تحليلات وأبحاثسياسات

الصعود إلى الهاوية لماذا فشل الإخوان المسلمين في إدارة التغيير السياسي في مصر؟

الصعود إلى الهاوية لماذا فشل الإخوان المسلمين في إدارة التغيير السياسي في مصر؟

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.                            

pdf  PDF in English Language

مقدمة

عدم نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الاستمرار في الحكم لفترة طويلة كان مفاجأة لعدد كبير من مؤيديها. قبل ثورة يناير 2011 كان يُنظر إلى جماعة الإخوان المسلمين من جانب مؤيديها ومن جانب قطاع معتبر من معارضيها على أنها الجماعة الأكثر تنظيمياً في مصر، وفي حال حدوث تغيير سياسي في الحكم فستكون المرشح الأبرز للعب أدوار رئيسية في هذا التغيير، وفي هذا الإطار كتب ستيفن كوك تقريرا في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية -قبل أشهر قليلة من ثورة يناير- توقع فيه حدوث تغيير سياسي في مصر قريباً وأنه سيكون للمؤسسة العسكرية والإخوان الدور الأكبر في تحديد مصير هذا التغيير[1] .

 

لكن ما حدث بعد ذلك، كان مفاجئا لمؤيدي الإخوان المسلمين قبل معارضيهم فلم تستطع الجماعة البقاء في الحكم أكثر من عام واحد، ليس هذا فحسب، بل إن خروجها من الحكم كان مصحوبا بسياسات منظمة اتخذها النظام الذي تشكل بعد الانقلاب العسكري من أجل القضاء على التنظيم داخل مصر وشل أي قدرة له على الحركة والفاعلية في حملة أمنية لم تشهد لها الجماعة مثيلا منذ الخمسينات والستينات.

 

يمكن تفسير هذا الإخفاق السياسي بإحالته إلى عدد من العوامل الخارجية، كالبيئة الإقليمية التي وقفت ضد التحول الديموقراطي في مصر وبالأخص من دول الخليج، أو من خلال عامل النخب السياسية المصرية التي لم تكن لديها القدرة الكافية على إدارة التغيير السياسي بشكل فعال و لعبت في مواقف كثيرة أدوارا سلبية بهذا الخصوص، ويمكن تفسير هذا الإخفاق من خلال الأدوار التي قامت بها  المؤسسة العسكرية سواء خلال الفترة التي  أدارت فيها المرحلة الانتقالية أو من خلال دعم الانقلاب العسكري أثناء فترة أول رئيس مدني منتخب الدكتور محمد مرسي، ثم تنفيذ هذا الانقلاب لاحقاً، وتشترك هذه العوامل جميعاَ في أنها عوامل من خارج جماعة الإخوان المسلمين، لذا فإن قدره الجماعة على السيطرة عليها أو التحكم بها تبقى محدودة.

 

وبدلاً من التركيز على العوامل الخارجية، فإن هذه الورقة البحثية تسعي لتفسير إخفاق جماعة الإخوان المسلمين في إدارة التغيير السياسي في مصر من خلال التركيز على العوامل الداخلية الموجودة لدى الجماعة والتي أدت إلى حدوث هذا الإخفاق، من خلال استقراء المصادر المختلفة، وبالعودة إلى الأحداث التي مرت بها الجماعة عشية ثورة يناير وما تلاها من أحداث، فإن الورقة تُظهر أن غياب المشروع السياسي واضح المعالم والمتفق عليه كان من الأسباب الرئيسية الداخلية لدى الجماعة التي ساهمت في حدوث هذا الإخفاق في إدارة التغيير السياسي.

 

اعتمدت الورقة على المصادر الثانوية المحكّمة التي تناولت هذه الظاهرة كالمقالات المحكمة والكتب الأكاديمية والرسائل الجامعية التي كُتبت عن الجماعة خلال السنوات العشر الماضية.

 

كخطوة أولى، بدأ الباحث باستخدام محرك البحثGoogle Scholar  للبحث عن الأوراق المكتوبة باللغة الإنجليزية التي تناولت الإخوان المسلمين في مصر والتي صدرت بعد عام 2011 والتي لها علاقة بالسياسات أو السياسة، ومن خلال الفحص الأولى، تولد لدى الباحث عدد من الأوراق الرئيسية التي تناولت هذا الموضوع بشكل مركز، ومن خلال الاطلاع على هذه الأوراق، استطاع الباحث الوصول إلى أوراق أخرى ذات صلة وثيقة بالموضوع إضافة إلى متابعة عدد من الباحثين الذين تناولوا هذه الموضوع بصورة منتظمة، ثم في جولة تالية، وباستخدام نفس المحرك البحثي، قام الباحث بالبحث عن الأوراق المكتوبة باللغة الإنجليزية والتي تناولت السياسات الاقتصادية لجماعة الإخوان المسلمين والتي صدرت بعد العام 2011، ورغم أن المصادر العربية التي تناولت الإخوان المسلمين في السلطة كثيرة، لكن الأوراق المحكمة منها أو المنشورة في مجلات أكاديمية قليلة جدا؛ لذا اكتفي الباحث بالتركيز على الأوراق التي تناولت السياسات الاقتصادية للإخوان المسلمين والتي ساهمت في تحفيز حالة الجدل والنقاش الإيجابي حولها.

 

خصّ البحث السياسات الاقتصادية بالتركيز لتكن مثال عملي مهم للسياسات العامة التي تبنتها الجماعة، ولأن جزءًا من تقييم هذه النقاش تم من خلال المواقع الإلكترونية وصفحات الجرائد، فقد عاد الباحث إلى السجالات والنقاشات التي تمت حول السياسات الاقتصادية للإخوان المسلين والتي ساهم فيها باحثون ومتخصصون في هذا المجال.

 

كان الباحث في أحيان كثيرة جزءا من هذه الأحداث ومشاركا فيها، لكن في محاولة لتجنب الآثار السلبية للانحيازات الشخصية للباحث، ومن أجل أن يتصف البحث بمزيد من الموضوعية، فضّل الباحث في اختياراته الاعتماد في البداية على الأوراق الأكاديمية المكتوبة باللغة الإنجليزية من باحثين من خارج الوطن العربي، ليس لأنهم الأفضل بالضرورة، فهناك أوراق مميزة مكتوبة باللغة العربية من باحثين عرب، ولكن من أجل اختيار الأوراق التي اتسمت بالطابع التحليلي الأكاديمي بشكل واضح وكتبت بالأساس لأغراض أكاديمية. المعيار التفضيلي الثاني الذي اختاره الباحث هي الأوراق التي اعتمدت في مادتها على المقابلات الشخصية مع أعضاء من جماعة الإخوان المسلمين أو التي كانت بناء على أبحاث ميدانية، بحيث تكون استنتاجاتها الرئيسية حصيلة الملاحظة والتجربة الميدانية.

 

لا تزعم الورقة أنها قامت بحصر شامل لكل الأوراق التي تناولت هذا الموضوع باللغة الإنجليزية، لكنها حاولت أن تقدم عرضا يتسم بالشمول والعمومية لأهم الأفكار والنقاشات التي دارت حول هذا الموضوع، ورغم أن الورقة تركز على حالة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فإنها أيضا تسعي لإضافة مساهمة بحثية تجيب على سؤال أكبر هو: لماذا تفشل الحركات السياسية في إدارة التغيير السياسي أثناء مراحل التحول الديموقراطي؟

 

لقد نمت دراسات التحول الديموقراطي خلال العقود القليلة الماضية، وكانت هناك إسهامات نظرية مختلفة لفهم كيف يحدث الانتقال الديموقراطي[2]. وظهر الكثير من الدراسات والأوراق الإمبريقية التي تحاول فهم عملية التحول الديموقراطي والعوامل التي يمكن أن تؤثر عليه بما يحدد فرص نجاحه أو فشله[3]، وقد شملت هذه الدراسات تركيزا على عدة عوامل منها: دور النخب السياسية[4]، أو الأحزاب السياسية[5]، أو العامل الخارجي[6]، وغير ذلك من العوامل لتحديد مصير التحول الديموقراطي، وتأتي هذه الورقة البحثية محاولة إثراء النقاش في دراسات التحول الديموقراطي من خلال التركيز على دور المشروع السياسي في التأثير على طريقة إدارة العملية السياسية؛ أملا أن تساهم في سد فجوة لم تحظَ بالقدر الكافي من الدراسة في الأوراق التي تناولت الربيع العربي[7].

 

الورقة تتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها حركة سياسية تسعي لإدارة عملية التغيير السياسي في مصر لصالح مشروع التغيير الخاص بها. لذلك تركز الورقة على البرامج السياسية والسياسات التي قدمتها جماعة الإخوان المسلمين في الفترة من 2011 وحتى منتصف 2013، ولا تركز الورقة على المقاربة الفكرية المرتبطة بالسياسات، ولا تحليل الأفكار والتصورات الفكرية التي قدمتها الجماعة، ولا الأسس الفكرية والايدولوجية لهذه التصورات، بل تهدف إلى التركز بشكل أكبر على السياقات العملية، وكيف تفاعلت هذه التصورات والرؤى مع الواقع السياسي والاقتصادي المحيط بها بحيث أثرت فيه وتأثرت به في تصورها للمشر وع السياسي والسياساتي، وبتعبير آخر  تسعى الورقة للربط بين هذه الأفكار المكتوبة في البرامج والسياسات وبين الواقع المادي الذي تحركت فيه هذه الأفكار وتفاعلت معه، ومن خلال رصد وتحليل هذا التفاعل بين هذه التصورات والأفكار من جهة، مع الواقع والبنية السياسية والاقتصادية من جهة أخرى، يمكن لنا المساهمة في الإجابة على سؤال: لماذا لم تستطع الجماعة التفاعل مع هذا الواقع بالقدر الكافي؟

 

الفصل الأول: الدعوة السياسية من موقع المعارضة

قبل البدء في بحث ما حدث بعد ثورة يناير 2011، يمكننا ملاحظة أن أغلب المنضمين لجماعة الإخوان المسلمين كان الدافع وراء التحاقهم بالجماعة دوافع دعوية وليست سياسية، ولم تقدم الجماعة نفسها -بشكل صريح- قبل عام 2011 كحزب سياسي يسعى إلى الوصول للسلطة، وحتى في المواضع التي شاركت فيها في مناسبات حزبية أو انتخابية فإن الدافع الأساسي لهذه المشاركة كانت “الدعوة السياسية” وليس الوصول إلى الحكم أو التأثير في صنع السياسات العامة.

 

نستخدم الدعوة السياسية في هذا البحث بشكل قريب من استخدام الباحث سامر شحاته لها بأنها “شكل من أشكال المشاركة الانتخابية في الأنظمة شبه السلطوية، حيث المشاركة في الانتخابات ليست في الأساس من أجل الفوز بالمقاعد أو التأثير على السياسة أو التحكم في الموارد، بل يكون الهدف منها نشر رسالة المنظمة وتوسيع نفوذها؛ من أجل تحقيق هدف نهائي هو التأثير الاجتماعي والتغيير السياسي”[8].

 

لقد كان التغيير السياسي وإدارة الدولة فكرة حاضرة في أدبيات الإخوان المسلمين وفي تنظيراتهم أيضاً، لكنها كان ذلك هدفا بعيدا، في حين كانت الأهداف القريبة تتمحور حول نشر دعوة الإخوان المسلمين بين أكبر عدد من المصريين، وضم أعداد متزايدة إلى الجماعة، وكسب التأييد والتعاطف الشعبي في المواقف المختلفة.

 

لقد كانت الأهداف السياسية حاضرة في الخطاب والرؤية، لكنها كانت مفقودة في السلوك والممارسة، فالجماعة شاركت في آخر ثلاثة انتخابات برلمانية قبل ثورة يناير، لكن لأسباب ليس لها علاقة مباشرة بالأهداف السياسية، فالانتخابات البرلمانية في هذ الوقت لا تتسم بقدر كبير من النزاهة والشافية ويمكن التلاعب بنتائجها بسهولة، وتؤدي في النهاية إلى برلمان بلا أي صلاحيات حقيقة أو أنياب، ويورد الباحث سامر شحاته أسبابا لتفسير هذا السلوك:

السبب الأول: أن أوقات الانتخابات تكون فرصة للجماعات السياسية النشطة داخل أنظمة سلطوية في تعويض غياب مساحة المشاركة العامة داخل هذه الأنظمة والتواصل مع الجمهور بصورة أكبر. ففي أثناء الانتخابات ترتخي القبضة الأمنية قليلاً، بالمقارنة مع الأوقات السابقة.

 

أما السبب الثاني: فهو أن الانتخابات تكون فرصة لتوصيل الرسالة السياسية للإخوان المسلمين لمجموعات أكبر وأكتر تنوعاً من المواطنين، أي أن الانتخابات تتحول بهذه الطريقة عند الإخوان كوسيلة دعوية تحاول من خلالها إيصال رسائلها السياسية دون أن يعني ذلك أن الجماعة راغبة فعلاً في العمل للوصول للسلطة أو التأثير في صنع السياسات.

 

لقد غابت السياسة في صورة سياسات وبرامج عامة لخدمة المواطنين، وغابت السياسة التي تعني الرغبة في التأثير في صنع القرارات أو السيطرة عليها، لتحل بدلاً منها “الدعوة” التي تهتم بالمقام الأول بنشر الأفكار وتجميع الأنصار، مع حضور الخدمات المحلية على مستوى الدوائر والأحياء.

 

إن سياق جماعة الإخوان المسلمين قبل عام 2011 يوفر لنا ملمحا أوليا عن الأسباب التي أدت إلى خروج السلوك السياسي للإخوان المسلمين بعد عام 2011 بالشكل الذي انتهي إليه، لقد غابت السياسة وحضرت الدعوة، فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة دعوية لديها أنشطة سياسية، ولم تكن جماعة سياسية لها ظهير شعبي دعوي يساندها، كان هدف الجماعة هو ضم الناس للتنظيم، وليس العمل على الوصول لحكم مصر أو التأثير في صنع السياسات العامة للدولة. لكن ليس هذا فقط هو الملمح الوحيد في تلك الفترة، فممارسة السياسية من موقع رد الفعل المعارض للسلطة وليس من موقع الفاعل السياسي الذي له مجموعة من الانحيازات والأهداف السياسية والسياساتية التي يعمل على تحقيقها كان هو الملمح الثاني.

 

لقد غاب المشروع السياسي المتكامل والمتجانس بين أجزاءه، وحل بدلاً منه الحصول على شعبية أكبر من خلال تبني مواقف معارضة لسياسات النظام، وبدل أن يكون تركيز الجماعة على تطوير رؤية سياسية من منظورها الإسلامي الذي تتبناه، ركزت الجماعة اهتمامها على تقديم نقد للسياسات والبرامج الحكومية وإظهار العوار بها، وبالنظر للجانب الاقتصادي سيظهر هذا بشكل واضح.

 

تقدم الباحثة التركية إيفريم جورمش تدليل على هذا[9]، فأثناء فترة نظام عبد الناصر، كانت نسخة “الإسلام الاشتراكي” هي الغالبة بين الدعاة الإسلامين باعتبارها الأقرب لروح الإسلام. وفي هذه الفترة كان الأكثر رواجاً بين الإسلامين أن دور الدولة هو توفير السلع الأساسية، وأن تتدخل الحكومة بشكل منتظم من أجل دعم الفقراء والمهمشين، لكن مع قدوم السادات إلى السلطة، فإنه عمل على إدخال اقتصاد السوق كأيدولوجية اقتصادية بديلة لما كان موجودا في الفترة الناصرية، وكان رد فعل الإخوان هو تأييد هذا التحول الأخير على اعتبار أن الإسلام يدافع عن الملكية الخاصة ويشجع الاستثمار، ويضاف لذلك أن السياسات الاقتصادية الجديدة تمثل فرصة لإظهار معارضة الإخوان لسياسات عبد الناصر السابقة وإظهار أنها كانت سياسات خاطئة، ومن الناحية العملية، فقد استفاد الإخوان من هذا التوجه الجديد من خلال استثمارات واسعة داخل مصر؛ مستفيدين من الأموال التي جمعوها في الخليج والدول الأوربية أثناء فترة هجرتهم خارج مصر في الحقبة الناصرية.

 

أما بخصوص العقد الأخير من نظام مبارك، فقد كانت السياسات النيوليبرالية المؤيدة لنظام السوق والراغبة في الحد من التدخل الحكومي في الاقتصادي قد أصبحت هي المهيمنة، فماذا سيكون موقف جماعة الإخوان؟

 

في العلن ومن خلال التصريحات الرسمية، سيكون من المفيد للجماعة سياسياً إظهار معارضة هذه السياسات كون ذلك يكسبها مزيدا من الشعبية أمام المواطنين، لكن من الناحية العملية، كان هناك قطاع واسع من رجال الأعمال والطبقة الوسطى العليا داخل الإخوان مستفيدة من هذه السياسات الاقتصادية الجديدة ولا تجد فيها مشكلة، لكن هذه الأصوات لم تظهر خلال هذه الفترة، وظلت النغمة المعارضة لهذه السياسات هي صاحبة الصوت الأعلى. والشاهد من هذا المثال، أن موقع رد الفعل لسياسات النظام، وليس موقع الفاعل كان هو المحرك الأساسي لمواقف الجماعة في السياسة والسياسات العامة، هذا الموقع -رد الفعل المعارض- لم يساعد الجماعة على إنتاج نسخة خاصة بها لمشروعها السياسي والسياساتي.

 

الفصل الثاني: تاريخ من الصراعات الداخلية المؤجلة:

قبل عام 2011 كان مشهورا بين الكتاب والسياسيين أن من أهم ما تتميز به جماعة الإخوان المسلمين، التماسك التنظيمي والإيديولوجي الذي مكّن الجماعة من الاستمرار والحراك بشكل فاعل خلال حراك ثورة يناير ٢٠١١، لكن ما كشفت عنه ثورة يناير، هو أن هذا الشكل الخارجي من التماسك كان يخفي بداخله تاريخا طويلا من الخلافات الأيدولوجية بين تيارين رئيسيين -على الأقل- كما سنعرض لاحقاً، وأنه كلما سارت الظروف لإظهار هذه الاختلافات، فإن الجماعة كانت تلجأ لتأجيل حسم هذه الاختلافات والموقف منها من خلال استراتيجية الهروب إلى المستقبل للإفلات من الإجابة على هذه الأسئلة، وبدلاً من محاولة إيجاد إجابات لأسئلة رئيسية في السياسة والحكم، عملت الجماعة على تبني إطار سياسي عام واسع وفضفاض يضمن بقاء آراء متنوعة -وفي بعض الأحيان متناقضة- داخل الجماعة.

 

مثلت هذه المبادئ العامة التي تم الاتفاق عليها ما يمكن أن نسميه “الدستور” الذي من خلاله تعمل الجماعة وتتجاوز خلافتها، ويُبقيها في نفس الوقت متحدة أمام الناس. احتوى هذا الإطار الواسع على مبادئ أساسية مثل أن الإسلام نظام شامل، وعدم استخدام العنف، والقبول بالديموقراطية والتعددية السياسية، ودعم الحركات السياسية والاجتماعية التي تقف ضد الإمبريالية وتدخل القوى الخارجية. هذا الإطار العام استفادت منه الجماعة بطريقتين مختلفتين على الأقل، فمن جانب ساعد هذا الإطار على إبقاء الجماعة متماسكة تنظيمياً، وعلى الجانب الأخر فإنه ساهم في تحسين صورتها الذهنية خاصة بين النخب السياسية عند مقارنتها بالجماعات الإسلامية الأخرى؛ ولذلك تولد ذلك الانطباع -قبل يناير ٢٠١١- أن الجماعة متماسكة أيدولوجياً وتنظيمياً، وأنها قادرة على حسم الكثير من خياراتها السياسية بفضل الخبرة السياسية التي تولدت لديها من وصول أعضائها إلى مجلس الشعب ومن مشاركتها في الحياة السياسية بفاعلية، لكن ثورة يناير أثبت أن هذه الصورة لم تكن دقيقة.

 

التماسك التنظيمي في ظل أيدلوجيا غير متماسكة، ليست ظاهرة جديدة على جماعة الإخوان المسلمين، فقد كانت هذه الظاهرة موجودة في الإخوان المسلمين لفترة طويلة، بدأت مع مؤسسها حسن البنا، واتضحت بشكل أكبر مع نشأة دولة ما بعد الاستعمار، وأخذت شكل الأزمة المؤجلة قبل ثورة يناير 2011. ولو عدنا إلى الباحثة جورمش وتحليلها للسياسات الاقتصادية للإخوان المسلمين لوجدنا أنها قدمت مثالا جيدا على أثر ثورة يناير في إظهار هذه الخلافات السياسية داخل الجماعة، فعلى سبيل المثال -خلال مراجعة الأوراق المختلفة التي أصدرتها الجماعة في الفترة من 2004 وحتى 2008- نجد أن موقف الجماعة من السياسات الاقتصادية فيه خطاب واضح ضد سياسات السوق؛ يظهر معارضة واضحة لهذا التوجه، ورغبة في تدخل أكبر للدولة لدعم النشاط الاقتصادي، لكن على العكس من ذلك في الجانب السياسي، أظهرت الجماعة رغبة أكبر في تقليل دور الدولة لأقل حد ممكن، وترك المساحة الأوسع للمجتمع ومؤسساته. أما بعد ثورة يناير سنلاحظ أنه يوجد داخل الجماعة خطان متوازيان من المواقف تجاه القضايا الاقتصادية، في الخط الأول أنصار الرؤية السابق ذكرها، وتتجلي هذه الرؤية في برنامج حزب الحرية والعدالة وبين الكوادر التنظيمية والتقليدية داخل التنظيم، في حين أن هناك خطاب آخر يصدر من رجال الأعمال ومن شباب الحملة الرئاسية للدكتور محمد مرسي، وفي هذا السياق يأتي تصريح حسن مالك لوكالة رويترز في العام 2011 بأن سياسات مبارك الاقتصادية كانت في المسار الصحيح، لكنها لم تعمل بشكل جيد بسبب المحسوبية والفساد، وهذا المثال هو واحد من أكثر الأدلة التي تم استخدامها بين الباحثين للتدليل على وجود اختلافات تصل لحد التناقض داخل جماعة الإخوان المسلمين عند الحديث عن السياسات الاقتصادية[10].

 

الباحث هشام جعفر سيصل أيضا إلى ملاحظات قريبة الصلة بهذه النقطة عند إجابته على سؤال: ماذا لو وصلت الجماعة إلى السلطة في الخمسينات؟ هل كانت ستقدم سياسات اقتصادية قريبة من النيوليبرالية أم سياسات أقرب إلى الاشتراكية؟[11]، إجابة هذا السؤال دفعت الباحث عبد الحافظ الصاوي المتخصص في الشأن الاقتصادي -والذي كان مشاركاً بشكل فاعل داخل اللجان الاقتصادية للإخوان المسلمين أو قريب منها- للقول إن الأيدولوجيا الإخوانية في الناحية الاقتصادية ليست نيوليبرالية لكنها “إسلامية”[12]، هذا النقاش في حد ذاته دليل أن الرؤية الاقتصادية لم تكن واضحة بشكل كافٍ بحث يمكن تميزها عن غيرها، وأظهرت هذه النقاشات أيضاً أنه ليست هناك نسخة واحدة لدى الإخوان في الشأن الاقتصادي، بل هناك نسخ متعددة، فكلام الصاوي الذي يقف في طرف، ليس هو نفس كلام مالك الذي يقف في الطرف الآخر، وكلاهما ينتميان لنفس الجماعة!

 

الباحث الدكتور خليل العناني يقدم لنا تفسيرا عن أسباب هذا التغير في موقف الإخوان المسلمين الاقتصادي عبر تاريخها وميلها لتبني سياسات أقرب إلى النيو ليبرالية خلال فترة الحكم القصيرة. في هذا السياق يورد الباحث ثلاث أسباب رئيسية ساهمت في هذا الموقف:

السبب الأول هو البرجماتية الإخوانية المرتبطة بإيديولوجيا قابلة للتفسير على أكثر من شكل مما أتاح للجماعة تغيير مواقفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكما نلاحظ، فإن هذا السبب يحيل إلى إيديولوجيا الإخوان التي تناولها بشكل مستقل في ورقة أخرى داخل هذا المشروع.

 

السبب الثاني مرتبط بنخبة رجال الأعمال التي تشكلت داخل تنظيم الإخوان مع سياسة الانفتاح التي تبناها السادات واستفادت منها. العناني يوضح أن هذه النخب استطاعت الصعود داخل تنظيم الإخوان المسلمين والتأثير على هيكل القوة بداخله بحيث يكون لها تأثير أكبر بداخله. هذه النخب عملت على الترويج لـ”النيوليبرالية الورعة”، أي النيوليبرالية التي لها وجه أخلاقي ودور مجتمعي يجعلها مختلفة عن النيوليبرالية الموجودة في الغرب، كما في تصورهم.

 

أما السبب الثالث، فهو سبب مرتبط بالحصول على الاعتراف الدولي. فالجماعة أرادت أن تظهر على أنها أقرب في سياساتها الاقتصادية إلى النظام الدولي، وأنها لا تعاديه، بل هي جزء منه. وتبني الخطاب والممارسات النيوليبرالية في الاقتصاد يُسهّل لها جلب الاستثمارات الأجنبية والحصول على الاعتراف الدولي في نفس الوقت، طبقا لتصوراتهم[13].

 

كان للجماعة تصورات مبدئية في الاقتصاد تبقيها متماسكة، وفي نفس الوقت تعزز موقعها كطرف معارض للسلطة الحاكمة، لكن عندما تعرضت هذه الأفكار للاختبارات العملية وبدأت بالتفاعل مع الواقع، ظهرت الاختلافات والتباينات التي حاولت الجماعة تجاوزها. لم تقدم الجماعة نسخة “إسلامية” مميزة في الاقتصاد، وبدلاً من ذلك قدمت خطابا له طابع اقتصادي محدد في الإصدارات المكتوبة، في حين قدمت خطابا آخر في لحظات أخرى.

 

هذه الخلافات المؤجلة داخل الجماعة هي نتيجة للهروب من تقديم إجابات للأسئلة الرئيسية في السياسة والاقتصاد والتي ستشكل -بالإضافة إلى علاقة الجماعة مع نظام مبارك- الإطار الذي من خلاله يمكن لنا أن نفهم استجابة الجماعة للأيام الأولى لثورة يناير[14]، وهي الاستجابة التي مهدت الطريق فيما بعد لتسيس الجماعة بشكل كبير وتحولها من منظمة دعوية لها أنشطة سياسية إلى منظمة أقرب إلى الحزب السياسي على الرغم من تأسيسها لحزب سياسي.

 

الدعوة إلى التظاهر يوم 25 يناير 2011، كانت اختبار لقدرة الجماعة على الاستمرار في تأجيل حسم خلافاتها السياسية الداخلية. الشباب -والتيارات التي تدفع من أجل المزيد من المشاركة السياسية والانفتاح على القوى السياسية والمجتمعية الأخرى- كانت ترى المشاركة في هذه الدعوة، لكن على الجانب الأخرى رأت التيارات الأكبر سناً -الموجودة غالباً في المناصب القيادية- عدم المشاركة في دعوة لتظاهرات لا يُعرف مصدرها ولا مصيرها. والنتيجة، أنه قبل 25 يناير، قرر كل طرف فعل ما يراه صواباً، من أراد المشاركة شارك، ومن لم يرد لم يشارك، واتخذت الجماعة قراراً يسمح بهذا وذاك..  لكن العاقبة أن النظام مع أول يوم 25 يناير بدأ بتحميل جماعة الإخوان المسلمين المسؤولية كاملة عن كل ما يجري، وبسبب الخوف من بطش النظام أو دفع الفاتورة بشكل منفرد مستقبلاً في حال فشلت الانتفاضة الشعبية وجد التنظيم نفسه في قلب ثورة شعبية في الميادين والشوارع لم يكن مستعداً لها. وبعد انتهاء ليلة 11 فبراير، فإن كل الأسئلة السياسية المؤجلة أصبحت في انتظار إجابات سريعة وعاجلة.

 

خلال أسابيع قليلة بعد تنحي مبارك، ستخرج الخلافات الداخلية إلى العلن بسبب خروج إجابات مختلفة من داخل التنظيم لنفس الأسئلة، مثل هل تتحول الجماعة إلى حزب سياسي أم تؤسس حزبا سياسيا كذراع سياسي لها؟ هل تؤسس حزبا سياسيا وحيدا أم تدعم ما تشاء من الأحزاب؟

 

أسئلة الحزب السياسي وما تبعها من أسئلة ستكون السبب المعلن لفصل أو خروج عدد من شباب الإخوان، وسيعد ذلك بداية لتطورات لاحقة، على سبيل المثال طريقة التعامل السياسي مع الأحداث بعد 2011 هل تتجه الجماعة إلى التهدئة أم التصعيد؟ وهل تقترب أكثر من القوى السياسية أم من الجيش؟ أسئلة أخرى أدت إلى خروج آخرين وإظهار اختلافات سياسية أكبر داخل التنظيم، على سبيل المثال كيفية تأسيس الحزب والشكل الذي يجب أن يُدار به، كان سببا  في ظهور اختلافات، ما دفع إبراهيم الزعفراني  وهو واحد من القيادات السابقة للجماعة لتأسيس حزب، ودفع أيضا عبد المنعم أبو الفتوح لإعلان ترشحه لانتخابات رئاسة الجمهورية وهكذا، مع كل أسئلة جديدة كان يبدو واضحاً أن الجماعة تبحث عن إجابات يمكن أن تساعد في إبقاء الجماعة متماسكة أكثر من حرصها على الوصول إلى الإجابات الصحيحة والمناسبة للحظة السياسية التي تمر بها مصر في ذلك الوقت.

 

يُضاف لما سبق مشروع النهضة الذي قدمته الجماعة في حملة الرئيس مرسي، حيث يمثل نموذجا لتدعيم الفكرة السابقة، لقد تشكلت فكرة مشروع النهضة في بدايته كمحاولة من الجماعة للوصول إلى صيغة ما سُمي “المشروع الحضاري” الذي يمكن أن تقدمه للناس. كان المشروع يهدف عند تأسيسه لتقديم رؤية استراتيجية وحضارية -وليست سياسية وسياساتية- مختلفة للتعامل مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كان القائمون على المشروع مجموعات صغيرة ومتخصصة تعمل بشكل مستقل بعيداً عن الهياكل التنظيمية والإدارية التقليدية للجماعة، لكنهم على اتصال بقيادات الجماعة في المستوى الأعلى. بدأ المشروع قبل ثورة يناير، لكن الثورة ستغير مساره بشكل كبير، لأنه أصبح من الضروري على الجماعة الانتقال من “الحضاري والاستراتيجي” إلى “السياسي والسياساتي” خلال أسابيع معدودة وفي وقت لم يمكن فيه مشروع النهضة قد اكتمل بعد!

 

كانت الجماعة في الواقع الجديد بحاجة إلى برنامج حزب، وبرنامج مرشح رئاسي، وبرامج انتخابية في الانتخابات البرلمانية، فانتقلت بشكل سريع، إلى محاولة إعداد برامج تفصيلية بدون أي خبرات سابقة أو نقاشات حقيقة واسعة ومعمقة. وفرض الواقع أسئلة في حاجة إلى إجابات ولا توجد آليات أو مؤسسات تساعد في تقديم هذه الإجابات، ولا توجد سياقات داخلية تسمح بمناقشة الإجابات المعروضة. صحيح أنه كان لدى الجماعة نواب برلمانيون، لكن طبيعة عمل أغلب هؤلاء النواب انصبت على الجانب الخدمي ثم الجانب الرقابي، والتعامل مع السياسة من موقع المعارضة للسلطة الحاكمة وليس من موقع السعي لاستبدال هذه السلطة. ورغم كل ما سبق سعت الجماعة لعمل برنامج حزبي وبرامج انتخابية برلمانية ثم برنامج مرشح رئاسة الجمهورية، ولم يمنعها غياب النقاش الموسع والمعمق داخلها لإيضاح وحسم التوجهات والانحيازات السياسية والسياساتية من تقديم البرامج الحزبية والانتخابية والرئاسية، وتحول اسم مشروع النهضة إلى دعاية انتخابية للمرشح الرئاسي محمد مرسي.

 

يمكن فهم سلوك الجماعة وتصرفاتها في ذلك الوقت على أنه مثال للنموذج التجريبي في اتخاذ القرارات أثناء الأزمات[15]. هذه البرامج والتصورات هي في جوهرها رد فعل سريع وغير مكتمل من الجماعة تجاه الظرف الخارجي -الذي هو ثورة يناير-؛ تسعى الجماعة من خلال رد الفعل إلى التركيز على تحقيق أهداف محددة وضعتها لنفسها، على أن يكون التقييم في المراحل النهائية لمعرفة مدى تحقق هذه الأهداف من عدمها، ودون أن تتوافر آليات أو وسائل تتأكد من خلالها الجماعة أنه أثناء الممارسة العملية قد حدث تغير فعلي في الإجراءات والسياسيات في الاتجاه الذي تريده الجماعة.

 

الفصل الثالث: ازدواجية القيادة

بعد ثورة يناير، أخذت الانقسامات الفكرية والسياسية داخل الجماعة أشكالا مؤسسية وجماعية، ووصلت ذروتها مع وصول محمد مرسي إلى منصب الرئاسة كأول رئيس مدني منتخب لمصر.

 

لكن علينا التذكير أولاً أن شخصيات ومجموعات شابة مؤثرة قد غادرت الجماعة بالفعل بعد 2011 بفعل الاختلافات السياسية وعملت هذه المجموعات على تأسيس أحزاب سياسية أو المشاركة في أحزاب وحركات أخرى. أما من بقي فقد انقسموا بين حزب الحرية والعدالة وبين الجماعة، كان حزب الحرية والعدالة -نظريا- هو الذارع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وبداخله الحزب أفراد قد لا ينتمون إلى الإخوان المسلمين، وكان على أفراد الجماعة أن يدعموا الحزب الذي يمثلهم. لكن تأسيس الحزب كان نقطة فاصلة من خلالها تم تعميق الانقسامات بشكل أكبر، فقد كان لبعض القيادات التي أدارت طبيعة مختلفة وتوجهات متباينة عن تلك القيادات التي أدارات الجماعة، فمثلا عند وضع خيرت الشاطر في مواجه محمد مرسي، ومحمود عزت في مواجهه محمد البلتاجي فإنه يمكن لنا أن نلاحظ أن هناك فروقات واضحة ساهمت الأحداث في إبرازها بشكل جلي لتساهم في بروز إشكالية “القيادة المزدوجة”.

 

وصل الدكتور محمد مرسي إلى الرئاسة كأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، وساهمت عوامل كثيرة في إفشال تجربته القصيرة في الحكم، لكن لو ركزنا على العوامل الداخلية لدى الإخوان المسلمين -لأنها محور النفاش في هذه الورقة- فإن الازدواجية في القيادة بين بعض أعضاء مكتب الإرشاد من ناحية والدكتور مرسي من ناحية أخرى، بالإضافة على عدم القدرة على تكوين مشروع سياسي واجتماعي قادر على توحيد المصريين كانا من العوامل الرئيسية التي ساهمت في إفشال تجربة دكتور مرسي في الحكم[16].

 

ولم يكن هذا الانقسام على مستوى الأفراد -فقط-، بل شمل أيضا القيادات. فقد أسست الجماعة حزبا سياسيا كذراع باسمها، وفي نفس الوقت ظلت مؤسسات الجماعة ولجانها كما هي. في كلتا المؤسستين كانت هناك قيادات تعمل على إدارة المؤسسات، لكن حدود العلاقة بين الجماعة والحزب والاستقلالية التي يمكن أن يحصل عليها الحزب في مواجهه الجماعة، ظلت طول الوقت قضايا لم يتم حلها أو نقاشها بشكل كافٍ. هذا الانقسام على مستوى الأفراد، ثم على مستوى القيادات، سينتقل بعد ذلك ليأخذ أشكالا مؤسسية، فينتظم مجموعات من الأفراد داخل الحزب ويكون هذا مكان عملها الرئيسي، في حين يختار آخرون الانخراط في الأنشطة السياسية من خلال مؤسسات ولجان الجماعة المحلية؛ لنصبح في نهاية المطاف أمام ازدواجية ممتدة من القمة إلى القاعدة.

 

ساعدت التجربة السياسية للعاملين في حزب الحرية والعدالة على تبني أفكارا ومسارات مختلفة عن تلك التي كانت لدى مجموعة مكتب الإرشاد. الشباب الذي يشارك في انتخابات الجامعات وفي الأنشطة الطلابية كون قناعات سياسية غير تلك التي تكونت لدى الشيوخ، والنساء اللاتي انفتح لهن المجال العام للمشاركة بعد الثورة تشكل لديهن أفكار وقناعات مختلفة، هذه القناعات والأفكار المختلفة ستعبر عن نفسها داخل أطر تنظيمية بخلاف الأطر التنظيمية التقليدية، وسيعمل جزء من خلال حزب الحرية والعدالة، وجزء من خلال النقابات المهنية، وجزء ثالث من خلال الاتحادات الطلابية وهكذا. نظريا كانت كل هذه الأشكال تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، ويتم إدارة أنشطتها من خلال لجان تابعة لها. لكن الممارسة العملية، ستؤدي إلى تكون قناعات وأفكار مختلفة لدى المشاركين في هذه المسارات الجديدة؛ لتخلق حالة من عدم التجانس في الأفكار والتصرفات، وسيتجلى هذا في ازدواجية القيادة بين مرسي في الرئاسة والشاطر في مكتب الإرشاد.

 

تعرض الرئيس الراحل محمد مرسي لهجوم عنيف باعتباره “المرشح الاحتياطي”، فقد كان هو المرشح البديل للمرشح الرئيسي خيرت الشاطر، ورغم أن الهجوم عليه كان في نواح كثيرة لأغراض حزبية وتنافسية، لكن كان له أصل أن محمد مرسي -رئيس حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين- كان المرشح الاحتياطي للمرشح الأساسي نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين وهو خيرت الشاطر.

 

لقد كانت الدلالة واضحة للمتابعين، فعندما أرادت الجماعة الترشح فإنها اختارت من قيادات الجماعة لا الحزب، ولم يكن خيرت الشاطر رئيسا لحزب الحرية والعدالة رغم أنه كان يمكن بسهولة أن يكون كذلك. لكن الجماعة اختارت أن تدير الحزب كأنه ملف ضمن ملفات أخرى للجماعة.

 

أما بعد وصول محمد مرسي إلى الحكم، فقد كان عليه أن يتخذ قرارات يعمل من خلالها على إرضاء الشعب باعتباره رئيس الجمهورية، لكن كان عليه أيضا التأكد من أن هذه القرارات لن تُغضب قيادات جماعة الإخوان المسلمين، فمن الناحية العملية هذا سلوك متوقع من رجل لم يكن ليصل إلى الحكم بدون دعم جماعة الإخوان المسلمين، لذلك فكسب رضاهم هو تصرف سياسي منطقي تجاه الجماعة التي دعمت وصوله إلى هذا المنصب، لكن اعتبارات إدارة الحكم أكبر من اعتبارات إدارة الجماعة، وبدلاً من أن تعمل الجماعة كرافعة تدعم من خلاها مرسي في الرئاسة، فإن هذا الانقسام في القيادة ساهم في تأخير عدد من القرارات بسبب وجود رؤي مختلفة للتعامل معها. وقد استطاع مرسي في مواقف مختلفة أن يتخلص من تأثير الجماعة على قراراته وأن يعمل باستقلالية أكبر واتخاذ القرارات التي يراها مناسبة، لكن هذا لم يكن يرضي جميع القيادات التي كانت ترى ذلك محاولة من مرسي للعمل منفرداً بعيداً عن الجماعة.

 

في التجارب المماثلة، يكون رئيس الحزب هو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية، وفي تلك الحالة يعمل على التأكد من أن كل من الحزب وأجهزه الدولة تعمل في تناغم من أجل إنجاح تجربة الحكم، فلو كان النظام برلمانيا سيكون رئيس الحزب هو رئيس الحكومة غالبا، ولو كان النظام رئاسيا سيكون رئيس الجمهورية هو رئيس الحزب إلا إذا نص القانون على غير ذلك، في تلك الحالات يصبح الحزب هو الرافعة الشعبية التي تدعم الرئيس أو رئيس الوزراء في منصبة، لكن في حالة الرئيس مرسي كان الوضع مختلفا، حيث كان الرئيس مرسي -رئيس حزب الحرية والعدالة- لكنه لم يكن أقوى رجل في التنظيم. كان داخل تنظيم جماعة الإخوان المسلمين آخرون أقوى منه تنظيمياً، على رأسهم نائب المرشد خيرت الشاطر.

 

حاول البعض توصيف العلاقة بين الرجلين على أنها صراعات شخصية، لكننا لا نميل في تفسير ما حدث من خلال التركيز على أفراد بعينهم داخل التنظيم والأدوار التي قاموا بها، والأفضل هو النظر من زاوية البنية التي حكمت هذه العلاقة بين مؤسستين: الأولى هي جماعة الإخوان المسلمين، والثانية هي مؤسسة الرئاسة. لأن مركز الثقل الرئيس كان داخل التنظيم، لذلك فقد توقع التنظيم أن الشخص الذي أوصله التنظيم إلى مقعد الرئاسة هو منفذ لتوجهات الجماعة الأساسية وخياراتها، لكن على الجانب الآخر، فإن الشخص الموجود في موقع الرئاسة -ولكي يستمر في منصبه- كان يجب عليه أن يُثبت لمن حوله وللقوى السياسية الأخرى أن القرارات تصدر من عنده وليست من أي مركز آخر.

 

لقد كان مرسي في معضلة فرضها عليه واقع تميز بازدواجية عملية واضحة في القيادة، فإن أرضي التنظيم قد يغضب السياسيين، وإن أرضى السياسيين قد يغضب التنظيم، هذه الحالة من عدم الوضوح السياسي للتوجهات السياسية والازدواجية، كان نتيجتها مزيدا من الأوقات المهدرة، ومزيدا من الضعف في إنتاج حلول وسياسات للمشاكل الملحة.

 

الفصل الرابع: من يقرر مصير الجماعة

لم تستمر الجماعة في الحكم طويلاً، وتم إسقاط الجماعة من حكم مصر عبر الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013؛ لتدخل الجماعة في محنة كبيرة أمام حالة القمع الواسعة التي شنها النظام ضد أعضاء الجماعة، لكن حملة القمع هذه هي جزء من التحديات الخارجية التي تعرضت لها الجماعة، والتي يجادل البعض بأن الجماعة كان يمكن أن تتغلب عليها وتتجاوزها لولا التحديات الداخلية التي انفجرت بعد ذلك.

 

خلال عام 2015 و2016 ستكون الجماعة محورا للمتابعة الإعلامية والبحثية، لكن هذه المرة بسبب الخلافات الداخلية التي ظهرت للعلن في ظاهرة لم تكن معروفة عن الجماعة من قبل بهذا الشكل. تعامل البعض مع هذه الخلافات كأنها خلاف حول السلمية والعنف، وآخرون رأوا الخلافات تنظيمية وإدارية حول اللوائح الداخلية وآليات تغييرها. احتوت الخلافات الداخلية والنقاشات حولها على كل ما سبق، في الظاهر كان الخلاف حول قيادة الجماعة وآليات اتخاذ القرار بداخلها، أما جوهر الخلاف فكان حول طبيعة هذه الجماعة والمسارات التي يجب أن تسير فيها والحلول السياسية التي تقترحها في مواجهه الأزمة السياسية التي تمر بها. ولأن الجماعة لا تمتلك الآليات الكافية لحل هذه الخلافات بداخلها بشكل صحي، ولم تسع لتكون قادرة على الوصول إلى تفاهمات حول الإجابات التي ستتبناها، بالإضافة إلى أن حل هذه الخلافات السياسية كان يعني عملياً تخلي الجماعة عن شكلها القديم لصالح شكل (أو أشكال جديدة)، فقد تحولت الخلافات إلى صراع حول من الذي يتحكم في عجلة القيادة، حتى يستطيع توجيه مسار الجماعة في الطريق الذي يريد.

 

تفاصيل هذه الخلافات ومواضيعها كانت كثيرة ومتشعبة. وبعد إجراء عدد من المقابلات والمقابلات الشخصية مع قيادات في مستويات مختلفة داخل التنظيم، يصل الباحث ياسر فتحي إلى استنتاج بأن الجماعة في أواخر عام 2014 كانت قد استطاعت إعادة بناء هياكلها التنظيمية وبناء قيادة جديدة لديها شرعية تنظيمية داخلية تحت اسم “اللجنة الإدارية العليا”، لكن هذه الاستعادة ستجلب معها أسئلة رئيسة حول المسار والاستراتيجيات التي يجب أن تسير عليها الجماعة للتعامل مع أزمتها الحالية وستدفع اللجنة الجديدة لتقديم إجابات “مختلفة” لها[17]، هذه الإجابات الجديدة ستتحول إلى من خلاف سياسي إلى خلاف تنظيمي، من خلافات سياسية حول طريقة إدارة الأزمة والمسار والاستراتيجيات التي يجب اتخاذها، إلى خلافات تنظيمية حول اللوائح والمرجعية العليا ومن لديه سلطة اتخاذ القرارات العليا، وخطة أغسطس 2014 هي مثال عملي على هذا الكلام.

 

قدمت اللجنة الإدارية العليا في نهاية العام 2014 وبعد مشاورات مع جهات في مستويات مختلفة داخل التنظيم إجابة مختلفة للطريقة التي يجب على الجماعة العمل بها في مواجهه الأزمة التي تشهدها، ولم تكن هذه الخطة نتيجة انحيازات سياسية واضحة ومسبقة لأعضاء اللجنة عبروا عنها في أوقات سابقة، بل على العكس من ذلك كانت استجابة اللجنة هي نتيجة مباشرة لحالة السيولة التي مرت بها الجماعة بعد فض اعتصام رابعة، والتي أدت إلى أن يبحث أعضاء اللجنة كباقي أعضاء الجماعة عن حلول وإجابات للواقع السياسي الجديد، أما الحل الجديد الذي توصلت له اللجنة ستطلق عليه اسم ” السلمية المبدعة”، لكن هذا الحل، سيكون سببا في تفجر الخلافات الداخلية والتنظيمية إلى العلن.

 

على عكس ما يظن الكثيرون، لم تنفجر هذه الخلافات عند إقرار الخطة الجديدة، بل تفجرت بعد تنفيذها، ما يعني أنها وقت إقرارها لم يكن لدى المعارضين لها لاحقاً اعتراضات جوهرية ورئيسية عليها.  وبطريقة أخرى لم يكن محتوى الخطة الجديدة هو المشكلة الحقيقة، بل كانت المشكلة في تقديم إجابة جديدة يمكن أن تغيير من شكل الجماعة “القديم”، لقد كانت المشكلة الرئيسية في التغيير في حد ذاته، وليس في محتواه. ما يؤكد ذلك ما ذكرته ورقة فتحي بأن تقييم لجنة العمل النوعي بعد يناير 2015، كان يحتوي على تشكيك في جدوى الاستراتيجية الجديدة سواء من الناحية العملية أو من الناحية السياسية. وطبقا لمقابلات الباحث مع أحد قيادات المكاتب الإدارية في وسط الدلتا، فقد كان التقييم يشير إلى أن هذه الاعمال لم تحقق الأهداف المرجوة منها[18]، وهذا يؤكد أمرين:

الأول: أن الخطة الجديدة هي محاولة للتغيير وليست مشروعا متكاملا واضح المعالم في أذهان أصحابه ومؤيديه، وهي محاولة لتقديم إجابات لأسئلة رئيسية أضحت ملحة ولا يمكن تأخيرها، وبالنظر إلى مواقف وأفكار الذين قدموا هذه الخطة قبل 2011، يمكننا الاستنتاج أنها كانت إجابات سريعة وآنية في مواجهه أزمة حادة، لكن هذه الإجابات كانت دائما “من مدخل إجراءي تنفيذي مرتبط بضغط الواقع واللحظة الحالية بغض النظر عن الأسباب السياسية”[19].

 

الأمر الثاني: أن خوف المعارضين للخطة الجديدة لم يكن في محتوى الخطة ذاتها، ولكنه خوف من استمرار منهج البحث عن إجابات جديدة ومفيدة للحالة العملية وهو أمر قد يفضي إلى مسارات جديدة لم تطرقها الجماعة من قبل.

 

إن النتيجة السلبية لتجاهل السياسة وتقديم برامج ومشاريع سياسية متماسكة بناء على رؤية تم الاتفاق عليه ظهرت آثاره السلبية في فترة حكم دكتور محمد مرسي القصيرة، لكنها تعمقت وشكلت تهديدا في الفترة التي تلت الانقلاب العسكري.  وفي تلك الظروف والضغوط كانت الجماعة في أمس الحاجة إلى الوحدة والموقف المشترك والاستراتيجية المتفق عليها.

 

والخلاصة، أن ما حدث في الفترة من نهاية 2014 وحتى نهاية 2015 داخل جماعه الإخوان المسلمين هي عين ما حاولت الجماعة تجنبه خلال العقود الثلاث الماضية عبر تجنب تقديم برامج سياسية أو إجابات للأسئلة السياسية الرئيسية. لقد كان جوهر الخلافات التي تفجرت حول التفكير السياسي والأهداف السياسية والاستراتيجيات، وكانت هذه الخلافات الحادة تتم تحت “القصف” والضغوط القمعية الأمنية الشديدة.

 

الخاتمة

لو كان هناك استنتاج رئيسي في هذه الورقة، فهو أن الأدوار السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر هي جزء من التاريخ، ولن تكون جزءا من المستقبل. لا يعني هذا أن جماعة الإخوان المسلمين سوف تختفي تماماً من المشهد أو أنه لن يكون لها تأثير اجتماعي وديني ما، غالباً ستستمر الجماعة كتنظيم موجود بالخارج مستفيدة من المساحات المتاحة لها في بلدان مختلفة، وإذا تغيرت الأمور في مصر، فربما تتاح للجماعة فرصة أن تلعب بعض الأدوار الاجتماعية أو الدينية المؤثرة، لكن من المستبعد أن يكون للجماعة أدوار سياسية مؤثرة إلا إذا أراد النظام عمل مصالحة مع الإخوان. لا توجد مؤشرات حالية تدل على أن النظام يمكن أن يقبل الجلوس على طاولة سياسية في طرفها المقابل ممثل لجماعة الإخوان المسلمين، لكن لو حدث هذا من أجل التوقيع على مصالحة ما، فسيكون جلوس النظام على هذه الطاولة في الأغلب لضمان أن يكون توقيع الإخوان المسلمين على هذه المصالحة هو آخر عمل سياسي حقيقي تمارسه الجماعة.

 

لماذا من المستبعد توقع مستقبل سياسي مؤثر لجماعة الإخوان المسلمين؟

هذا الاستبعاد لا يعود إلى أسباب خارجية (كقمع النظام أو عدم رضا القوى الإقليمية أو الدولية)، بل يعود في جوهره إلى أسباب داخلية داخل التنظيم ذاته.  كما رأينا في هذه الورقة، تحتاج الجماعة لكي تستمر في السياسة أن تجاوب على عدد من الأسئلة الرئيسية مثل: ماهي تصوراتها عن شكل الدولة التي تريد أن تحكمها؟ ما تصوراتها عن العلاقة بين الدولة والمجتمع؟ ماهي النسخة التنموية التي تسعى لتحقيقها؟ وكيف ستدير الاقتصاد من أجل تحقيق هذه النسخة؟ ما تصورها لعلاقات مصر الخارجية وكيف ستعمل على تحقيق هذه العلاقات؟ كيف ستتعامل مع مشاكل المصريين اليومية في الصحة والتعليم والإسكان والمواصلات والتنمية المحلية والريفية؟ وغيرها من الأسئلة، والأهم من ذلك، أن تقدم إجابات على الأسئلة العاجلة الخاصة بإدارة المشهد الحالي، وكيف يمكن الخروج من هذه الأزمة.

 

في الحقيقية البحث عن إجابات لهذه الأسئلة ليس مهمة خاصة بجماعة الإخوان المسلمين وحدهم، بل هو حاجة ماسة وضرورية لكل القوى السياسية والأحزاب الراغبة في التغيير في مصر. لقد كان اختيار التركيز على الإخوان المسلمين ومشروعهم السياسي نابعاً من الدور الكبير الذي لعبته الجماعة بعد 2011 والذي كان له تأثيرات متعددة على المسار السياسي في مصر، لكن ضعف المشروع السياسي -أو عدم وضوح ملامحه- هو خاصية عامة موجودة في أغلب الحركات والأحزاب السياسية المصرية سواء ممن يتبنى مواقف قريبة من مواقف النظام ويختلف في التفاصيل، أو ممن لديه انحيازات واضحة ومحددة -سواء إلى اليمين أو إلى اليسار- لكن ليس لديه القدرة الكافية على تقديم هذه الانحيازات في صور برامج وسياسات يلتف حولها المواطنون، لذا فالانتقال من الأسئلة الكبرى إلى الأسئلة الصغرى، ومن التفكير بشكل كلي إلى التفكير بشكل جزئ، والحديث عن الحلول بدون الاكتفاء بالحديث عن المشاكل فقط، هو من الواجبات الأساسية للراغبين في التغيير السياسي، وأسئلة عملية حول قضايا ملحة مثل كيف يمكن التعامل مع الديون المصرية؟ وكيف يمكن تقديم رعاية صحية شاملة وبمستوى جيد للمصريين هي أسئلة تحتاج إلى إجابة من هذه التيارات.

 

هذه الأسئلة ليس لها إجابة واحدة صحيحة، بل لها عدد مختلف من الإجابات، وإذا عدنا إلى جماعة الإخوان المسلمين، فإذا أرادت الجماعة تصحيح مسارها السياسي والاتفاق على إجابة موحدة لهذه الأسئلة، فإن هذا سيعني عملياً أنها ستفقد دعم وانتماء قطاع من أعضائها قد لا يرضى عن هذه الإجابة، فالجماعة يمكنها أن توحد المنتمين لها دعوياً، لكن سيكون من الصعب عليها توحيدهم سياسياً. في تلك الحالة وإذا تمت الأمور بشكل صحيح، فمن الصعب تصور وجود حزب واحد يمثل جماعة الإخوان المسلمين، بل على الأغلب سيؤدي البحث عن هذه الإجابات إلى بروز تيارات وأحزاب مختلفة، وكنتيجة لذلك فإنه لا مستقبل سياسي لجماعة الإخوان المسلمين بهذه الصورة الحالية، لكن تبقى لأعضائها والمنتمين السابقين لها فرص سياسية في هذا المستقبل.

 

السياسات الاقتصادية يمكن أن تكون مثالا يوضح الذي نقصده، إذا أرادت الجماعة العودة للسياسة من موقع مؤثر، فجزء من هذه العودة يحتاج تقديم إجابات سياسية عن الأسئلة الاقتصادية الحالية التي تعاني منها مصر، مثل: كيف يمكن التعامل مع مشكلة الديون التي تمر بها مصر حالياً؟ هل يجب أن تعتمد التنمية في مصر على جذب الاستثمارات الأجنبية؟ أم على تشجيع الصناعة المحلية ودعمها وتوفير البيئة المناسبة لنموها؟ وغيرها من الأسئلة.

 

لو أجابت الجماعة على هذه الأسئلة منحازة إلى إجابة على حساب إجابة أخرى في إطار تصور شامل وبرنامج متكامل، فإنها ستفقد بالضرورة قطاع من المؤيدين الذين لازالوا على دعمهم للجماعة. هذا الفقد هو ما تعمل الجماعة على تجنبه من خلال تجنب تقديم إجابات في الوقت الحالي، لأنها لو أقدمت على تقديم إجابات فكأنها تساعد بنفسها في دعم إمكانية ظهور تيارات متباينة بمواقف سياسية مختلفة.

 

على الأغلب، ستفرز السنوات القادمة تيارات وجماعات سياسية مختلفة، خرجت من الإخوان المسلمين وتأثرت بهم. هذه التيارات والجماعات قد تقدم نسخا وإجابات سياسية مختلفة لهذه الأسئلة الرئيسية. هذا الاختلاف يمكن أن يصل إلى حد التباين، بحيث يقدم تيار إجابة، ويقدم تيار آخر إجابة عكسها تماماً، يمكن أن تخرج أحزاب تميل إلى اليمين قليلاً وأخرى تتجه إلى اليسار بشكل أكبر، يمكن أن نرى أحزابا تتمسك بشكل أكبر بالمرجعية الإسلامية، وأحزابا أخرى لا تتخلى عن هذه المرجعية لكنها تتبني مرجعية وطنية ومصرية بشكل أكبر، وأخرى قد تتخلى عن هذه المرجعية مؤقتاً لصالح مرحلة انتقالية، يمكن أيضا أن نرى جماعات تسعى لتجنب المواجهة مع النظام الحالي وتحاول كسب وده، وأخرى ستقف ضد النظام الحالي وتعمل على تغييره، لكن ما سيحدد هذه المسارات هو متغير أساسي: وجود “القدرة” على تقديم إجابات سياسية في صورة مشروع سياسي متكامل ومتماسك قادر ليس فقط على إقناع الناس فقط، بل على تحريكهم، فكلمة السر هنا هي “القدرة”.

 

بغض النظر عن مضمون هذه المشروع السياسي (أو بالأحرى المشاريع السياسية)، فإن الأهم من ذلك هو بناء القدرة على توليد هذا المشروع، ففي الظروف الطبيعية تتولد المشاريع السياسية من خلال الممارسة السياسية، لكن في ظل غياب الممارسة السياسية السلمية في مصر تصبح المهمة صعبة جدا، فلا توجد ممارسة سياسية صحية يمكن من خلالها بناء الخبرات واستغلال الطاقات، ولا توجد أحزاب سياسية يمكن من خلالها تنشئة الكوادر السياسية وتصعيدهم؛  لذا يصبح التحدي الحقيقي الآن أمام الأفراد الحاليين أو السابقين للإخوان المسلمين هو العمل على بناء هذه القدرة وسط هذه الظروف الصعبة.

 

تحتاج هذه القدرة إلى مؤسسات وإلى أفكار، وتتولد الأفكار من المؤسسات المهنية التي تعمل في السياسات العامة أو في قراءة ومتابعة الشأن السياسي والعلاقات الخارجية، ومع الوقت يكون لدي هذه المؤسسات قدرة أكبر على فهم تعقيدات الواقع المصري، وعلى تقديم بدائل واقتراحات للمشاكل التي يعاني منها. في تلك الحالة، يمكن أن تخرج الرؤي السياسية المتكاملة والقابلة للنجاح، ليس هذا هو الحل الشامل بل هو أول الطريق فقط، سيكون هناك حاجة دائمة للحفاظ على استمرارية هذه القدرة وتطويرها، ومن هنا تأتي أهمية المؤسسات المؤهلة لذلك والتي تضمن الديمومة والاستمرار، هذه البيئة المتكاملة من الأفكار والأشخاص والمؤسسات هي التي ستكون قادرة على توليد المشاريع السياسية وعلى توليد الأفراد القادرين على التعامل مع هذه المشاريع في سياقات مختلفة، وبدون هذه البيئة، سيكون من الصعب تخيل تغيير من خارج المنظومة الحاكمة الحالية.

 

أظهرت تجربة الإخوان المسلمين في الحكم أن الانتقال من المعارضة إلى الحكم ليست عملية سهلة كما قد يظن البعض، ففي سبيل الوصول إلى الحكم يركز البعض على الانتخابات والديموقراطية كمسار وحيد وصالح، لكن تجربة الانتخابات في مصر توضح أن النجاح في الانتخابات لا يعني النجاح في الحكم، كما أن الاستمرار في الحكم يحتاج أمورا أكبر من النجاح في الانتخابات. على الجانب الآخر يجادل البعض أن طريق الحكم يعتمد على امتلاك القوة فقط، وأنه بدون امتلاك القوة الكافية لا يمكن تصور الوصول إلى الحكم بالمعني العملي له، حتى لو كنت في مواقع الرئاسة ومجلس النواب. لكن حتى امتلاك القوة لا يعني النجاح في الحكم، فيمكن للقوة الغاشمة أن تضمن استمرار نظام سلطوي في الحكم ضد إرادة المواطنين، لكن القوة وحدها لا تكفي لاستمرار نظام يسعى أن يحكم للمواطنين وبالمواطنين في مناخ من الحرية. ومن هنا تأتي أهمية المشروع السياسي القابل للتنفيذ الذي من خلاله يتم إدارة عملية التغيير السياسي والحكم.

 

المراجع:

A, Lucia Ardovini B. “The ‘ Failure ’ of Political Islam ? The Muslim Brotherhood ’ s Experience in Government.” Lancaster University, 2017.

Abd Rabou, Ahmed. “Arab Spring and the Issue of Democracy: Where Does Middle Eastern Studies Stand?” In Arab Spring Modernity, Identity and Change, edited by Eid Mohamed and Dalia Fahmy, 173–204. Palgrave Macmillan, 2020.

al-Anani, Khalil. “Devout Neoliberalism?! Explaining Egypt’s Muslim Brotherhood’s Socio-Economic Perspective and Policies.” Politics and Religion 13, no. 4 (December 11, 2020): 748–67. https://doi.org/10.1017/S1755048320000085.

Awad, Marwa. “Egypt Brotherhood Businessman: Manufacturing Is Key.” Reuters, 2011. https://www.reuters.com/article/egypt-brotherhood-investment-idINL5E7LR4CK20111027.

Bellin, Eva. “Reconsidering the Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Lessons from the Arab Spring.” Comparative Politics 44, no. 2 (January 1, 2012): 127–49. https://doi.org/10.5129/001041512798838021.

Carothers, Thomas. “The End of the Transition Paradigm.” Journal of Democracy 13, no. 1 (2002): 5–21. https://doi.org/10.1353/jod.2002.0003.

Cook, Steven. “Political Instability in Egypt.” Contingency Planning Memorandum No. 4, 2009. https://www.washingtoninstitute.org/uploads/Documents/opeds/SatloffSchenker20130516-CFR.pdf.

Geddes, Barbara. “What Do We Know About Democratization After Twenty Years?” Annual Review of Political Science 2, no. 1 (1999): 115–44. https://doi.org/10.1146/annurev.polisci.2.1.115.

Geddes, Barbara, Joseph Wright, and Erica Frantz. “Autocratic Breakdown and Regime Transitions:” Perspectives on Politics 12, no. 2 (2014): 313–31. https://doi.org/10.1017/S1537592714000851.

Görmüs, Evrim. “The Economic Ideology of the Egyptian Muslim Brotherhood: The Changing Discourses and Practices.” Journal of Emerging Economies and Islamic Research 4, no. 3 (2016): 60. https://doi.org/10.24191/jeeir.v4i3.9097.

O’Donnell, Guillermo, and Philippe C. Schmitter. Transitions from Authoritarian Rule: Tentative Conclusions about Uncertain Democracies. The Johns Hopkins University Press, 1986.

Randall, Vicky, and Lars Svåsand. “Party Institutionalization in New Democracies.” Party Politics 8, no. 1 (January 30, 2002): 5–29. https://doi.org/10.1177/1354068802008001001.

Sadiki, Larbi, ed. Routledge Handbook of the Arab Spring: Rethinking Democratization. Routledge Taylor & Francis, 2015.

Schmitter, Philippe C. “The Role of Elites in Democratization.” Journal of Chinese Political Science 23, no. 1 (March 3, 2018): 33–46. https://doi.org/10.1007/s11366-017-9494-7.

Shehata, Samer S. “Political Da῾ Wa: Understanding the Muslim Brotherhood’s Participation in Semi-Authoritarian Elections.” In Islamist Politics in the Middle East, 134–59. Routledge, 2012.

Transitions from Authoritarian Rule, n.d.

Willi, Victor J. The Fourth Ordeal: A History Of The Muslim Brotherhood In Egypt, 1968–2018. Cambridge University Press, 2021. https://doi.org/10.1080/13530194.2020.1778443.

الصاوي, عبدالحافظ. “الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية.. رؤية أخرى.” الجزيرة نت. Accessed August 16, 2021. https://www.aljazeera.net/opinions/2020/7/12/الإخوان-المسلمون-والمسألة-2.

بشارة, عزمي. “ملاحظات عن العامل الخارجي في الإنتقال الديموقراطي.” سياسات عربية, no. 38 (2019): 7–26. https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/ar/issue038/Documents/Siyassat38-2019-Bishara.pdf.

جعفر, هشام. “الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية.” الجزيرة نت, 2020. https://www.aljazeera.net/opinions/2020/6/23/الإخوان-المسلمون-والمسألة.

فتحي, ياسر. “الإخوان المسلمين وثورة يناير(3): الجزء الثالث.” دراسات سياسية, 2019.

محسن, أحمد. “الأفكار وصنع السياسات في المراحل الانتقالية.” دراسات سياسية. اسطنبول- تركيا, 2018.

 

[1] Steven Cook, “Political Instability in Egypt,” Contingency Planning Memorandum No. 4, 2009.

[2] Thomas Carothers, “The End of the Transition Paradigm,” Journal of Democracy 13, no. 1 (2002): 5–21, https://doi.org/10.1353/jod.2002.0003; Transitions from Authoritarian Rule, n.d.; Guillermo O’Donnell and Philippe C. Schmitter, Transitions from Authoritarian Rule: Tentative Conclusions about Uncertain Democracies (The Johns Hopkins University Press, 1986).

[3] Barbara Geddes, Joseph Wright, and Erica Frantz, “Autocratic Breakdown and Regime Transitions:,” Perspectives on Politics 12, no. 2 (2014): 313–31, https://doi.org/10.1017/S1537592714000851; Barbara Geddes, “What Do We Know About Democratization After Twenty Years?,” Annual Review of Political Science 2, no. 1 (1999): 115–44, https://doi.org/10.1146/annurev.polisci.2.1.115.

[4] Philippe C. Schmitter, “The Role of Elites in Democratization,” Journal of Chinese Political Science 23, no. 1 (March 3, 2018): 33–46, https://doi.org/10.1007/s11366-017-9494-7.

[5] Vicky Randall and Lars Svåsand, “Party Institutionalization in New Democracies,” Party Politics 8, no. 1 (January 30, 2002): 5–29, https://doi.org/10.1177/1354068802008001001.

[6] عزمي بشارة, “ملاحظات عن العامل الخارجي في الإنتقال الديموقراطي,” سياسات عربية, no. 38 (2019): 7–26, https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/ar/issue038/Documents/Siyassat38-2019-Bishara.pdf.

[7] هناك العديد من الأوراق التي تناولت الربيع العربي من خلال تناول زوايا مختلفة، والمصادر التالية تشمل عينة منها.
Eva Bellin, “Reconsidering the Robustness of Authoritarianism in the Middle East: Lessons from the Arab Spring,” Comparative Politics 44, no. 2 (January 1, 2012): 127–49, https://doi.org/10.5129/001041512798838021; Ahmed Abd Rabou, “Arab Spring and the Issue of Democracy: Where Does Middle Eastern Studies Stand?,” in Arab Spring Modernity, Identity and Change, ed. Eid Mohamed and Dalia Fahmy (Palgrave Macmillan, 2020), 173–204; Larbi Sadiki, ed., Routledge Handbook of the Arab Spring: Rethinking Democratization (Routledge Taylor & Francis, 2015).

[8] Samer S. Shehata, “Political Da῾ Wa: Understanding the Muslim Brotherhood’s Participation in Semi-Authoritarian Elections,” in Islamist Politics in the Middle East (Routledge, 2012), pp. 121

[9] Evrim Görmüs, “The Economic Ideology of the Egyptian Muslim Brotherhood: The Changing Discourses and Practices,” Journal of Emerging Economies and Islamic Research 4, no. 3 (2016): 60, https://doi.org/10.24191/jeeir.v4i3.9097.

[10] Marwa Awad, “Egypt Brotherhood Businessman: Manufacturing Is Key,” Reuters, 2011, https://www.reuters.com/article/egypt-brotherhood-investment-idINL5E7LR4CK20111027.

[11] هشام جعفر, “الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية,” الجزيرة نت, 2020, https://www.aljazeera.net/opinions/2020/6/23/الإخوان-المسلمون-والمسألة.

[12] عبدالحافظ الصاوي, “الإخوان المسلمون والمسألة الاجتماعية.. رؤية أخرى,” الجزيرة نت, accessed August 16, 2021, https://www.aljazeera.net/opinions/2020/7/12/الإخوان-المسلمون-والمسألة-2.

[13] Khalil al-Anani, “Devout Neoliberalism?! Explaining Egypt’s Muslim Brotherhood’s Socio-Economic Perspective and Policies,” Politics and Religion 13, no. 4 (December 11, 2020): 761–65,

[14] Lucia Ardovini B A, “The ‘ Failure ’ of Political Islam ? The Muslim Brotherhood ’ s Experience in Government” (Lancaster University, 2017).p. 147.

[15] أحمد محسن، “الأفكار وصنع السياسات في المراحل الانتقالية,” دراسات سياسية (اسطنبول- تركيا, 2018).

[16] Victor J. Willi, The Fourth Ordeal: A History Of The Muslim Brotherhood In Egypt, 1968–2018 (Cambridge University Press, 2021), p, 231.

[17] ياسر فتحي، “الإخوان المسلمين وثورة يناير(3): الجزء الثالث،” دراسات سياسية، 2019.

[18] فتحي. ص: 33.

[19] فتحي. ص: 36.

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

pdf  PDF in English Language

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى