الحاصل على بكالوريوس علوم الشرطة وليسانس في القانون وآخر في الأدب قسم تاريخ،

كما أنه حائز على ماجستير ودكتوراه في التاريخ الحديث، ومن أهم كتبه “الوجود البريطاني في الجيش المصرى”[9] و”البوليس المصري”[10] وغيرها من الكتب التي رصدت الحقب التاريخية المختلفة لجهاز الشرطة أو موضوعات تتعلق بالجريمة، كذلك قام بعض الضباط بكتابة مذكراتهم التي تعطي صورة عن جهاز الشرطة من الداخل منها مذكرات ضابط البوليس السياسي لمحمد عبدالعزيز،[11] وكتاب اللواء حسن طلعت “في خدمة الأمن السياسي: مايو 1935 – مايو 1971″،

ومذكرات وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن أبو باشا “في الأمن والسياسة مذكرات حسن أبو باشا”، وتقدم لنه هذه المجموعة من الكتب بعض المؤشرات فيما يخص المنهجية والعقلية الأمنية التي تدير قطاع أمن الدولة ووزارة الداخلية حينها، بجانب بعض الإصدارات من مركز بحوث الشرطة مثل كتاب “الشرطة والنضال الوطني”،[12]

وكتاب أحمد مولانا “جذور العداء” الذي استعرض فيه تاريخ جهاز أمن الدولة منذ نشأته فى تسلسل بسيط وكيف ساهم الجهاز في قمع الحركات الوطنية و الاسلامية التي ناهضت وجود الاحتلال الانجليزي والطرق والأساليب التي اتبعتها الأجهزة الأمنية وتطور عملها،[13] وقام بنشرها على هيئة مقالات بشكل موجز لكل مرحلة،[14] وتعتبر رسالة الماجستير لعبدالوهاب بكر “البوليس في مصر 1805 – 1922” أحد أهم الدراسات التي تعرضت لتطور جهاز الأمن منذ نشأته.

إعتماداً على ما ذكرناه سابقاً من الكتب والدراسات سنقوم باستعراض تطور جهاز الأمن في مصر في خمس محطات رئيسية على النحو التالي:

المحطة الأولى: محمد علي (1805-1848).. الخدمة الوطنية وجهاز «الضبط والربط»

ذكر خالد فهمي في كتابه (كل رجال الباشا، 2001) سياقات نقدية لحقبة محمد علي، بعضها اتسم بجوانب إيجابية للتجربة، والبعض الأكثر بجوانب سلبية على الصعيد الإنساني في نقده للحداثة والخطاب القومي. إن الظروف التي فرضت على الفلاحين وسكان الريف في مصر لبناء المشاريع الكبيرة والتجنيد الإجباري أو ما عرف حينها (الخدمة الوطنية) واجهت مقاومة، ولم يكن هناك إقبال عليها،

وأخذت شعارات «الوطنية» و«المصريون» و«الدفاع عن الأرض» وغيرها من الشعارات التي قام محمد علي وأبنائه من بعده بغرسها في عقول الفلاحين البسطاء لتتحول لمفاهيم، وهي ما تلاقت مع حب الفلاح لأرضه. ولكن تلك المفاهيم غرست لتحقيق أهداف محمد علي وأسرته، وكان لها تقاطعات مصلحية مع الأوروبيين.[15]

جاء محمد علي على رأس السلطة بعد الثورة على خورشيد باشا عقب رحيل الحملة الفرنسية، وقيادة شيوخ الأزهر ونقيب الأشراف عمر مكرم ومجموعة من التجار لتلك الثورة التي استطاعوا فيها خلع خورشيد باشا، وقام عمر مكرم باختيار محمد علي ليتولى الحكم، وكان جنديًّا ألبانيًّا حينها، وفور توليه الحكم في 1805 أخذ في بناء منظومته الخاصة، وكان أول ما قام بإنشائه هو جهاز (الضبط والربط)([16]) في ديوانه الخاص، وأوكل إلى نائبه بالديوان «محمد بك لاظوغلي»[17] مهام الأمن السياسي والتجسس على منافسيه داخل مصر،

وكانت هذه أول المهام التي بدأ بها الجهاز. لاحقًا في عام 1831 قام محمد علي بإنشاء جهاز شرطة قوامه 60 شخصًا في مدينة الإسكندرية لحماية الأوروبيين، وكانوا يتحدثون إحدى اللغتين: الفرنسية أو الإيطالية.[18] وتعد هذه نقطة فارقة في تاريخ الشرطة، فقد وضعت نواة جهاز الشرطة على أساس حماية الأجانب والأغنياء، وهو ما أخذ يتطور مع مرور الحقب التاريخية المختلفة حتى أيامنا تلك، وكانت إحدى المهام الرئيسية الملازمة لعمل جهاز الشرطة حينها تتمثل في:

  1. جمع المعلومات عن المهتمين بالسياسة أو من لهم نشاط اجتماعي واسع، ومن يمكن أن يعتبروا تهديدًا لنظام الحكم.
  2. حماية المصالح الأجنبية والطبقات الغنية.

المحطة الثانية: محمد سعيد باشا (1854-1863) و«قلم المخصوص»

في عهد محمد سعيد باشا أُنشئ جهاز الداخلية سنة 1857 تحت اسم «نظارة الداخلية»، واستصدار لائحة داخلية توضح مهامه وصلاحياته، وكان قسم «قلم المخصوص» داخل النظارة مختصًّا بترتيب الحراسات، ومباشرة إجراءات تفتيش الفنادق والمنازل المعدة لإقامة الأجانب، والاتصال بالقناصل الأجانب فيما يخص القضايا المتعلقة برعاياهم. وكان جل العاملين بهذا القسم من الأجانب أو الشوام النازحين إلى مصر، ممن يجيدون اللغات الأجنبية، وهو يمكن اعتباره جهاز شرطة أجنبيًّا داخل جهاز الشرطة المصري.[19]

المحطة الثالثة: الخديوي توفيق باشا (1879-1892) وتطوير جهاز الشرطة وتوسيع صلاحياته

في عهد الخديوي توفيق باشا احتل البريطانيون مصر بذريعة حماية الخديوي من ثورة أحمد عرابي التي بدأت بعد نشوب اشتباكات بين الأهالي والأوروبيين بالإسكندرية، وقتل العشرات من المصريين والأوروبيين وأصيب المئات، كان من ضمن المصابين قنصل إنجلترا واليونان وإيطاليا،[20] وكان لجهاز الشرطة دور في قمع تلك الاحتجاجات والثورة، وهو أول دور قمعي ضد المصريين يقوم به جهاز الشرطة المصري بجانب بعض وحدات من الجيش، وخصوصًا الموجودة بالإسكندرية.

حيث أصدر الخديوي قرارًا بإلغاء الجيش المصري 1882 تمهيدًا لمحاكمة قادته وذلك بعد مشاركة معظم وحدات الجيش وقياداته مع عرابي في ثورته.

قامت بريطانيا بتعيين سفير جديد لها في أكتوبر 1882، اللورد دوفرين، لدراسة تنظيم أجهزة الدولة المصرية. وبعد انتهائه من الدراسة أرسل مجموعة من التوصيات كان لها دور كبير في إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية واختصاصاتها وتنظيمها الداخلي، وكان ذلك بعد الثورة التي شارك فيها بعض الضباط المصريين مع المتمردين ضد الأوروبيين ودعموا فيها أحمد عرابي، فكانت تلك التوصيات التي عُمل بها حلًّا للمشكلات التي كانت تمثل تهديدًا للمصالح الأوروبية والبريطانية في مصر، وجاءت كالتالي:

  1. تعزيز قوات الشرطة على حساب تصفية قوات الجيش، فصار تعداد قوات الشرطة 7390 فردًا من بينهم 596 أوروبيًّا، بينما بلغ تعداد قوات الجيش 6174 فردًا.
  2. إيجاد قوات خاصة لقوات الشرطة تتبع نظارة (وزارة) الداخلية ولا تخضع لقيادة الجيش ولا لنظارة الحربية.
  3. حصر قيادة قوات الشرطة في يد مفتش عام بريطاني، يعاونه مساعدون بريطانيون وأوروبيون.
  4. عزل الشرطة عن الإدارة المصرية، بسحب سلطة المحافظين والمديرين والمأمورين المصريين على قوات الشرطة.
  5. منح الموظف الأوروبي ضعف راتب نظيره المصري.

لقد قام الاحتلال باعتقالات سياسية لكل من كان مؤيدًا لأحمد عرابي أو شارك معه، سواء داخل الجيش أو الشرطة، وكان من ضمنهم قائد الجيش ورئيس الوزراء وعدد كبير من الأعيان وشيوخ الأزهر، بلغ تعدادهم قرابة 29 ألف مصري، ونفذ أحكامًا متفاوتة بين الإعدام والنفي.

تعد تلك التوصيات والتعديلات تغييرًا كبيرًا وغرسًا لدور الأمن السياسي والذي كان لجهاز الشرطة بعد إعادة تشكيله دور رئيسي في تلك المرحلة، وفي عام 1888 تم تأسيس مكتب البوليس السري الذي كان يرأسه اللواء شارل بيكر، وكان يقوم بشكل خاص بجمع المعلومات، وقام بزراعة عديد من الجواسيس داخل الأسواق والمساجد. ويختص المكتب برفع تقارير سياسية عن الأوضاع الداخلية، وصلتها بالتطورات الخارجية.

ويوضح الدكتور عبد الوهاب بكر الفارق بين مفهومي الأمن الجنائي والسياسي قائلًا: (الأمن الجنائي لا يتجاوز التحقيق في الواقعة، واستجواب الشهود، وضبط المتهمين، وعرضهم على النيابة؛ بينما الأمن السياسي يتعلق بجمع المعلومات، وتحليلها، ورسم التوقعات، وترتيب الإجراءات المضادة بهدف إحباط العمل المعادي).

أخذ الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل سنة 1907 ينشط بشكل كبير، ويزرع القيم الوطنية المناهضة للاحتلال البريطاني. وعلى الرغم من أن سياق

إبراهيم الورداني
إبراهيم الورداني

الحزب الوطني هنا جاء بخطاب قومي يتبنى الهوية المصرية، فإن الاختلاف هنا بين مصطفى كامل ومحمد علي هو الدافع، فقد كان الدافع تحرريًّا مقاومًا للاحتلال، عكس محمد علي الذي كانت له دوافع سلطوية داخل أروقة الخلافة العثمانية، وكان إقليميًّا توسعيًّا.

لقد كان لذلك النشاط أثر في تطور عمل الأمن السياسي، وزاد بشكل كبير بعد أول عملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر الحديث لرئيس الوزراء بطرس غالي سنة 1910 على يد الصيدلي الشاب إبراهيم الورداني([21]) وأحد أعضاء الجمعية السرية «جمعية التضامن الأخوي» التي كان يجرم من ينتمي لها.

وقد اعترف باغتياله لبطرس غالي وقال إن السبب أنه خائن للوطن، وأخذت صوره في الانتشار، وهو ما استدعى تجريم كل من يحمل صورته من قبل الاحتلال البريطاني.

استقال ناظر الداخلية آرثر شيتي، وعين رونالد جراهام في ديسمبر 1910، الذي قام بإنشاء جهاز سري كان اسمه (مكتب الخدمة السرية للعمل السياسي)، وكانت الإضافة في نمط العمل لذلك الجهاز عن بقية الأجهزة هي أنه اعتمد على الاختراق والمرشدين ([22]) وكانت مهامه هي:

  • جمع المعلومات عن الجمعيات السرية ومراقبتها.
  • مراجعة بيانات الموظفين المصريين بالحكومة.
  • مراقبة خطب الجمعة.
  • مراقبة الطلبة الهنود بالأزهر ونشاطهم المناهض للإنجليز.
  • تقديم تقارير يومية عن الحالة السياسية للمندوب السامي البريطاني وسراي الخديوي.

لاحقًا، قام المكتب في سنة 1912 بإنشاء فروع خارجية له في لندن وباريس وجنيف لمتابعة نشاط الحزب الوطني وكوادره، وعلى رأسهم محمد كمال.

المحطة الرابعة: الثورة على الإنجليز سنة 1919

بعد ثورة 1919 في مارس، أخذت عمليات المقاومة تزداد وتتسع لتشمل ضباط الجيش البريطاني ورئيس الوزراء، وهو ما ترتب عليه إنشاء جهاز جديد اسمه «القسم المخصوص» أشرف على إنشائه مدير المخابرات بوزارة الحربية المصرية كلايتون، وكان القسم كله من البريطانيين باستثناء فرع القاهرة الذي تولاه سليم زكي المصري، واختص بأعمال الأمن السياسي المضاد ومكافحة الأنشطة العنيفة، وكان يقوم بتحليل المعلومات وتصنيفها، ورسم التوقعات، وإرسال التقارير إلى المعتمد البريطاني الذي يرسلها بدوره إلى وزارة الخارجية بلندن.

يعطينا ذلك مؤشر هام من حيث التبعية الإدارية والعلاقات البينية بين الأجهزة الأمنية حيث ذهب الضباط الانجليز بالمساهمة بخبراتهم في تأسيس الادارات داخل جهاز الشرطة وعلى وجه الخصوص المضطلعة في الرقابة على مواطنين، وهو الأمر الذي نمى البعد الأمني وحور وظيفة الأمن لتذهب بالعمل ضد المجتمع باعتباره مصدرا للتهديد بدلا من حفظ أمنه.

وبالتوازي مع ذلك، عمل «مكتب مخابرات الشرق الأوسط» التابع للجيش البريطاني على متابعة التهديدات السياسية الخارجية تجاه مصر. وقد نجح في كشف أولى محاولات الشيوعيين لدخول مصر في عام 1912 عبر كشف نشاط شبكة الإيطالي بيزوتو، فضلًا عن شبكة جوزيف روزنتال التي كان معظمها من اليهود. وقد شملت دائرة اهتمامات «المخصوص» مراقبة:

  • نشاط الوطنيين المنخرطين في أعمال المقاومة ضد الاحتلال.
  • حزب الوفد والأحزاب الأخرى الناشئة.
  • النشاط الطلابي في الجامعات والمدارس.
  • الأزهر وشيوخه والحركة الطلابية بداخله.
  • العمال والنشاط النقابي والشيوعي.
  • الجاليات الأجنبية والنشاط التبشيري.
  • النشاط السياسي العربي.
  • قياس الرأي العام وتحليله.

في ذلك الوقت قامت «جمعية التضامن الأخوي» بعشرات عمليات الاغتيال، بلغت 46 عملية حتى عام 1924، كانت تستهدف المناصب العليا، وكانت تلك المرحلة هي أول مرة يتم فيها تفتيش البيوت دون إذن من النيابة، والذي شهد خلافًا وقتها. وكان الهدف من ذلك الاجراء هو أنه حين يتم مطاردة المطلوبين بعد تنفيذ عملياتهم كان يقوم المواطنين وعامة الناس بتهريبهم وإعطاء معلومات خاطئة عن عمد بقصد تضليل قوات الانجليز أو رجال الأمن المصريين.

وقد نجح جهاز “المخصوص” المختص بالأمن السياسي في كشف هوية منفذي الاغتيالات في عام 1924، بفضل جهود سليم زكي الذي نجح في إقناع السجين السياسي نجيب الهلباوي (كان مسجونًا منذ عام 1915) بقبول الإفراج عنه بعفو والتوظيف في الحكومة ونيل مكافأة مالية تبلغ 10 آلاف جنيه، مقابل المساعدة في الوصول للمجموعة التي تنفذ الاغتيالات، وهو ما حدث بالفعل.

إذ استغل الهلباوي ماضيه في العمل الفدائي كمدخل للانضمام للمجموعات المسلحة المناهضة للاحتلال، حتى وصل إلى المجموعة المطلوبة وكشفها للأمن، فأُلقي القبض على عناصرها، وأُعدم سبعة منهم في عام 1925.

المحطة الخامسة: توسع وظيفة الأمن السياسي في إطار مكافحة الشيوعية ونشأة جماعة الإخوان المسلمين وحتى 1952

اتسمت هذه المرحلة بعد عام 1925 بتوقيع مجموعة من المعاهدات؛ خصوصًا بعد القضاء على نشاط جمعية التضامن الأخوي، التي خرجت على أثرها القوات الأوروبية والبريطانية، وأُعطيت الإدارة للمصريين، وهو ما جاء على النحو التالي في المحطات التالية:

  • في عام 1930، أنشأ رئيس الوزراء صدقي باشا “مكتب العمل” لمواجهة تصاعد الحركة الشيوعية داخل مصر وعلى وجه الخصوص مع الأجانب العاملين داخل مصر، وتولى رئاسته مستر جريفز، وكان يعتمد على شبكة من المرشدين، وبعد إنشاء مكتب العمل صار جهاز الأمن السياسي يتشكل من القسم المخصوص على المستوى المركزي، والقلم المخصوص بالمحافظات، والإدارة الأوربية، وفرع مكافحة الشيوعية، ومكتب العمل. وخلال تلك المرحلة تحول جهاز الأمن السياسي بفروعه المختلفة إلى مركز ثقل في صنع السياسات الداخلية.
  • في سنة 1936، وُقعت معاهدة بين مصر وبريطانيا، حددت بقاء الأجانب في البوليس بخمس سنوات، وألغيت الإدارة الأوربية في عام 1937، وأضيفت أعمالها إلى إدارة عموم الأمن العام.
  • وفي السنة نفسها، 1936، تأسس بوليس حرس الجامعات ليصبح أداة القسم المخصوص في متابعة النشاط الطلابي بالجامعات.
  • وفي السنة نفسها، 1936، تأسس مكتب جديد بـ«المخصوص» سمي «مكتب مكافحة النشاط الصهيوني»، بعد اغتيال وزير المستعمرات البريطانية اللورد موين في القاهرة عام 1944 على يد أفراد عصابة شتيرن الصهيونية.
  • وفي سنة 1937 تأسس «مكتب الشؤون العربية» لمتابعة العرب الموجودين بمصر والطلبة العرب بالأزهر، ممن لهم نشاط سياسي معادٍ لإنجلترا.

خلال الحرب العالمية الثانية، ارتكز نشاط جهاز الأمن على مراقبة الألمان واعتقالهم، ومراقبة البريد، وتجارة المواد التي تدخل في الصناعات الحربية، ومكافحة المقاومة الوطنية، فكان ضباط المخصوص يقومون بإنشاء جمعيات سرية لمعرفة الرموز الطلابية التي تضطلع بأدوار في مقاومة الاحتلال، وإرسال التقارير عن نشاط «الإخوان المسلمين» الذي أخذ يتوسع خلال تلك الفترة إلى السفارة البريطانية، وكان التركيز هنا على أربع فئات، هي: الشيوعيون، والمعارضة، و«الإخوان المسلمون»، ومن يقومون بمهاجمة الضباط الإنجليز والبريطانيين.

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، زاد نشاط جماعة «الإخوان المسلمين» تجاه الاحتلال، وتوسعت العمليات؛ خصوصًا مع الدور الذي قاموا به خلال حرب فلسطين سنة 1948.

فأصدرت الحكومة قرارًا سنة 1948 بعد مقتل اللواء سليم زكي، بحل جماعة «الإخوان المسلمين» ومصادرة ممتلكاتها وأموالها، وقاموا باعتقال ما يقرب من 6 آلاف من أعضاء الجماعة، وبعدها تم اغتيال مؤسس الجماعة حسن البنا سنة 1949، وبحلول عام 1949 كان القسم المخصوص يحتفظ في أرشيفه بأكثر من 150 ألف ملف شخصي، وهو رقم كبير بالمقارنة مع تعداد السكان حيث كان التعداد حينها 18 مليون مواطن.

بناء المناعة من الثورات وحركات المقاومة

توضح الاشكال التالية المحطات المهمة خلال فترة حكم أسرة محمد علي، والتي أخذت تتطور فيها الأجهزة الشرطية بصفة تستند بشكل رئيسي على مراقبة السياسيين والمعارضين ومتبني الأفكار التي يعتبرها النظام تهديدًا له سواء كانوا يتبعون «الإخوان المسلمين» أو الشيوعين، وهو ما أصَّل في سلوك ومنهجية عملها، وتبعية رفع تقاريرها للخارج. ومع كل ثورة وحراك جماهيري تقوم المنظومة بتحصين نفسها واكتساب صلاحيات أوسع، لوأد أي بذور للثورة وللحفاظ على الأنظمة الحاكمة أكثر من كونها حافظة للأمن.

تطور البنية المؤسسية والوظيفية لجهاز الشرطة بعد ثورة عمر مكرم
تطور البنية المؤسسية والوظيفية لجهاز الشرطة بعد ثورة عمر مكرم

شكل رقم 1 تطور البنية المؤسسية والوظيفية لجهاز الشرطة بعد ثورة عمر مكرم

 

تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية
تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية

شكل رقم 2 تطور البنية المؤسسية والوظيفية لجهاز الشرطة بعد ثورة أحمد عرابي

 

تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية
تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية

شكل رقم 3  تطور البنية المؤسسية والوظيفية لجهاز الشرطة بعد ثورة 1919 ضد الاحتلال الانجليزي

 

تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية
تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية

شكل رقم 4  توسع النضال والاحتجاجات بعد 1924

من تلك المحطات نجد أن نشأة البوليس السياسي أخذت تتطور من خلال عاملين رئيسيين: الأول الحراك الشعبي والجماهيري الواسع ضد النظام الحاكم، أما العامل الثاني فهو اتساع نشاط وعمليات المجموعات المناهضة للاحتلال الإنجليزي؛ خصوصًا في عمليات الاغتيال للرموز السياسية والضباط الكبار، وأخذ هذان العاملان يؤثران بشكل فاعل في تطور أدوات جهاز البوليس السياسي؛ فمع كل عملية اغتيال كبرى نستطيع أن نرى التوسع في مهام وصلاحيات جهاز البوليس السياسي.

وخلال المحطة الخامسة التي ذكرناها أخذ الجهاز يتعامل مع أي معارض على أنه تحت دائرة الاشتباه ومهدد للنظام والدولة، باعتباره عملًا أصيلًا وركيزة في فلسفة الوظيفة الأمنية للوزارة كلها. ومع توسع الصلاحيات والمهام أخذ جهاز البوليس السياسي يوظف جميع القطاعات والإدارات بالوزارة لتكون تابعة له. وقد ترأس وزارة الداخلية مديرو قطاع أمن الدولة أو الأمن الوطني، في تأكيد على مركزية الجهاز في إدارة الوزارة، مثل حسن أبو باشا، وحبيب العادلي، ومجدي عبد الغفار، ومحمود توفيق.

توظيف البوليس السياسي في إدارة المرحلة الانتقالية..مقارنة بين عبد الناصر والسيسي

يخفى على كثير أن جمال عبد الناصر كان أول وزير للداخلية بعد سقوط الملك فاروق. ولعل ذلك كان له تأثير على جمال عبد الناصر ، بعد أن وقع تحت يده جميع ملفات المعارضين للملك والمعلومات المهمة المرتبطة بنشاطهم وتحليل شخصياتهم والتي كانت بحوزة جهاز البوليس السياسي التابع لوزارة الداخلية، وهو ما جعل جمال عبد الناصر يمتلك أوراقًا للمباغتة واللعب على الأطراف الداخلية، وإحكام السيطرة عليهم.

بالتأكيد كانت لتلك الأطراف عدة فرص لتغير مجريات الأحداث حينها، ونحن هنا لسنا في سعة لنقاش ذلك البعد؛ لكن الأهم هنا هو المعلومات التي تحصل عليها جمال عبد الناصر. ولعل خلفيته العسكرية أهلته لإحكام السيطرة على الجهاز وإخضاع العاملين فيه له.

مع قدوم عبد الناصر رئيسًا أخذ يعتمد على الثلاثي: زكريا محي الدين، وصلاح نصر، وشعراوي جمعة، في إعادة تشكيل جهاز البوليس السياسي، وتوسيع صلاحياته لجمع المعلومات ضد كل من يعارض عبد الناصر، وقد ساهموا خلال الأحداث التي مرت بها مصر في تلك الفترة في تقوية الجهاز.

يشترك السيسي هنا مع عبد الناصر في سيطرتهما على جهاز أمن الدولة (البوليس السياسي) بعد حراك جماهيري واسع استطاعوا بعده توظيف المعلومات التي تحصلوا عليها في إدارة المرحلة الانتقالية بما يحقق مصالحهم، فالسيسي سيطر على «أمن الدولة» بعد عمليات اقتحام مقرات الجهاز، وعبد الناصر بعد أن تولى الوزارة بعد سقوط الملك. وبعد وصول السيسي للسلطة لم يقم بإصلاحات تمس جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقا)، ولكنه قام بتعظيم إمكانياته التقنية والفنية للتوسع بشكل أكبر في التجسس ومراقبة المواطنين،

ورسم العلاقات الشبكية للحركات والجماعات والأحزاب، وكل من شارك في ثورة يناير، وأصبح جهاز الأمن الوطني يمتلك من الأدوات والأساليب التي تعطي السلطة مفاتيح إدارة المعارضين، وخريطة شاملة لهم، وأوزانهم، وقوة تأثير كل حزب أو جماعة، والعناصر المؤثرة والفاعلة في صفوفها، ونقاط قوة وضعف كل عضو بها؛ خصوصًا ممن يساهمون في اتخاذ القرارات داخل الأحزاب أو الجماعات أو الحركات.

في نفس الوقت اتجه السيسي لتعظيم تسليح القوات الخاصة التابعة لوزارة الداخلية، وأنشأ قوات مشتركة بين الجيش والشرطة لمكافحة الإرهاب، فأعاد تفعيل قانون الطوارئ الشهير، 162 لسنة 1958، وأخذ يطور قدرات وزارة الداخلية لتصبح لها قوات عسكرية مدربة بشكل عالٍ لمواجهة أي احتجاجات أو مظاهرات.

عناصر تشكل مفهوم الأمن عند ضباط وزارة الداخلية والمنتمين لها

يمكن أن نستخرج هنا بعد استعراض الحقب التاريخية التي نشأ فيها جهاز الشرطة ثلاثة عناصر رئيسية ساهمت في تشكيل مفهوم الأمن لدى الضباط والمجندين

 شكل رقم 5 عناصر تشكل مفهوم الأمن عند ضباط الداخلية والعاملين بها

شكل رقم 5 عناصر تشكل مفهوم الأمن عند ضباط الداخلية والعاملين بها

العاملين بوزارة الداخلية: الأول هو عنصر القومية أو الوطنية كما يعرفها النظام، والعنصر الثاني هو حماية الطبقات الغنية، وهي التي كانت تتمثل في الأوروبيين والإقطاعيين، مع ازدياد الانتهاكات بحق المواطنين لحساب الأجانب والأغنياء، وضعف التواجد داخل القرى والمراكز لحفظ الأمن بها،

فتلك المناطق كان يتم حفظ الأمن داخلها من خلال شبكاتها الاجتماعية أكثر من اعتمادها على أفراد جهاز الشرطة، وهو ما ساهم في حصر مفهوم الأمن عند الضباط والمجندين المنتمين لوزارة الداخلية لصالح السلطة العليا والطبقات الغنية؛ وعلى حساب بقية قطاعات المواطنين والمجتمع والتي أصبحت على هامش الاهتمام الأمني لجهاز الشرطة.

أما العنصر الثالث والأهم فهو مراقبة المعارضين للنظام، أو كل من يمكن أن يمثل تهديدًا للنظام، ومع توسع الوظيفة المتعلقة بمراقبة المعارضين أخذ يتشكل مفهوم الأمن، وأخذ الضباط والعاملون في وزارة الداخلية في الدفاع عن النظام لمسوغات مختلفة، تتمثل في مفهوم القومية الذي زرعه محمد علي مع تشكيله للجيش الحديث وجهاز الداخلية،

وهو ما جعلهم ينظرون إلى المفاهيم الأخرى باعتبارها مفاهيم مضادة، ولا يجب أن تكون حاكمة ومصدرًا محركًا لسلوكهم الوظيفي، ونحن نقصد هنا مفهوم الإسلام والقيم الحاكمة والمنظمة فيه؛ وتكمن المشكلة هنا في تحديد ما هو وطني من عدمه؛ حيث على الأغلب يقوم رأس النظام والمتحكم بالقوة بوضع معايير الوطنية، وما دونها هو خروج عن الدولة، والمقصد هنا النظام وليست الدولة.

وأخذ مفهوم النظام يختلط مع مفهوم الدولة عند العاملين في القطاع الأمني، فأصبحوا يرون التهديد للنظام على أنه تهديد للدولة، وهو ما جعل المفهوم مركبًا وأكثر تعقيدًا داخل عقلية ضابط الداخلية والأتباع العاملين بها.

فأصبح من ينتقد أو يعارض النظام خائنًا أو عميلًا لجهة خارجية. ومع تنامي سياق «الحرب على الإرهاب» عالمياً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أخذ النظام المصري في عهد حسني مبارك دمج مفهوم حماية الدولة ومصطلح الحرب على الإرهاب مع بعضهما، لما يمثله من مردود على المستوى السياسي والمستوى الأمني داخليًّا وخارجيًّا،

مع حرصه على عدم إشراك الجيش في تلك المسألة، والاكتفاء فقط بوزارة الداخلية. ومع قدوم حبيب العادلي على رأس جهاز الشرطة أخذ دور أمن الدولة يتعاظم ضد المعارضين السياسيين، وبشكل أساسي ضد «الإخوان المسلمين»، ومع تفجيرات طابا في 2004 أخذت وزارة الداخلية تضطلع بتلك المهمة تحت اسم «الحرب على الإرهاب»؛ دون انخراط للجيش أو جهاز المخابرات العامة بشكل فعال، لما فيه من مصلحة عند النظام المتمثل في حسني مبارك في الحفاظ على استقرار منظومة الجيش سياسيًّا، وعدم إشراكها في أدوار أخرى.

خاتمة.. معضلة تضارب المفاهيم

لعل ما جاء في مذكرات حسن أبو باشا «في الأمن والسياسة»، وكتاب حمدي البدران «يوميات ضابط في الأرياف»، وشهادة محمد إبراهيم في جلسات محاكمة مرسي، يمثل أحد الاستشهادات التي تعزز من فكرة ارتباك مفهوم الأمن لدى العاملين بجهاز الشرطة بين أمن النظام وبين أمن المواطن والمجتمع، كذلك ما أشار له حبيب العادلي خلال مرافعته عن نفسه خلال جلسات محاكمته بعد الانقلاب، تأكيد على تسمية «جهاز الأمن السياسي» التي ذكرها بالنص في أكثر من موضع، تأكيدًا على الدور الذي يقوم به الجهاز في التجسس على المواطنين بشكل عام،

وقيام الجهاز بتجنيد البعض، وتوظيف تلك المعلومات في النصح إذا كانت هناك أبعاد أخلاقية وسلوكية، وهو تأكيد على قوة الجهاز، وأكد أن الجهاز لم يستثنِ أحدًا من الرقابة والتنصت على الهواتف ومعالجة تلك المعلومات، بل انه عندما تحدث عن الثورة رأى أن النظام هو المستهدف بشكل أساسي وأنه كان يجب أن يحمي النظام، وكان يستخدم مصطلح “النظام” قبل استخدام مصطلح “البلد” أو “الدولة” أو “الحكومة”

وهو تأكيد آخر على الأولويات والقناعات المترسخة داخل عقلية القيادات العليا بجهاز الشرطة([23]). فأمن المواطن هنا ليس ضمن الأولويات الأولى لجهاز أمن الدولة.

وقد أشار وزير الداخلية أحمد رشدي إلى أن صفوت الشريف وزكريا عزمي كانا وراء أحداث الأمن المركزي، بسبب الحملات التي قام بها ضد تجار المخدرات والفاسدين([24])، وهو ما أثر على شبكات المصالح الفاسدة التابعة للحزب الوطني ورموزه، ما جعلهم يخططون وينفذون أحداث انفلات أمني لإقالة أحمد رشدي، وذلك ببث إشاعة بأن خدمة المجندين بالأمن المركزي ستزيد من ثلاث سنوات إلى خمس، والتضارب هنا كان له علاقة بالأولويات،

ما انعكس على مفهوم الأمن عند النظام، حيث قدم أحمد رشدي مفهوم أمن المجتمع أو «الأمن الجنائي» على حساب الأمن السياسي، خلال آخر فتراته قبل إقالته، وهو ما تسبب في خروج مقاومة لإعادة ترتيب الأولويات، بما يتناسب مع مفهوم الأمن المتسق مع النظام والمنظومة الحاكمة.

وقد قسَّم حبيب العادلي الارتباط بين المواطن المصري ورجل الشرطة ووزارة الداخلية إلى قسمين: الأول وصفه بــ«الصورة الجيدة» وهو الجزء المعني بالخدمات، مثل السجل المدني، واستخراج شهادات الميلاد والوفاة، والرخصة، وجواز السفر، والبطاقة، وطلب الإغاثة والنجدة. وقال إن ذلك يؤكد على ارتباط الحياة المعيشية للمواطن برجل الشرطة خلال حياته اليومية.

أما القسم الثاني فوصفه بــ«الصورة السيئة» وهو الجزء المعني بتنفيذ الأحكام، بداية من تطبيق الضبطية القضائية ومطاردة «الإرهابيين» وتجار المخدرات، وتنفيذ الأوامر القضائية، سواء السجن أو الإعدام([25]). وقد أشار حبيب العادلي بشكل غير مباشر في أكثر من موضع خلال مرافعته، إلى الدور الذي ساهمت فيه الثورة في ضرب مركزية الدور الذي تقوم به وزارة الداخلية مع المواطنين.

لقد أثرت مراحل تطور جهاز (البوليس السياسي) في تثبيت مفهوم الأمن عند ضباط الشرطة والعاملين في وزارة الداخلية، وهو ما يجعلهم في وضعية دفاع دائم عن النظام والسلطة، ففي حال لم يحدث تَغيُرات شاملة في مفهوم الأمن عند القيادة السياسية فلن نشهد إصلاحات أو تغيرات في الوظيفة والبنية الهيكلية، حيث أن ذلك الأثر ممتد إلى المستويات الدنيا داخل وزارة الداخلية، المتمثلين في أمناء الشرطة؛

حيث مارس بعضهم أنشطة وسلطة تجاه المجتمع مستندًا على ذلك المفهوم؛ حيث يقوم ضباط «أمن الدولة» حصرًا بتدريس مادة حقوق الإنسان في أكاديمية الشرطة للضباط وفي معهد أمناء الشرطة؛ لضمان عدم تشتت مفهوم الأمن واختلاطه بالمفاهيم المضادة لسلوك قطاع الأمن الوطني.

كما نجد التركيز على الأولويات طبقًا لذلك المفهوم على حساب الوظيفة الرئيسية تجاه المجتمع، فنجد على سبيل المثال أن معظم المدن والمجمعات السكانية الجديدة تحميها شركات حراسة خاصة، يديرها بشكل أساسي ضباط شرطة وجيش متقاعدون،

فأصبحت مهمة ووظيفة الأمن الأساسية للمواطن تباع بمقابل، ولضباط، وليس لقطاع خاص مستند على المدنيين. ونجد مناطق أخرى يقوم العرب بحمايتها؛ لأنها تقع تحت نفوذهم؛ ويقومون بأخذ أموال من المواطنين مقابل عدم سرقتهم أو التعدي على أراضيهم؛ بل إن وزارة الداخلية لجأت لبعض العرب لتأمين أبراج الكهرباء وكوابل الإنترنت بعد الانقلاب.

ما نريد أن نشير له هنا هو أن ذلك الدور السياسي الذي لعبته وزارة الداخلية قبل الثورة وبعدها يرجع لعدة أسباب: أولها أن قطاع «الأمن الوطني» دخل تحت إدارة السيسي خلال فترة إدارته للمخابرات الحربية وهو الذي صرح حينها أنه كان المسؤول عن جميع الأجهزة الأمنية بعد الثورة.

والثاني هو سلوك الأطراف السياسية نفسها بعد الثورة، الذي أخذ يتحول من منافسة إلى صراع، وأخذَت عدة أطراف تطالب وزارة الداخلية بالتدخل من أجل دوافع مختلفة، سواء المحسوبين على الإسلاميين أو اللبراليين والعلمانيين، وبالتأكيد كان للمخابرات الحربية دور في صناعة تلك الأحداث. وبغض النظر عن الأحداث وكواليسها فإننا يمكن أن نخرج بمحصلة واحدة، وهي أن معظم النخب السياسية كانت تفتقد للنضج والخبرة والمعرفة، وهو ما ساهم في صناعة البيئة التي أعطت لوزارة الداخلية دورًا فاعلًا بين الأطراف.

أما الأمر الثالث فهو البنية التنظيمية والمفاهيمية التي تستند عليها وزارة الداخلية؛ خصوصًا مفهوم «محاربة الإرهاب»، فحتى بعد أن قام العيسوي بإصدار قراره الشهير رقم 445 لسنة 2011 بحل «جهاز أمن الدولة» وأنشأ «قطاع الأمن الوطني»، استمر الجهاز بالعمل بنفس القيادات الوسطى وبعض القيادات العليا التي أكدت في اجتماعاتها مع ممثلي الثورة والأطراف السياسية بعد الثورة على الحفاظ على الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب والتجسس،[26] وهو تأكيد على دوره الأصيل، دون أن يرفق أي تعريف واضح لما هو وطني وما هو غير وطني، وما هو يندرج تحت الإرهاب وما هو لا يندرج تحت الإرهاب.

 

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

المراجع

[1]  موقع المبادرة المصرية لإعادة بناء الشرطة: http://www.policeforegypt.org/

[2] شرطة لشعب مصر، يونيو 2013، الإصدار الرابع، المبادرة الوطنية لإعادة بناء الشرطة.رابط

[3]  المؤتمر المصري الأول للنهوض: نحو دولة قوية ومجتمع مشارك: الإصلاح المؤسسي: عقد هذا المؤتمر بتاريخ 16 – 17 يوليو 2012.

[4]  اللواء صلاح حافظ، محمد محمود عبدالعال، رشا عبدالواحد، المؤسسة الأمنية (الشرطة) في مصر وتحديات الإصلاح، المؤتمر المصري للنهوض. رابط

[5]  عمر عاشور، اصلاح القطاع الأمني في مصر: المشكلات والتحديات، مركز بروكينجز الدوحة، 2012، رابط

[6] Ashour, Omar. “Security Sector Reform and the Arab Spring.” SETA Perspective 16 (2014): 2.

[7] Sayigh, Yezid. Missed Opportunity: The Politics of Police Reform in Egypt and Tunisia. Universitäts-und Landesbibliothek Sachsen-Anhalt, 2015.

[8]  محمد علي نصر، دليل اصلاح جهاز الشرطة إداريا وتشريعيا، 2014،

[9] عبد الوهاب بكر محمد، الوجود البريطانى فى الجيش المصرى : ١٩٣٦-١٩٤٧ ، دار المعارف، 1982

[10] عبد الوهاب بكر محمد، البوليس المصري، مكتبة مدبولي، 1992

[11] مذكرات ضابط في البوليس السياسي، محمد عبد العزيز، يناير 2015، ط 1.

[12] الشرطة والنضال الوطني (1881 – 1981) – مركز بحوث الشرطة، ط. 1982.

[13] أحمد مولانا، (جذور العداء)، ط1، 2013.

[14]  أحمد مولانا، تاريخ أجهزة الأمن السياسي في مصر، موقع البوصلة، https://nr.tn/3o8ocQA

[15] Fahmy, Khaled, and Ḵālid Maḥmūd Fahmī. All the Pasha’s men: Mehmed Ali, his army and the making of modern Egypt. Vol. 8. Cambridge University Press, 1997.

([16]) يقصد بالضبطالأعمال الشرطية المتعلقة بضبط الجناة، والتحقيق معهم، وإرسالهم للمحاكمة، وفض الخصومات والمنازعات اليومية بين المواطنين، وهي الأعمال نفسها التي تقوم بها أقسام الشرطة حاليًّا. أما أعمال الربط فيقصد بها: حفظ الأمن عبر الدوريات، وحراسة أماكن الاحتجاز (الحبسخانات)، والتصدي لغارات المناسر والبدو، وحراسة بوابات المدن. وكان قسم الربط يتبع ديوان الوالي –ثم الخديوي فيما بعد- بينما يتبع قسم الضبط ديوان الجهادية (الجيش).

[17] هو نفسه اسم الشارع المطل على مقر وزارة الداخلية الرئيسي في وسط القاهرة بجانب ميدان التحرير

[18]عبد الوهاب بكر محمد،  (البوليس في مصر، 1805-1922) رسالة ماجستير غير منشورة، آداب عين شمس، عام 1977،  ص:478.

[19]  نفس المصدر السابق.

[20] نفس المصدر السابق

([21]) إبراهيم ناصف الورداني، كان وقتئذٍ شابًّا في الرابعة والعشرين. رُبي يتيمًا في كفالة أحد أقاربه من الأعيان، وأرسله بعد إنهاء دراسته بتفوق ليدرس الصيدلة في سويسرا 1908 ثم إلى إنجلترا حتى عام 1909 لمتابعة الدراسة، فحصل على شهادةٍ في الكيمياء، وعاد إلى مصر في يناير1909، ليفتتح صيدلية. كان عضوًا في الحزب الوطني. تحول إبراهيم ناصف الورداني إلى بطلٍ شعبي ورمزٍ وطني تُنظم فيه الأشعار والأزجال، ومنها الشعر الشعبي: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي لاحسن غزال البر صابح ماشي».

([22]) الاختراق: عبر زج عناصر تابعة لمكتب الخدمة في صفوف الوطنيين للتعرف عليهم عن قرب، ورصد نقاط ضعفهم، وتوريطهم في مشاكل نسائية أو مالية يمكن ابتزازهم بها. والمرشدون: عبر تجنيد شبكة من العاملين بالمؤسسات الحكومية وغيرها لمتابعة رفاقهم، ورفع تقارير عن ميولهم السياسية.

([23]) مرافعة حبيب العادلي خلال جلسات «محاكمة القرن»، 13 أغسطس 2014، https://www.youtube.com/watch?v=k1I2ahFOYjc

([24]) محمد صلاح الزهار، الوفد، 2011، أغسطس، https://bit.ly/2z8vRts، وسيد عبد العاطي، الوفد، ديسمبر 2014 https://bit.ly/2WuzIJI

([25]) مرافعة حبيب العادلي خلال جلسات «محاكمة القرن»، 13 أغسطس 2014، https://www.youtube.com/watch?v=k1I2ahFOYjc (الدقيقة 57 بعد الساعة).

[26] حسام بهجت، عن زيارتي الأولى لقطاع الأمن الوطني (أمن الدولة مدينة نصر سابقا؟)، موقع المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 2011، https://bit.ly/3hBFseQ

 

 أيام الديكتاتور الأخيرة

حالة الإصلاح التجاري في مصر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى