تحليلات وأبحاثسياسات

العلاقة بين الواقع والخيارات الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين

العلاقة بين الواقع والخيارات الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

تمهيد

تبنى الحالة التنظيمية لكل جماعة وتنظيم وحزب على مجموعة من القيم التي تنظم علاقاتها وأهدافها وتحركها، في داخلها أو خارجها -سواء أدركت هذا أم لم تدركه، فهمت ذلك عبر الدراسة والحفظ والتعلم والتطوير، أو تركت ذلك لغيرها-، هذه القيم تتغير أو يعاد تشكيلها أو تفسيرها، وتتخذ مضامين جديدة متأثرة بالسياقات التي تتحرك فيها وحولها.

يشار لهذه القيم الأساسية بمصطلح الأيدلوجيا، أي تراتبية القيم والنسيج المحكم بينها والمرتبط بصورة تداخلية مع الأخلاق كمرتكزات ثابتة الجوهر، تمثل الخير في جوهرها، والشر في نقيضها، ومساحات السماح الرمادية بين ذلك؛ لكن الباحث تفادى هذا المصطلح المراوغ الذي يحمل أحيانا الكثير من المتناقضات (البريديet al., 2024))⁠، إلى مساحة القيم والخيارات الفكرية؛ لكي تنحصر مساحة الوصف في القيم والمبادئ الأصيلة والأساسية والتي تتصل بإيمان أو استحسان، ولكي يكون هذا النسيج -بين القيم والمبادئ الأساسية- محكما، فإنه يحتاج إلى اتساق فلسفي منطقي تاريخي؛ يؤدي دور الدفاع أو الهجوم أو التناغم في المعارك الفكرية مع النظم الأخرى، وهذا النسق الفلسفي يحتاج إلى مفكرين محترفين لبنائه وصيانته، بحيث يسد ما خرق فيه ويجدد ما اهترأ منه ويتوسع به في مساحات جديدة، وهذا هو رصيد أي فكرة ومكانتها في حركة التاريخ، وواهم من يظن أن مثل هذه الأيدولوجيات -أو القيم والمبادئ الأساسية- ثابتة، أو قادرة على العمل في كل زمان ومكان على صورة ثابتة.

 

ومن هنا يمكن القول إن إدراك السياق الذي نشأت فيه هذه الخيارات الفكرية ثم تطورت، هو النقطة الأولى لفهم وتفسير الكثير من المقولات والشعارات، التي تتوافق وقدرتها على الإجابة على الأسئلة التي طرحتها تلك السياقات أو طُرحت عليها، كما أن هذا الإدراك يساهم في تفسير ذلك التطور في تلك المفاهيم ارتباطاً بالتغير الذي طرأ على السياق والأسئلة الناتجة عنه، ومن ثم فإن وصف تلك القدرة الحجاجية القيمية والأخلاقية، والتطبيقات العملية التي سعت لتحويل تلك التصورات والحجج إلى مشاريع عملية، ومحاولة التفاعل مع أسئلة الواقع بغرض التأثير فيه وإعادة تشكيله؛ ليكون أكثر تطابقاً مع منظومة القيم التي تبناها التنظيم -أو حتى تخيلها عن هذه الأفكار-، أو ربما كانت ناتجة عما طُرح عليه من الآخر فتبناها عن وعي وإرادة أو بلا وعي، ونؤكد هنا أن الحكم يكون على الجهد البشري للتعامل مع الواقع وليس القيم المجردة، مع تنزيلات القيم للواقع في صورة فعل وقول وسياسة ومال واقتصاد، وليست القيم باعتبارها نماذج مثالية ثابتة في نصوص مقدسة أو أفكار المفكرين والمؤسسين.

 

مقدمة:

نحاول هنا أن نتعامل وفق المنهج التحليلي الوصفي؛ بغرض وصف العلاقة بين ثلاثة متغيرات، أحدهما مستقل والآخر تابع وآخر وسيط، بين القيم والمبادئ التي قامت جماعة الإخوان المسلمين بإعلائها والعمل على تحقيقها من جهة -كمتغير مستقل- وسلوك جماعة الإخوان في شكل مشاريع تطبيقية من جهة -كمتغير وسيط- ونجاح جماعة الإخوان في ما كانت تهدف إليه على وجه العموم -كمتغير تابع-، أي بين القيم والمبادئ، والنتائج النهائية، عبر مشاريع يمكن ملاحظتها، علماً بأن هذه العملية سوف تكون وصفية نوعية بعيداً عن الدراسات الكمية، وبذلك يمكن لهذا التوصيف أن يكون مقدمة للكثير من الأعمال التي تبنى عليه.

ويمكن تقسيم السياقات التي مرت بها جماعة الإخوان المسلمين في سياقات ثلاثة كبرى هي:

  • نهاية السلطنة العثمانية ومقاومة بالهزيمة.
  • مرحلة الدولة ما بعد الاستعمارية الحديثة.
  • الهزيمة الأخيرة واستشراف المستقبل.

سنسعى لبيان الأسئلة الكبرى التي فرضتها كل مرحلة على الواقع الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والديني، ثم نبرز الإجابات القيمية والمفاهيمية ثم التنظيمية الحركية، ونسلط الضوء على المشروعات والشراكات التي قام بها التنظيم ومدى نجاحه في الربط بين هذه المكونات الثلاثة (القيم والحركة والتغيير في تطوير منتوج يؤثر على الواقع ويغيره)؛ وذلك من أجل محاولة وصف تلك القدرة على استيعاب الخيارات الفكرية وتحويلها عبر الموارد والمشاريع إلى عوامل تغير حركة التاريخ لصالحها. ولعلنا في هذا الإطار يمكن أن نبدأ بالسياق، ثم أهم المعالم الفكرية التي تشكلت للتعامل معه، ثم أهم المحطات الكبرى -أو النضالات- التي دخلتها الحركة، والنتيجة النهائية لهذه النضالات -على المدى القريب أو البعيد-.

 

ثم تأتي معالجة توصيف ذلك الكيان المنظم، والذي يستعصى على التوصيفات التقليدية، إما بسبب رفضه هو ذاته لهذه التصنيفات، أو بسبب شموله الذي يخرج به عن واحدة من تلك التصنيفات الدارجة، فإننا نجد أن تصنيف الحركة الاجتماعية قد لا ينطبق عليها لأسباب تتعلق بمحدودية الانضمام إليها وعدم قدرة قطاعات عريضة على الدخول تحت مظلتها، وهذا يجعلها أقرب للطائفة (تلي & تشارلز, 2005)⁠، وكذلك فإن تصنيفها كحزب سياسي يتعارض مع تنوع أنشطتها غير السياسية -التي تتمسك بها الجماعة كجزء من هويتها-، ورغم أن الحزب السياسي في كثير من الأحيان يرتبط بوجود سلطة سياسية، لكن جماعة الإخوان تبقى أحيانا عنصرا فاعلا حتى في الدول الفاشلة (ديفرجيه & موريس, 2011)⁠، كما أننا لن نعتمد مفهوم “الهيئة الإسلامية الجامعة” -الذي تصف به الجماعة نفسها-؛ لأنه يفتقر إلى الوصف الداخلي المترابط الذي يمكن القياس عليه، وبناء على ذلك فغالباً سوف نصف الجماعة بلفظ الجماعة أو الكيان.

وفي نهاية ورقتنا سنحاول أن نصف الاتجاه الفكري لجماعة الإخوان المسلمين، ومدى ارتباطه وتأثره بالسياق الذي كان فيه، والطرق التي استجابت بها للتفاعل مع هذا السياق عملياً، وأخيراً النتيجة التي انتهى إليها هذا التفاعل بين القيم والسياق، على مستوى عام وهو النجاح أو الفشل.

المبحث الأول: نهاية السلطنة والإحساس بالهزيمة

يتعجب الإنسان من المحاولات المستميتة لكل المساهمين في تيار النهضة باعتبار أن نقطة سقوط الخلافة العثمانية هي نقطة انهيار العالم الإسلامي، والحقيقة التي يشير إليها عدد من الباحثين والمؤرخين، أن الانهيار قد سبق ذلك -في أقل تقدير- بقرن من الزمان (شرشالي, 2015)⁠، حيث راحت التدخلات الأوروبية تنخر في جسد السلطنة دون مقاومة فكرية أو عملية أمام هذا الانهيار الملحوظ، سوى الاستسلام لطرق وأفكار هذا الغربي، والأعجب هو تلك المقولات التي تحاول أن تعزوَ ذلك السقوط والانهيار إلى مؤامرة من هنا أو من هناك، مع الإغفال المتعمد لعوامل التراجع والوهن الداخلي، وعدم تقديم تفسير لأسباب هذا التراجع.

وفي كثير من الأحيان نرى تساؤلات تتعلق بالعالم الإسلامي وإجابات ترتبط بالسياق المصري، أو تساؤلات تتعلق بمصر وإجابات ترتبط بالعالم الإسلامي، دون مراعاة للاختلافات الثقافية والسياسية التي تراكمت عبر مئات السنين وكونت أسئلة وإجابات مختلفة في كل لسان، وعرقية، وسلطنة، واستعمار. وبالرغم من هذا الخلط وعدم الوصول إلى تشخيص دقيق لأسباب الهزيمة الاقتصادية، أو العسكرية، أو الفكرية، أو الاقتصادية الاستعمارية، سنجد إقداما على وضع خطط تنفيذية واضحة الخطوات والإجراءات لمعالجة بعض المظاهر ربما دون وجود رابط منطقي أو فكري أو علمي محكم؛ ولذلك سوف نجد نجاحات على المستوى الجزئي أو المشروع، لكن سرعان ما ستنقلب إلى هزيمة على المستوى الكلي -أو إن شئت قلت الاستراتيجي-، أو العكس أي انتصارات على المستوى الكلي لا سند لها على المستوى الجزئي؛ فتنتهي هي الأخرى للهزيمة ولو بعد فترة من الزمن.

 

المطلب الأول مقاومة الهزيمة وفكر البنا

الحقيقة العميقة أن حسن البنا ظهر في فترة نهاية مشروع دولة محمد علي باشا، حيث وصلت الملكية التي أنشأها إلى الجيل الثالث والمتمثل في الملك الذي تولى العرش وهو ما يزال طفلاً، وهو ما سوف ينعكس على النظام الملكي والحالة السياسية في مصر، فقد تولى فاروق الحكم تحت وصاية ملكية من الأسرة والطبقة الحاكمة من جهة، ومن الاحتلال الانجليزي من جهة أخرى، أما الحكم الشعبي فلم يكن راسخاً بالرغم من الإنجاز العظيم الذي تحقق بعيداً عن الملكية وتطورها في الثورة الشعبية سنة 1919، وهو ما شكل نقطة قوة إضافية في النظام تتمثل في الحركة الشعبية بجوار الملك والأعيان والإنجليز، ومن جهة أخرى فإن الملكية كغاية سياسية للأسر العريقة في المنطقة -ومن ورائها السلطنة في الأستانة والمستعمر الانجليزي والفرنسي- كانت في طور التشكل والنمو وليس الانحصار كما كان الحال في أوروبا، والعجيب أن في هذا السياق كانت الملكيات هي الأداة الاستعمارية للسيطرة كما يظهر ذلك جلياً في مراسلات الشريف حسين ورئيس الوزراء البريطاني ماكموهان، (غنی‌عطره & ‌وئام‌شاکر, 2018)⁠، أو في عقود الإذعان التي وقعتها السلطات البريطانية مع مشيخات الخليج، وبالرغم من المحاولات التي سبقت نشأة الإخوان لمحاولة إصلاح الملكيات –الأفغاني نموذجاً-، فتصور إنشاء نموذج سياسي كان ما يزال تصوراً ملكياً في النهاية، ويمكن تلخيصه في أن يكون رأس الدولة حاكماً مدى الحياة ولا يمكن محاسبته عملياً، بحيث يمكن عند النهاية التوصية بالحكم لخلف له سواء كان قريباً أو صديقاً بعيداً عن أي إرادة جماهيرية.

 

كيف رأى حسن البنا سياقه؟

في الحقيقة لم تكن رؤية حسن البنا بعيدة عن هذه الرؤية الاختزالية، لأسباب التخلف والهزائم المتراكمة وفي هذا السياق كانت مبادئه تتلخص في عودة الخلافة عبر خطوات متدرجة من التغيير الاجتماعي ثم السياسي، مستنداً لمنظومات القيم الصوفية حول الأخوة والحب في الله والتضحية بالنفس في سبيل الله، لكن هذه المبادئ كانت تتطور بحسب تطور قبول الجماعة اجتماعياً وانتشارها في مساحات جديدة، فقد حاول البنا نفسه الدخول إلى ساحة الانتخابات، وهو ما يشير إلى أن الشرط الأولي للتربية والتغيير الاجتماعي يمكن أن يتراجع إذا كانت هناك فرصة للتأثير على التشريع عبر خوض المنافسة السياسية (الحسيني, 1952).

 

البيئة الدولية:

كانت مصر في مرحلة ما بين الحربين، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية لتجعل مصر نقطة عبور استراتيجي للموارد والقوات، لذا كان هناك احتياج بريطاني للهدوء الأهلي -الذي أنتجته عن طريق الحياة السياسية الشكلية التي تستوعب المشاعر الجماهيرية دون الوصول إلى قرار مصيري واحد (عثمان, 1993)⁠-، وبالرغم من محاولات النخب السياسية المصرية الحصول على أي مكاسب من المستعمر، فقد باءت كل المحاولات بالفشل (بدوي & المطيعي, 2003)⁠، ومن ثم وضع البنا حجتين للتعامل مع هذه المعضلة، الأولى: حجة “المؤامرة على الإسلام”، والثانية: توصيف ضعف المسلمين أمام الغرب، وأن الإسلام كدين قادر على استنقاذ الأمة من هذه المؤامرة.

 

كيف أجاب حسن البنا على أسئلة عصره؟

لا يستطيع منصف إلا أن يرى كيف كانت شخصية البنا مؤثرة في من حوله -سواء كانوا أتباعاً أو منافسين-، فالرجل صاحب أسلوب ساحر وقوة أسلوبية؛ تجعل من التساؤلات تذوب في خضم القوة والإيمان واليقين الذي يملأ مقولاته ومقالاته، لكن من جهة أخرى يجب أن نلتزم بمنهجنا النقدي محاولين عدم الوقوع في هذا التأثير، كما يجب الإشارة إلى أن كثيراً من إجابات البنا هي نتاج لمؤثرات اجتماعية موجودة في المجتمع، إما باعتبارات الثقافة السائدة، أو بالانتقال الفكري عابر للقارات أو بكليهما، ولذلك نجد نفس الأفكار موجودة في الطبقة السياسية بنسبة ما وبصيغ أخرى، وهذا يؤكد على فكرة أثر السياق الذي نحاول الطواف حولها والكشف عن أثرها.

 

السلفية المثالية:

يمكن أن نصنف أفكار حسن البنا بأنها مثالية ترى الماضي خالياً من العيوب، وأن هذه العيوب ليست إلا شذرات شاذة لا يمكن النظر إليها، ويمكن تجاهلها، ويكفي أن نتخطاها إلى المرحلة الصافية بحيث نأخذ من هذا النبع الطيب، وأن ننكر تأثير هذا التاريخ بل وحتى سيطرته على الكثير من واقعنا وثقافتنا، ومن هنا قد يبدو أن كل قراءة نقدية لهذا التاريخ ربما تمثل تهديداً وجودياً للفكرة والمجتمع الذي تسعى لتشكيله، ولا نقصد هنا النقد لفترة محددة ولكن لمجمل التاريخ، فسوف تظهر مواقف تبريرية عند كل دراسة؛ لتتلاءم مع النبع الصافي، وهو ما سينتهي بنا إلى توقف الحركة والفكرة عن النقد والتطوير الذاتي.

 

المرض في الآخر:

وحين اعترف البنا بأن الأمة تعاني من أمراض –لم يفصل فيها أو يشرح أسبابها-، جعل السبب الأكبر هو مؤامرة الأجنبي وتدخله في شؤوننا، والحزبية والفقر إلخ، دون إشارة واحدة إلى أسباب ذاتية تراكمية تعود إلى الموروث الثقافي والتعليمي، ولكن تبقى فكرة المستعمر هي الأساس، وحيث المستعمر كان هو الاستعمار الانجليزي الذي برع في العمل غير المباشر، وبأقل عنف ممكن، تظهر فكرة المؤامرة على الإسلام كأهم تبرير غير محدد لكل ظاهرة سلبية في السياق، بل إن مسألة ترسيخ ذلك في نفوس الشباب هو جزء من عملية التربية التنظيمية.

 

العلاج الكلي:

كانت أفكار حسن البنا حول العلاج متعددة بحسب وصفه للداء، فحين يرى أن علاج الحزبية هي حلها جميعاً، وعلاج الحرب التدرج في بناء القوة الذاتية والتعاون الدولي لوقف الحرب، هذه الأفكار الكلية غالباً ما تضمن أمراضاً في التفصيل، ومن أهم هذه التفاصيل مسألة تقييد الحاكم ومنعه من الاستبداد، والتي لم تظهر في كل مقالات حسن البنا، بل على العكس فقد ساير البنا المفهوم السائد ضمناً عند المسلمين السنة بأن السيادة بمفهومها الغربي والتي تعني أن صاحب السلطة الكلية الوحيد هو الملك أو الحاكم وليس للشعب، فكما يقول البنا في الأصل الخامس من الأصول العشرين “ورأيُ الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات،…” وهي إشارة إلى إمساك الحاكم بكافة السلطات دون موازنة من أي نوع، وكونه هو في ذاته المسؤول عنها وليس مجرد وكيل.

والخلاصة أن فكر الإخوان المسلمين فترة حسن البنا كان عاماً بلا تفصيل، أو أي جهد فكري تنظيري (بيومي, 1991)⁠ للتعامل مع معضلة الاستبداد كأحد المشكلات الأساسية التي تواجه الأمة والمجتمع، بل حتى البشرية، ومن ثم تقديم حلول ممكنة لها.

 

القائد الملهم:

ولعل أهم أفكار حسن البنا هي المتعلقة بظهور شخص يتمتع بالرجولة والتضحية ليكون قادرا على تحقيق كل الآمال المرجوة، وهذه الفكرة تظهر عرضاً في كتابات البنا ومقالاته لكنها تظهر جلية في شخصيته وإدارته للأمور، وقد كانت هذه الفكرة سائدة على مستوى التصور حتى أنها كانت أهم أهداف الجماعة عند تكوين الأفراد.

وفي النهاية يمكن القول إن أهم الأسئلة التي لم يجب عنها البنا والتنظيم في مرحلة النشأة -كأنها عرض غير مؤثر- هي الأسئلة المتعلقة بميل الشعوب لتمثيل نفسها، وكذلك بمسألة الاستبداد وأثره وكيفية علاجه.

 

ثالثاً أثر المحيط الدولي في أفكار البنا

هذه النقطة شديدة الحساسية حيث لا يمكن إثبات هذا التأثير بصورة ارتباطية وإنما بصورة ظرفية تحتمل النقد، ومع ذلك سوف نحاول هنا وضع إشارات تنير الطريق.

 

ألمانيا النازية والمذاهب الشعبوية

يُظهر حسن البنا إعجاباً بهتلر باعتباره نموذجاً للرجل القادر على تغيير مصير أمته، حيث يقول في رسالة إلى أي شيء ندعو الناس ما نصه: “ومن كان يُصدّق أن ذلك العامل الألماني (هتلر) يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ و نجاح الغاية؟”، ونفس الأمر يتعلق بالنظام الفاشي في إيطاليا بالرغم من نقد الجماعة له لاحتلاله الأراضي الليبية والإشارة إلى طغيانه وسوء عاقبته، غير أن التشابه بينهما وأفكار وتطبيقات مبادئ البنا -ومن خلفه جماعة الإخوان المسلمين- شديدة التشابه، فمفهوم الجماعة التي تمثل المجتمع وتقوده وتقوم بكافة الوظائف المجتمعية والدينية والسياسية وحتى العسكرية، هو ذاته المفهوم الذي قامت عليه الحركات الشمولية في الغرب، ويشمل ذلك ما اصطلح علي وصفه بشمولية الإسلام، وكذلك التنظيمات شبه العسكرية، والمبادئ الإدارية.

 

المجتمعات الغربية

لم يُخفِ حسن البنا إعجابه بالتطور التنظيمي والاجتماعي والإداري للمجتمعات الغربية؛ بل طالب جماعته بالأخذ بالنافع منها، وحضّ على الدعاية الحديثة والصحافة والطباعة كمهارات يجب على الإخوان تعلمها والاستفادة منها، بل يمكن ملاحظة استشهاد البنا بعالم الاجتماع الفرنسي إدمون ديمولان في مسائل تتعلق بالتربية.

 

الاشتراكية

وهناك نزعة يمكن تسميتها بالاشتراكية في تصورات حسن البنا، لكن من جهة أخرى فإن عداء اليسار كان جزءاً يكاد يكون ثابتاً في تصورات البنا على عكس الكتلة الغربية، كان البنا يكاد يكون منغلقاً أمام الأفكار والتنظيرات اليسارية والكتلة السوفيتية، كما يمكن ملاحظة التطور البطيء لمسألة تحديد الملكية الزراعية، والتي حاول أن يخفف منها بحيث لا يكون للدولة دورا حصريا لتحديدها.

 

المطلب الثاني التطور الحركي وتفعيل القيم

مما لا شك فيه أن القيم لا تتحرك في الذهن وحسب؛ ولكن تتشكل في صورة أهداف وضوابط ومشاريع، وقد تتطور لكي تتحول لمؤسسات أو حتى لنظم حكم، وقد تطورت القيم التي تبنتها جماعة الإخوان بحسب السياق والفرص وحتى المبادرات الفردية، وسوف نقوم في هذا الجزء بمحاولة رصد أهم التمثيلات التي حاولت الجماعة تطبيق مبادئها من خلالها.

 

أولاً الحركة الشعبية العسكرية:

لعل قيمة التربية لبناء الفرد من أهم القيم التي تدور حولها فكرة الإخوان، وبعكس الفكر التقليدي الذي كانت أقصى تجلياته في الطرق الصوفية والتي تقوم على فكرة القطب وأتباعه من الأولياء، ومن ثم الشيخ والمريد في إطار يغلب عليه الانسحاب من الدنيا والإغراق في سردية تصل في نهايتها للمفهوم المسيحي “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، لكن جماعة الإخوان لم تنطلق من هذه الرؤية؛ بل كانت تبشر بأن إصلاح الدنيا هو السبيل للآخرة، ومن ثم كان هناك احتياج لشكل جديد يقوم بعملية تغيير الإنسان؛ لكي يكون قادراً على هذه المهمة الدنيوية تحت مظلة غاية السعي للآخرة، وكأي تفعيل لمبدأ يظهر التطور التنظيمي في شكل حلقات في المساجد، ثم برامج تعبدية ليلية سميت الكتائب، ثم مجموعات التربية الخاصة والتي سميت الأسر، لكن السؤال ما هو الناتج الذي كان يجب أن يخرج من هذه المؤسسات؟ هل هو شعب مختلف؟ أم قيادة فكرية وحركية وروحية جديدة؟ ثم كيف ستؤثر هذه المخرجات في السياق؟

 

الحقيقة يصعب تصنيف جماعة الإخوان في هذه الفترة، هل هي جماعة جماهيرية تقوم بحشد العضويات، أم أنها جماعة نخبوية تقوم على الانتقاء والتوعية والتصعيد والدعم؟

قد نجد من يؤكد رأياً من الاثنين كما أن عملية التوفيق بينهما مسألة صعبة خاصة فيما يتعلق بالجانبين الجماهيري والخاص، سنجد العمال والفلاحين والطلاب، كما سنجد العلماء والأفندية -مصطلح يطلق على الطبقة المتعلمة تعليماً مدنياً ويلبسون الطربوش بدلاً من العمامة وتهتم بالشأن العام–. يمكننا أن نقول إن هناك احتمالان لهذه الظاهرة: الأول هو احتمال عدم وضوح الهدف النهائي من التنظيم على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وبالتالي آلية تنفيذ هذا الهدف؟ والنسب المطلوب تحقيقها من التنظيم كجماهير -أو نخب قادرة على التوجيه والقيادة-؟ والاحتمال الثاني: أن الهدف كان واضحاً -بعكس طريقة الوصول إليه التي بالتأكيد ستتغير بتغير السياق-، ومن ثم كان التكوين يتم بالتوازي على المنهجين (العام والخاص) مع الانفصال العضوي والوظيفي الذي وصل إلى حد سرية أحد المسارات.

 

سنجد أيضا التشابه الكبير بين فكرة الحركة الفاشية ووظيفة التنظيم، وهو ما أدى لظهور ما يمكن تسميته شمول التنظيم كتطبيق لمفهوم شمول الإسلام، وهو ما شمل حتى المستويات الفكرية، وهو ما شكل بعدين متناقضين: الأول تماسك التنظيم وتوجيه كافة الطاقات لبنائه والحلم من داخله، والآخر هو رفض كل خبرة أو فكرة من خارج التنظيم، وهو ما أدى إلى طرد كل مختلف، ويأس كل مختلف من الدخول إليه.

 

أما على مستوى الدعاية فقد كانت الحركة متقدمة على غيرها من حيث أخذها بالوسائل الحديثة الغربية، مع حفاظها على لغة خطاب إسلامية قريبة من قلب الجمهور، حتى وصل الأمر في ذلك الوقت إلى امتلاك إذاعة راديو غير المطبوعات والمسيرات المنظمة والمؤتمرات الحاشدة، لكن هذه الدعاية كانت ذات ثابت وحيد هو الإسلام كفكرة وعقيدة.

 

ثانياً الحراك السياسي الداخلي

كان مبدأ الإسلام دين ودولة يعني التحرك في مساحات تتعلق بالسلطة وكيفية اكتسابها وكيفية إدارتها والغاية منها، وهو ما بدأ كنوع من إبداء الرأي عبر الخطب والخطابة، ثم تطور إلى الصحافة وتحول بالتدريج إلى ما يشبه العمل السياسي، في صورة تحالفات وتحالفات مضادة، وترشح للانتخابات أو دعم مرشحين.

 

ويمثل الحراك السياسي أحد مشاريع الإخوان لتحقيق عودة الخلافة كهدف يتسق مع مبدئها الرامي لإحياء الإسلام وإحياء عناصره خاصة فكرة الحكم بالشريعة، وقد ظهرت هذه المبادئ في التطبيق، على صورة محاولة أو تأييد تولية الملك فؤاد أو فاروق الخلافة على النمط العثماني، أي سلطنة بشرعية دينية، كنوع من أنواع إعادة الخلافة للحياة، وهو ما فشل فيه الإخوان لأسباب تتعلق بالسياق الذاتي، والذي نقصد به الملوك الآخرين في المحيط العربي والسياق الدولي الذي لم يرحب بعودة مركز ثقل معنوي بهذا الحجم، لكن الحراك السياسي في صورة ضغط أو ترشح للانتخابات، كان بلا برنامج واضح تسعى الجماعة لتحقيقه، مما جعل الجماعة في الكثير من الأحيان تبدو كأنها ضد السلطة الجماهيرية للشعب ولصالح سلطات أقل ما توصف به أنها استبدادية، (بدوي & المطيعي, 2003)⁠؛ لكنها رغم ذلك لم تتجاوز ذلك لتتعاون مع الاحتلال  وظل ذلك ثابتا من ثوابتها التنظيمية، والذي على خلافه كان دأب كافة السياسيين في تلك الفترة، لكن هذه المعارك -خاصة العلاقة مع المحتل- انتهت بهزيمة التنظيم واغتيال مؤسسه.

 

مقاومة القيم المضادة

كانت أخطر القيم المضادة تتمثل في الإلحاد، والتبشير، والدعاية للتفسخ الأخلاقي كما تراه الجماعة، وكان لا بد من تطوير مؤسسات؛ تسعى لمواجهة هذه القيم، والحقيقة أن الإخوان لم تكتفِ بالعمل الدعائي المضاد، وإنما تحركت على عدة مستويات؛ إدراكاً منهم بالمشكلات المرتبطة والتي تجعل مساحة توسع مثل هذه الدعاية المضادة ممكنا، مثل الفقر والجهل والخرافات، ومن ثم تحرك الإخوان في مجال العمل الخيري والاجتماعي؛ ولكن أيضاً ليس بالصورة التقليدية السائدة مثل تقديم الطعام في التكايا.. إلخ؛ ولكن كان العمل الاجتماعي ممزوجا بالدعاية المرتبطة بالقيم التي يؤمن ويدافع عنها الإخوان، ولعل هذا النوع من العمل هو الأوسع والأكثر نفعاً مما قام به الإخوان، لكن يبقى السؤال كيف ساهم هذا العمل في رؤية الإخوان لتفعيل قيمهم وتحقيق غايتهم؟ ومثل هذا السؤال يحتاج للمقارنة مع فترات أخرى لمعرفة الإجابة الأكثر دقة.

 

مناصرة الشعوب الإسلامية

كان مفهوما أن الإسلام رابطة أوسع من الوطنية والقومية، وأن الأخوة التي تربط بين المسلمين ليست رابطة تعاطف قلبي أو لجلب المنافع فقط، ولكنها كذلك لرد الضرر أيضا، ومن هذا المنطلق، كانت مناصرة الشعوب الإسلامية والعمل على التعريف بقضيتها ثم مساندة مساعيها من أهم أولويات الإخوان، والتي تطورت إلى تكوين اللجان المختصة ودعم ذلك مادياً ومعنوياً، ليس لفلسطين فقط، ولكن حتى لمناطق لم تكن على الخارطة الذهنية للعالم العربي ومصر على وجه الخصوص مثل: تركستان، والهند، وإفريقيا الإنجليزية والفرنسية وغير ذلك.

 

المطلب الثالث المشاريع الكبرى

إن الوقوف عند حد المسعى والتمني ليس هو المسار الصحيح للتعلم من خبرة التاريخ، كذلك فإن التحرك دون دراسة أو قُل على الأقل جمع الحد الأدنى من المعلومات المتعلقة بالتحرك هو عمل همجي غالباً ما ينتهي بكوارث حقيقة على المستوى البشري أو الفكري.

 

وقد تحركت الحركة الإسلامية بدافع الغيرة والإحساس بالواجب نحو عدد من المشاريع الكبرى التي تداخل معها فيه كل السياقات التي تكلمنا عنها سابقاً، وتفاعلت مع ذلك كل القوى ذات المصالح وهو ما جعل هذه المشاريع -أو المعارك- في غاية الأهمية ومراجعتها تحتاج إلى الكثير من النظر والدراسة ثم التطوير أو قل إن شئت التغيير، لكن ورقتنا هذه لن تسعى إلى ذلك إلا فيما يتعلق بالقيم وأثر هذه المشروعات عليها بالتطور أو التغيير من جهة، والسؤال حول إدراك ذلك باعتباره وظيفة ذاتية من جهة أخرى.

 

أولاً بناء التنظيم المزدوج

إن العمل المنظم هو وسيلة منطقية؛ لتحقيق أي هدف مهما كان بسيطاً، لكن الإشكالية تكمن في تعريف الوظيفة، وحيث أن الوظيفة التنظيمية كانت شاملة، كان ولا بد أن يتحرك التنظيم في اتجاه مساحات يحتكرها غيره ويعتبرها محرمة على من سواه، ولعل أهم تلك الوظائف، وظيفة الاستخدام الشرعي للعنف، والتي تحتكرها الدولة بطبيعة تعريفها الحديث، وما يمكن التأكيد عليه أن هذه الفكرة تعد حديثة نسبياً في هذا التوقيت خاصة في الدول الحديثة، فما بالك بتلك التي كانت تحت الاستعمار بالأساس، أما قبل ذلك فحقيقة لم تكن الدولة تحتكر العنف بصورته الحالية بل على العكس كان هناك دائماً وكلاء للدولة في ممارستها للعنف، أو أن الدولة تنظم هذا الاستخدام فقط، وقد وقعت جماعة الإخوان في هذه الفترة البينية، فبالرغم من نشأة الجيش في عهد محمد علي لكن هذا الجيش كثيراً ما استخدم العربان كمليشيات غير نظامية تساعد في المجهود الحربي، وحتى في فرض النظام (فهمي, 2001)⁠، وحتى في المراحل التي عاصرت هذه الفترة، كثيراً ما دعمت الحكومات حركات المقاومة المسلحة غير النظامية ضد الاحتلال (بدوي & المطيعي, 2003)⁠.

فكان مشروع إنشاء التنظيم الخاص، والذي يعد تنظيماً عسكرياً موازياً يقوم على الوظائف العسكرية وشبه العسكرية التي يحتاج لها السياق، ولذلك نجد أن تعريف الوظيفة التنظيمية لهذا التنظيم بأنه “حماية الدعوة”.

ومن جهة أخرى كان التنظيم العام -الجماهيري- يعمل بقوة وكفاءة، حتى أنه تمدد على المستوى الأفقي لأبعد من حدود مصر، بل ورأسياً عبر عدد من الطبقات والمكونات الفكرية في إطار الفكرة الإسلامية، ولا يمكن إنكار تأثيره الثقافي العام، بل يمكن أن نقول إن التنظيم استطاع أن يتماسك أمام ضربات النظام التي استطاعت أن تقتل مؤسِّسَه وتُفكِّك الكثير من بنيته التنظيمية.

وخلاصة القول أن المشروع التنظيمي كان ناجحاً في توجهه العام من حيث القدرة على الانتشار أفقياً بوصوله إلى القرى، ورأسياً بقدرته على جمع أغلب الطبقات معاً في أغلب المستويات التنظيمية، كما أنها استطاعت أن تُنتج وتعيد إنتاج ذاتها فكرياً في عدد لا يستهان به من الدعاة والنشطاء، وإذا ما قارناها بغيرها من تنظيمات الحياة السياسية المصرية سوف نجد اختلافا لصالحها في هذه المستويات جميعاً، لكن ازدواجية هذا التنظيم وشقه العسكري جعلت السيطرة عليه شبه مستحيلة خاصة في أوقات الأزمات، بل إن الوظيفة التنظيمية المعلنة فشلت وتمزقت مع الضربات، وإن كانت حققت نجاحات على المستوى الدعوي في إطار القدرة على الحفاظ على جرثومة الفكرة ، لكن يمكن القول إن السلوك السياسي لم يتطور بالقدر الكافي سواء في اتجاه الاندماج في النظام السياسي، أو القدرة على تطوير حركة ثورية قادرة على تغيير النظام ككل.

 

ثانياً حرب فلسطين

من أكبر المشاريع التي دخلتها جماعة الإخوان في هذه الفترة، كانت المساهمة المسلحة في حرب فلسطين، والتي انتهت بهزيمة الكل وقيام دولة إسرائيل، وبالرغم من الإقرار بأن الانخراط المباشر في الحرب كان تطبيقاً للمبادي المعلنة من الحركة؛ لكن هذا التدخل كان في إطار مساندة الجيوش النظامية، ولم يكن له استراتيجية واضحة وهو ما أدى بالرغم من البطولات التي سطرها الأفراد المشاركون، إلى نتائج أخرى عكس النتيجة المرجوة وهي إيقاف احتلال فلسطين.

 

ثالثاً انقلاب يوليو

على الرغم من أن هذا العنوان قد يبدو عجيباً، لكن شهادة الكثيرين تشير إلى أن فكرة تحرك الجيش ضد النظام هي فكرة راودت التنظيم، بل لعله سعى إليها عبر تجنيد الضباط، بل لعل العلاقة المتوترة بين القائمين بحركة يوليو 52 وجماعة الإخوان المسلمين ترجع في جزء منها إلى هذا التصور الذي يمكن تلخيصه في أن الجماعة تصورت أن الحركة جزء من تصوراتها العامة لتغيير الواقع في مصر (أبو النصر, 1988)⁠، ولا يمكن إنكار دور الجماعة في تأمين الحركة خارج إطار المنشئات العسكرية.

 

خلاصة هذه المرحلة

يمكن تقييم هذه المرحلة بأنها مرحلة رومانسية تشكلت فيها الكثير من قيم ومبادئ جماعة الإخوان المسلمين، كما تحولت إلى مشاريع عمل جمع بينها الانطلاقة بسرعة وحماسة، وحققت نجاحات جزئية على مستوى العاطفة والإيمان بالفكرة، لكن أول نقد يوجه لهذه الفترة هي عدم تطوير النموذج المثالي، ليتمثل في نماذج واقعية -سواء على مستوى التصور أو التطبيق-، فكانت كافة الأمثلة هي لفترة الخلافة الراشدة، وهو ما أدى إلى وقوف النموذج عند مستوى المثال القديم دون أدنى تطور فكري في اتجاه الواقع، وحتى نكون منصفين فإن السياق والواقع نفسه لم يكن يحتوي على أمثلة من هذا النوع إلا ما يمكن إعادة تعريفه من التجارب الغربية أو الشرقية التي كان يرفضها الإخوان رفضاً عاماً دون تفكير نقدي.

أيضاً فشلت الجماعة في تحقيق غالبية أهدافها العامة -والتي للحق لم تكن واضحة ومحددة بالقدر الكافي-، لكن على المستوى الفردي، فإن النجاح الأكبر هو هذا المنتج -إن جاز التعبير– من الأفراد المؤمنين بالفكرة وبأن كل واحد منهم قادر على أن يكون الإسلام الشامل، وهو ما أنتج طاقات هائلة من حيث القدرة على تجميع الأفراد والأموال وحتى النفاذ إلى السلطة بصورة فردية (محمود, 1994)⁠، لكنها ظلت قدرات سطحية وساذجة سياسياً، من جهة أخرى هناك نماذج كثيرة مشرفة يمكن الإشارة إليها باعتبارها نتاج لفكر الإخوان المسلمين ومبادئهم مثل الدكتور يوسف القرضاوي والأستاذ توفيق الشاوي بالرغم من الانتقادات التي وجّهوها للحركة.

 

المبحث الثاني الدولة ما بعد الاستعمارية:

من لطائف التاريخ أنه لا يحتوي على نقاط انقطاع واضحة، ولكن هناك دائماً فترات انتقال تظهر فيها الأنماط الجديدة وتزوي فيها الفترات القديمة، ونحن هنا لا نأخذ فترة الدولة ما بعد الاستعمارية الممتدة حتى اليوم؛ لكن نقصد فترة الصدام بين جمال عبد الناصر والإخوان في بداية تأسيس دولة يوليو ما بعد الاستعمارية، ولا نقول هنا أننا سوف نتخطى هذا الصدام، ولكن نؤكد على التزام المنهج المتبع دون السقوط في وهج هذه الفترة بالذات.

 

المطلب الأول سياق النجاح في إزاحة الاستعمار ومعضلة الشرعية

إن الانسحاب المنظم الذي بدأه الاستعمار من الدول المستعمرة، ثم نسجه خيوط التبعية الناعمة والخشنة؛ أنتج سياقاً مختلفاً عن مرحلة الاستعمار وسقوط الامبراطورية العثمانية (الشاعر, 2017)⁠، حيث راحت السياسات الاستعمارية عامة والبريطانية على وجه الخصوص، تبحث عن تحالفات مع كيانات ضعيفة تُحدث معها حالة من التحالف، بحيث تضمن لها سيطرتها المحلية بكلفة أقل من تلك التي كانت تدفعها مع وجودها المباشر، ومن ثم ظهرت أسئلة جديدة يفرضها السياق الجديد وصارت أكثر إلحاحاً وأكثر شعبية، كما أنه ومن جهة أخرى سقطت الكثير من الحُجج التي تساند وسائل بعينها مثل العمل المسلح في مواجهة المستعمر، ليحل محلها حجج مضادة استندت إليها الدولة القومية الحديثة ما بعد الاستعمارية، في مواجهة الجماعات و الولاءات الفرعية التي وقعت تحت حكمها، وقد كانت لحظة خروج المستعمر من مصر لحظة فارقة حيث مثلت مسألة خروجه أحد أهم القضايا التي يدور حولها الصراع والجدل الفكري والسياسي في مصر وأغلب البلدان المستعمرة، وقد تزامنت هذه اللحظة مع نشأة النظام الجديد بقيادة جمال عبدالناصر، ومن هنا يمكن القول إن كثيرا من مبادئ جماعة الإخوان المسلمين أخذت تتطور وتتشكل للاستجابة لتساؤلات الواقع.

 

أولاً الدولة الإسلامية وشرعية الدولة الوطنية

كانت شرعية دولة ما بعد الاستعمار نقطة إشكالية كبيرة في فكر جماعة الإخوان المسلمين، ونتيجة لذلك ظهر ما يمكن وصفه بالنزعة المناهضة والتي أخذت أشكالاً من الرفض حتى التكفير، وهو ما أثار التساؤل القديم أين يبدأ وأين ينتهي النضال السياسي المسلح؟ وما هو التكييف الأخلاقي والديني لمثل تلك الأعمال، خاصة وأن سببه المباشر كان وجود قوة احتلال أجنبي؛ لكن من جهة أخرى فإن الغاية الكبرى وهي إقامة دولة إسلامية تعيد تطبيق الشريعة الإسلامية، لم تتحقق ولو جزئياً حيث زادت الشكوك حول إمكانية قيامها بتصوراتها العامة عند الجماعة، خاصة وأن القمع الذي تعرضت له الحركة والذي أحدث حالة من الارتباك حول طبيعة هذا الصراع هل هو صراع على السلطة أم صراع ضد الإسلام؟ كما أن السياسات التي اتخذها نظام الحكم الجديد لم تقتصر على التخلي عن بعض المبادئ الإسلامية، ولكن راحت تحارب ما تبقى منها أيضاً ويأتي على رأس ذلك المحاكم الشرعية (Www.marefa.org, 1956)، والأوقاف.

ثم يأتي سؤال آخر وهو: ما هي الشرعية التي يستند إليها النظام القائم تجاه الجماعة والمجتمع؟ وإلى أي مدى يمكن طاعته أو مخالفته؟ وهل يمكن قياس طاعتها على طاعة الإمام الذي نصت عليه أفكار البنا؟

وإذا ربطنا بين ذلك وواقع تدعو فيه هذه الدولة الجماعةَ إلى حل ذاتها والاندماج في النظام الجديد -طوعاً أو كرها- دون أن يجيب عن تساؤلات تتعلق بالاستقلال الفكري في مواجهة الغرب ودور الإسلام في النظام الجديد، وهو ما يتناقض مع الرؤية الكونية التي تحملها الجماعة، مع العلم أن هذا السؤال لم يكن بسيطاً، فقد تكرر في أكثر من جهة ومناسبة وبأشكال وصيغ مختلفة، منها على سبيل المثال تبني وطنية الجماعة كشرط من شروط الاندماج السياسي، وجدير بالذكر الملاحظة هنا أن الجماعة لم تقدم تبريراً فكرياً متماسكاً لهذا الخروج والرفض للنظام القائم، وعلى العكس فإن المؤسسات العلمية القائمة وعلى رأسها الأزهر تداولت مفاهيم طاعة ولي الأمر القائم والمتغلب، بينما رفضت الجماعة هذه الشرعية رفضاً ضعيفاً يستند إلى عدم الحكم بما أنزل الله، وفي ذات الوقت راحت تقلل من هذا الوصف -الذي إذا امتد على مساره أنتج فكرة الخروج (رائف, 1990)⁠-.

وما يمكن أن نقوله هنا أن فكرة الدولة الإسلامية التي تهيمن على مظاهر الحياة كلها بقيت مسيطرة ومركزية في فكر جماعة الإخوان المسلمين، لكن بقيت كذلك إشكالات كثيرة لم يتم الإجابة عنها لعل أهمها موقع الدولة القطرية القومية من هذا التصور والحدود السيادية التي تمتلكها؟

 

سلمية أهل السنة:

من أهم المبادئ -التي تطورت في هذه الفترة واستمرت- هو مبدأ عدم الخروج المسلح على السلطة والذي تمظهر في الكتاب المنسوب للمستشار الهضيبي دعاة لا قضاة، والحقيقة أن هذه الفكرة ظهرت أيضاً في الرسالة المعروفة لحسن البنا قبل اغتياله “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين” والتي لم يتم إدراجها في النسخة المطبوعة من رسائل حسن البنا، لكن الأكيد هنا هو تطور هذا المنهج لكي يتحول إلى رفض لكافة أشكال العمل المسلح داخل القطر السياسي غير الخاضع للاستعمار، وهو ما اتخذ شكلاً قد نصفه بالمتطرف، إذ رفض الإخوان التسلح حتى في الدول الفاشلة مثل الصومال وسوريا، وهو ما أدى إلى خروجهم -في هذه البلاد- من المعادلة السياسية والاجتماعية، لكن هذا التصور المبدئي والذي حُسم فيه مسألة الخروج المسلح على النظام السياسي باعتباره صورة من صور الاختلاف بين ما يمكن تسميته أهل السنة وبعض الفرق الإسلامية الأخرى، وليس بخافٍ أن هذا التطور كان ردة فعل لما واجهته الجماعة من صدامات تصل لحد الإفناء التام مع الدولة الحديثة في مصر، ثم الإخفاقات الأخرى التي تعرضت لها مع العمل المسلح في مناطق أخرى مثل سوريا 1981، ويمكن القول أن العمل السلمي تم تبنيه بصورة كلية دون تفصيل وهو ما سوف يربك الجماعة مستقبلاً في فترة الانتفاضات العربية والردة عليها.

 

ثانياً ثنائية الحزب والجماعة

يرتبط بنفس السؤال السابق سؤال يطرح فكرة تعريف الذات في إطار هذا الشكل الجديد من الدولة الذي يعتبر كل المكونات التي تسبح في فضائه جزءاً منه -إما جزءاً وظيفياً أو جزءاً سرطانياً يجب استئصاله تماما-، وهو ما طرح أسئلة حول وظيفة هذا التجمع في مواجهة الدولة وبالتوازي مع المجتمع أين هو بالضبط؟ ثم تظهر أهم الأسئلة الذاتية وهو موقف الجماعة من مشاركة السلطة على مستوى تداولها من جهة، وموقفها من الفئات المهمشة من المختلفين عن الجماعة في الدين من أبناء الوطن أو النساء من جهة أخرى؟

لكن الأزمة تكمن في التفرقة بين المسؤولية العامة للأمة، والمسؤولية الخاصة للجماعة، والتي تصورت الجماعة -باعتبارها القائمة بالوظيفة- أنها مسؤولة مسؤولية كاملة عنها وهو ما فرض عليها العمل باعتبارها الممثل للأمة ككل وليس كجماعة من المسلمين، هذا الأمر الذي دعا إلى طرح سؤال: هل الإخوان جماعة من المسلمين أم هي جماعة المسلمين؟ والحقيقة أن إرباك هذا السؤال لا يرجع فقط لمسألة التكفير السابق الإشارة إليها؛ ولكن الجزء الأهم من هذا التصور الذي يرى أن الجماعة مسؤولة عن الفرائض العامة المنوطة بالأمة ككل باعتبارها مسؤولية عينية على الجماعة.

وعند ذلك يكون طرح أي تصور يقلص من هذه الصورة الشمولية، تصورا خارجا عن ثوابت ومبادئ الجماعة، فعندما طُرحت فكرة أن تمتلك الجماعة شرعية قانونية في صورة جمعية أهلية، وقفت طبيعة هذا المسمى أمام تحركات الجماعة السياسية، وعندما طُرحت فكرة أن تتحول الجماعة إلى حزب سياسي، وقفت طبيعة هذا المسمى أمام تحركات الجماعة الخيرية والدعوية، ومن ثم فإن النداء بأن تتحول الجماعة إلى أي صورة غير صورتها الحالية “هيئة إسلامية جامعة” يلقى معارضة مبدئية، وليست مجرد معارضة تكتيكية لواقع محدد.

أما هؤلاء الذين دعوا إلى هذه الأفكار فهم يحاولون أن يقسموا وظائف الجماعة إلى جهات متعددة بما يسمح بالتخصص الوظيفي، لكن العائق الأكبر يكمن في حقيقة أن الوظيفة الدعوية الخيرية الإغاثية ليست ذات جاذبية للطبقة القيادية الأكثر تأثيراً في الحركة، وهو ما يعني أن التخصص فيها بعيداً عن العمل السياسي لا يُشبع احتياجاتهم، وهو ما عانت منه على سبيل المثال حركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في الأردن، مما أدى إلى ما يشبه الهجرة الجماعية للتنظيم السياسي في مقابل التنظيم الدعوي.

والخلاصة هنا أن جزءاً من التماسك الوظيفي لجماعة الإخوان يرتبط بهذه الشمولية الوظيفية أيضاً، وهو ما لم تستطع الجماعة تطوير حل لهذه الثنائية حتى الآن، لكن ما يمكن قوله إن وظيفة التنظيم تقوم على فهم مبدأ شمولية الإسلام الذي تطور إلى شمولية التنظيم.

 

ثالثاً الشورى الديموقراطية

تعتبر مسألة مسؤولية الأمة عن إرادتها وتمثيل هذه الإرادة مسألة في غاية الصعوبة، فبينما تظهر فكرة حراس الدين وقادة الدنيا كنموذج تندمج فيه هذه الإرادة وفقاً لنظرية أهل الحل والعقد عند الماوردي، فإن التطبيق لم يصل إلى صورة يمكن أن يحل هذه الالتباس ومنذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين لم تظهر فيها ما يمكن تسميته بالرأي العام، بل على العكس تماماً حيث دائماً ما كان يظهر أشخاص قادرين على قيادة الجموع وتوحيد الصفوف، فإذا أضفنا إلى ذلك الواقع الصدامي المستمر مع الأنظمة والانتقائية الشديدة للأفراد في مراحل التصعيد التنظيمي داخل الجماعة، تظهر معضلة التمثيل تلك داخل الجماعة وحتى في المجتمع، وهنا تظهر حالة عدم الارتياح لكل وظيفة تعمل في تلك الأبعاد، فالصحافة والمحاماة باعتبارها أدوات للرأي العام والتمثيل الفردي والجماعي أمام القانون، مهن إشكالية في ثقافة الإخوان المسلمين، بل هي وظائف غير مطلوبة أو غير مجدية على أقل تقدير، ولذلك فإن الانتخابات كوسيلة للتعبير عن الرأي الجماعي للأفراد ليست بالضرورة تمثل التعبير الإسلامي عن الحقيقة، أو إن شئنا القول التوقيع عن الله، فهذه المسألة تحتاج صفات خاصة مثل العلم والتقوى والعمل والجهاد وهو ما يمكن حصره في قلة معروفة، ولا يمكن اعتباره مشاعا في عموم الناس، ولذلك فإن التنظيم حاول تقليص هذا الحق داخلياً ولم يمتلك فكرة بديلة على مستوى المجتمع.

هذا الارتباك الفكري وعدم حسم مسألة دور الجند -أو إن شئنا الشعب- في إدارة أمره، هو ما أدى إلى ارتباك فكري وتنظيمي نحو مفهوم الشورى نفسه ومفهوم الديموقراطية الذي يمثل تجربة مختلفة تنطلق من مبدأ آخر هو أن الأغلبية تعرف الحقيقة، لكن بقيت فكرة أن الأقلية المؤمنة هي المؤتمنة على الشريعة، وأن الأغلبية لا يمكن ائتمانها على هذا الدور، وهو ما سوف يظهر لاحقاً في مشروع التنظيم الجديد.

 

المطلب الثاني استجابة الفكرة لواقع دولة ما بعد الاستعمار.

وعلى خلاف الفترة الأولى التي شهدت طاقة التأسيس، فإن الإجابة عن هذه المشكلات السياقية خرجت في صورة استجابة تنظيمية وكتابات تحمل ذات الصفة، بعيداً عن شخص القائد الفريد الذي مثله حسن البنا، أو ظهور ما يمكن أن نسميه فيلسوف الحركة أو قائدها الفكري، مما خلق حالة عجيبة يمكن تسميتها السيولة الفكرية وضعف الخيال (عزت, 2015)⁠، والتي بموجبها يمكن أن يصدر الكثير من المواقف والأفكار عن منتمين للجماعة أو حتى قادة لها، ثم يتم الإعلان عن أن هذه الأفكار لا تمثل الجماعة وأنها تعبير فردي عن الرأي، مع محاولة احتوائها في إطار من الأفكار العامة بحيث تفقد طبيعتها الاختراقية، ولعل سيد قطب أهم هذه الأمثلة.

 

وهو ما أدى في الكثير من الأحيان إلى تبني الرأي ونقيضه، أو سيادة رأي وآخر في منطقة جغرافية أخرى داخل الوطن وخارجه، على اعتبار أن الرأي الحقيقي لم يتم الإفصاح عنه لأسباب أمنية، لكن يبقى هو رأي الإخوان من وجهة نظر متبنيه طبعاً، وهو ما أدى أيضاً إلى ضياع الموقف الحقيقي في الكثير من المواقف -هذا إن وجد بالأساس-، ولم نجد رواية متماسكة لكثير من الأحداث إلا في الرواية الرسمية أحيانا التي نحصل عليها من التحقيقات الجنائية!، لكن والمهم للغاية هنا ويجب الإشارة إليه هو نشأة تيارات متناقضة وغير متعايشة داخل الجماعة تنتظر الفرصة؛ لكي تنقض على نقيضها أو لإقصائه أو الانفصال عنه في أقل تقدير، وهو الذي دفع بعض المفكرين في الغرب للرهان على تفكك هذه الحركة ومثيلاتها إذا مرت بسياق تُختبر فيه ذاتياً بعيداً عن القمع (بينارد, 2013)⁠(بينارد, راباسا, شوارتز, & سيكل, 2015).

وبالرغم من ذلك يمكن مناقشة التغيرات على مستوى القيم والمفاهيم، وفقاً لمركزية بعض تلك الأفكار أو انزياحها والجدل حولها.

 

أولاً مبدأ الحكم بالشريعة

إن أول التحركات استجابة لضغوط وتغيرات الواقع، كانت في تعديل مفهوم الشريعة، والتي تعرضت دائماً للنقد الحاد خاصة في الإعلام المحلي، والذي بدوره انخفض تأثير الإخوان عليه سواء في صورة انقطاع كلي أو عودة جزئية تحت خطوط محددة مع نظام السادات ومن بعده مبارك. وقد اتخذ هذا التغير صورة الاتجاه نحو التعميم، فقد تحول مفهوم شمولية الإسلام ووجوب الحكم به إلى الشعار السياسي الأشهر “الإسلام هو الحل”، والذي أصبح يتضمن هذه المفاهيم دون الغوص في التفاصيل من جديد، أيضا كانت المحاولات الفردية العملية والتي تركزت على الأنشطة الاقتصادية، وتجلت في صورة البنوك الإسلامية، وشركات توظيف الأموال، راحت تبتعد رويداً رويداً عن التنظيم حتى غدت مستقلة تماماً إن لم نقل بعيدة عن الجماعة، لكنها ظلت جزءاً من الخطاب الديني العام الذي كان يسعى إلى الإجابة عن السؤال الخاص أين يبدأ الحلال والحرام في العمليات التجارية والمصرفية؟

ما زالت الدولة الإسلامية -التي تحكم بالشريعة- أكبر المبادئ التي يؤمن ونادي بها الإسلاميون عامة والإخوان المسلمين خاصة، لكنها تراجعت للخلف سواء إلى مستوى تجريدي أو إلى الأمام باعتبارها مرحلة تالية للدولة القطرية، وهذا لا ينفي وجود جماعات إسلامية أخرى تنادي بنفس المفهوم الشامل للدولة الإسلامية المطبقة للشريعة كاملة بما فيها إقامة الحدود.

وما زالت أفكار الدولة التي تحارب الربا قائمة، لكن كالعادة لم يكن هناك إجابات عن كيفية قيام الدولة مالياً دون استخدام الربا كأداة للتمويل الحكومي (الغزالي, 2007)⁠، والاكتفاء باعتباره ضرورة مع عدم القول بإباحته، أما عن رؤية هذه الدولة الإسلامية للتوزيع والفقر والتنمية، فهي في الحقيقة متأثرة بسياقها أشد ما يكون أكثر من أنها تعتمد رؤية واضحة لما تراه الحكم بالشريعة (الأبيض et al., 2012).

 

ثانياً وحدة التنظيم الخاص

تحركت الفكرة سريعاً نحو حل معضلة الجهاز الخاص والعمل المسلح والتي كانت أهم المراجعات الفكرية والقيمية كما أسلفنا، لكنها من جهة أخرى لم تستطع أن تنسى الكفاءة العالية فيما يخص الجودة التربوية التنظيمية، والقدرة النسبية على مواجهة الضربات الأمنية مقارنة بشقيقه التنظيم العام؛ الذي تفكك سريعاً بل راح بعض أعضائه يساندون ويدعمون النظام الجديد، ذلك النظام الذي لم يستطع الوعي الجمعي المصالحة معه ومن ثم إخراجه من خانة العدو، ومن ثم فإن الحاجة لاستمرار الحركة الشعبية، ونزع العسكرية عنه راح يدفع إلى تشكل نمط جديد هجين من التنظيمين العام والخاص، يضم من الأول فكرة الدعوة والحركة بين الأشخاص المؤهلين للانضمام ويأخذ من الثاني انضباطه وانغلاقه ضد المؤثرات التي قد تحرف الفكرة عن مسارها.

لا يمكن هنا أن نغض الطرف عن الصراع الناجم عن غياب القيادة المهيمنة المتمثلة في المؤسس حسن البنا، والتي أنتجت صراعاً مستمراً حول مثل هذه الخيارات والتي بدت في بعض اللحظات حُسمت، ولكن راحت تنقلب من حين لآخر، لكن الأكيد أن روح النظام الخاص والتوثيق المدقق لأفراده (رمضان, 1993)⁠ قد زُرع في التنظيم الجديد بعد نشأة دولة ما بعد الاستعمار، وصار الأفراد المندمجون في المجتمع بصورة كبيرة أكثر ابتعاداً عن الثقة التنظيمية الداخلية وإن كانوا في مواقع قيادية متقدمة نسبياً، فعلى سبيل المثال “عبدالمنعم أبو الفتوح، وعصام العريان، ومحمد البلتاجي” نماذج للعناصر العامة التي لم يتم منحهم شرعية التنظيم باعتبارهم يمثلون ذلك التنظيم العام المتخاذل والضعيف، والجهة الأخرى الصارمة والمدعوة للبيعة والانضباط العسكري، صارت أكثر موثوقية وقدرة على الاتصال الداخلي في تلك القنوات المقننة والمنضبطة تنظيمياً، فعلى سبيل المثال أشخاص مثل “محمود عزت، وخيرت الشاطر، جمعة أمين” شخصيات بعيدة عن العمل العام منخرطة في الأنشطة التنظيمية، كانت أكثر نفوذاً واتصالاً وقدرة على الضبط الداخلي.

إن هذا التطور الذي وصل إليه تنظيم الإخوان استجابة للواقع وللقيم التي يؤمنون بها أنتج هذا التنظيم الجيد الذي لم يكن قادراً على التمدد السريع الذي شهده عصر حسن البنا، لكنه استطاع ترويض الوحش العسكري الذي دخل به الصدامات السابقة، وبذلك فقد التنظيم جزءاً من كفاءته الدعوية لكنه ومن وجهة نظر موجهيه صار أعصى على الاختراق أو الانفلات (أبو الفتوح, 2012)⁠، كما حافظ على قدرته التي تتمثل في إخراج أفراد قادرين على التميز بعيداً عن روابط التنظيم، وبقى هو غير قادر على المبادرة نحو السياق وتقلباته، لكنه كان أكثر مرونة فيما يخص الحفاظ على ذاته .

 

ثالثاً النضال السلمي خارج السلطة

تحتاج تلك الطاقات المخزنة عبر الدعوة والضم والتجنيد إلى مسارات تحرر، حتى لا تحدث انفجارات مدمرة مثل تلك التي حدثت في مرحلة الدولة المستعمرة، لكن من جهة أخرى راحت دولة ما بعد الاستعمار تُغلق كافة المسارات الممكنة لإنشاء هويات فرعية أياً كانت، ثم راحت تحول كل هوية قائمة إلى جماعة وظيفية في إطار النظام معزولة عن غيرها، وغير قادرة على التحالف أو التنسيق مع الآخر، ثم هي في النهاية في حالة عداء مع أحد تلك الجماعات الوظيفية الأخرى على الأقل.

هذا الوضع دفع الإخوان إلى التحرك المحسوب خارج السلطة بحيث تستطيع القيام بوظيفتها الذاتية ومن جهة أخرى عدم الدخول في صراع صفري مع السلطة أو صراع مفتوح مع أحد تلك الجماعات الوظيفية، ومن ثم بدأت بالتعاون مع بعض الكيانات القائمة ثم الدخول والسيطرة على بعضها مثل ما حدث في النقابات المهنية، وهو ما سمح بهامش مقبول من التحرك.

أما على مستوى الصحافة فقد تحركت أيضاً في نفس هذا السياق لكن في إطار مضبوط بحدود الخطاب ضد السلطة والجماعات الوظيفية الأخرى.

لا يمكن أن نسهب في هذا الإطار لكن ما يمكن أن نقوله إن هناك نجاحات تحققت على مستوى الحركة حيث تحقق انتشار غير مسبوق سواء قطرياً أو عالمياً كما أن حجم العضوية وصل في بعض التقديرات إلى مائة ألف عضو عامل وهو رقم لا يُستهان به في ظل الأسلوب الجديد المتبع في بناء التنظيم كما أشرنا سابقاً؛ لكن أكثر ما يمكن نقده هو تحول الحركة إلى جماعة وظيفية بصورة أو بأخرى، كما أنها دخلت بإرادتها أو دون ذلك في صراعات مع بعض الجماعات الأخرى مثل الكنيسة القبطية (عبد الفتاح, 1997)⁠ وبعض القوى التقليدية العشائرية.

 

المطلب الثالث المشاريع الكبرى في ظل الدولة الوطنية.

بالرغم من الطول النسبي لهذه المرحلة، والتي يمكن أن تكون ممتدة حتى الآن، لكن البحث عن مشاريع كبرى حاولت فيها الجماعة الاستجابة القيمية لمبادئها يبدوا أمراً عسيراً، بل يمكننا المجازفة في بداية هذا المطلب أن نقول إن المشاريع الكبرى التي تحركت فيها الحركة كانت استجابة لضغوط الواقع أكثر منها تلبية لتحقيق مبادئها، بل يمكن بجلاء رؤية هذه المبادئ تتعرض لهزات كثيرة في أرض الواقع نتيجة لهذه الاستجابة، لكن من جهة أخرى وهو ما نود البدء به، ما زالت البنية الفردية لأفراد التنظيم في هذا السياق هي المنتج الأكثر فاعلية وإنتاجاً، ونؤكد هنا أن مساحة الفعل ازدادت اتساعاً بعد الضربات التي تعرضت لها الحركة في بداية الفترة.

 

أولاً الحرب مع وضع الشيطان الأكبر:

لقد كان المشروع الأكبر الذي تحالفت فيه الجماعة مع الدولة الحديثة ما بعد الاستعمارية، -ليست مصر وحدها، ولكن كافة الدول في محور الولايات المتحدة-، إنها الحرب في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي السابق، إنها حرب الإسلام ضد الشيوعية، إنها مناصرة شعب مسلم مضطهد ضد قوة كافرة.

لا يمكننا إنكار مركزية الجهاد بالنفس والمال في فكر جماعة الإخوان، وحتى عندما تخلصت من مفهوم العمل المسلح ضد الأنظمة الداخلية القائمة، لم تتخلَ عن الفكرة ضد المحتل الخارجي المخالف في الدين، هذا الأمر الذي جعل دعمها لهذا الجهاد يكاد يكون توجها بلا حساب، تتحمل فيه الجماعة الغالي والنفيس، ومن ثم فإن عملية دعم المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفيتي من أكبر تلك المشاريع الدولية التي شاركت جماعة الإخوان فيها، حتى أنها تتفوق على دعم مسلمي البوسنة في تفكك يوغوسلافيا سابقاً، ولا شك أن السبب في ذلك يرجع بعد هذا الإيمان العميق، إلى السياق الدولي الذي راحت فيه الولايات المتحدة تستخدم فيه كل الوسائل المتاحة لطعن خاصرة الدب الروسي وإنهاكه.

إن تقييم هذا المشروع مسألة في غاية التعقيد، لكنه أيضاً أحد المشاريع التي أنتجت جيلاً كاملاً من الشباب المؤمن غير القادر على قبول واقع الدولة غير الإسلامية القائمة، لكنه من جهة أخرى غير قادر على إنتاج بديل ولو على مستوى القيم، وهو ما انتهي في النهاية إلى الاقتتال الذاتي بين المجاهدين، ثم إعادة احتلال أفغانستان من الحليف السابق -نعني الولايات المتحدة الأمريكية-، ثم عدم القدرة على تقديم أي شكل من أشكال الدعم للمجاهدين هذه المرة لأن العدو هو نفسه الحليف السابق والذي تفرد على مقعد القوى الدولية كقوة مسيطرة وحيدة، ولم يعد أمام الجماعة هامشا للمناورة كما كان في السابق، ولم تعد الدولة الجديدة راضية عن التحرك مع حليفتها كما كان في السابق، بل على العكس راحت تطارد كل عائد من أرض المعركة هناك وتعاقبه على كونه استجاب لدعوتها للجهاد، ذات الأمر يمكن القول عنه في العراق. وهو ما يطرح سؤالاً هاماً هل صارت قضية سلمية العمل لدى الإخوان مسألة عامة في تحركهم في الداخل والخارج في المحرر والمحتل؟ هذه مسألة تحتاج لنظر حيث لم يبقَ من أرض العمل المسلح سوى فلسطين ذات الخصوصية المعروفة.

 

ثانياً مراكز أوربا والإسلام العالمي:

كان الصدام مع نظام ناصر دافعاً قوياً لتحرك الفكرة خارج مصر، والاستقرار في كثير من المراكز الدولية المهمة في الشرق والغرب، والتي سرعان ما راحت تتشكل في صورة مراكز إسلامية تقدم الدعم للمسلمين في أمور دينهم وهويتهم ثم أخذت مع الوقت الوصول إلى مستويات من الوزن والقوة في مواقعها ثم على المستوى الدولي.

غير أن هذه المراكز راحت تنمو إلى أن ظهر أنها تحتاج إلى التنسيق فيما بينها وهو ما دفع الإخوان إلى تطوير آلية للتنسيق عرفت فيما بعد بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين (القرضاوي, 2006)⁠، وعندما أعلن عنه وعن لائحة تنظيمية له كان لإخوان مصر فيه ما يشبه حق النقض، وحركت الجماعة إلى موقع الجماعة العالمية بجعل المرشد العام منصب منتخب من أكثر من دولة.

هذا التحرك الذاتي المدفوع بالعاطفة والإيمان بعالمية الإسلام سرعان ما أظهر قدرات اتصالية عالية ومن ثم القدرة على حشد وتوجيه الموارد، وهو ما وجّه نظر العالم إلى الإخوان باعتبارهم تنظيما أمميا يجب ملاحظته والتعامل معه، لا يمكن القول إن الجميع كان متفقاً من البداية على مثل هذا المشروع فقد تحفظت الجماعة في السودان من اللحظة الأولى، لكن بقى الجميع مشاركا بدرجة أو بأخرى، خاصة وأن اللقاءات الدورية في مكة وبيروت وغيرها من الأماكن لم تكن أكثر من لقاءات تشاورية للحفاظ على الروابط القديمة وتطويرها؛ لكن بعد فترة ومع زيادة الاشتراكات من تنظيمات زادت أحجامها ووزنها في أكثر من بلد بدأ الثقل المعنوي الذي يعنيه الاتصال بجماعات شبه سياسية من دول أخرى، وبدأت أعين الدول ذاتها حتى تلك التي كانت متسامحة مع الجماعة تتوجه لهذه الجماعات بحثاً عن المعلومات.

لكن هذا الكيان سرعان ما اعترته الشقوق والتصدعات، خاصة بعد احتلال الكويت عام 1990 وهو ما وضع التنظيم في مواجهة أزمة أكبر من وظيفته وتطلعاته، ففي مثل هذه الظروف لم يعد التنظيم قادراً على إمساك العصا من المنتصف، ومجرد القول بمعارضة التدخل الأجنبي؛ كان يعني مساندة صدام في ضمه للكويت باعتباره تثبيتا للوضع القائم، وهو ما لم ينقشع إلا بعد هزيمة صدام وتحرير القوى الغربية للكويت.

إن أحداث سبتمبر 2001 في واشنطن قلبت السياق العالمي رأساً على عقب، فبعد أن كان الإسلام حليفاً غربياً بصورة أو بأخرى، صار هو العدو الذي يجب محاربته أو على أقل تقدير مراقبته، وهذا ما دفع الإخوان إلى محاولة التقليل من أهمية هذا العمل، لكن الخلاصة أن التنظيم العالمي كان عبئاً باعتباره لم يدرك حجمه كفاعل من غير الدول يحاول أن يكون له وضع دولي (تمام, 2010).

 

المبحث الثالث: الهزيمة الثالثة والبحث عن إجابة

كالعادة لا نتكلم هنا عن مرحلة تبدأ من نقطة أو تخوم نقطة، لكن لها جذور وامتدادات تاريخية تسبقها مراحل، كما أننا لا نتكلم عن حقبة جديدة اكتمل تشكلها وظهرت نتائجها؛ بل يمكننا المجازفة بالقول إننا في مرحلة عبور جديدة تأخذ من الماضي خبراته وتستعد لواقع جديد مفتوح على كافة الاحتمالات، وإذا اعتبرنا أن حل جماعة الإخوان المسلمين واغتيال مرشدها حسن البنا هو الهزيمة الأولى، وأن الحل الثاني واعتقال مرشدها ومكتب الإرشاد في عهد عبدالناصر الهزيمة الثانية، فإنه ولا شك ما تمر به الآن هو الهزيمة الثالثة، وقد ارتبطت هذه الهزائم بصورة أو بأخرى بعلاقة الجماعة بالسلطة ووصولها لنقطة اللاعودة في العلاقة معها بالرغم من حرص الجماعة الدائم على بقاء مساحة للتفاهم وسياسة النفس الطويل من جانبها، لكن غالباً ما كانت المعركة تبدأ لكي تنتهي بهزيمة وإخراج الجماعة من السياق كله.

لقد كانت محاولات الجماعة المشاركة في السلطة، مع أي سلطة سواء حكم مطلق أو شبه مطلق، خاصية  مستمرة لسلوك جماعة الإخوان حتى قبل فترة ما اتفق على تسميته الربيع العربي بفترة كبيرة، وعلى مدى واسع جغرافياً وسياسياً، على سبيل المثال في ماليزيا وإيران، والسودان والأردن، حتى في مصر، ولم تكن تلك المشاركة تأخذ شكل وزير في الحكومة ولكن أي شكل يمكن لفكر الجماعة ويحقق تصوراتها، بداية بمسؤول في قسم المناهج في وزارة تعليم أحد الدول وحتى وزير بلا حقيبة في دولة أخرى، لكن أيضاً لا يمكننا أن نغفل ذلك الأثر الكبير والذي ما زال أصدائه تتردد في الواقع المعاش، لما يمكن وصفه بالهزيمة السياسية الكبرى التي حدثت مع تراجع هذا الربيع إلى شتاء دموي في مصر وسوريا وليبيا ونحن هنا وتماشياً مع منهجنا سوف نحاول رصد أهم التغيرات على المبادئ الكبرى وأثر السياق عليها، لكن سوف نتوقف لوضع تقدير مبدئي لما وصلت إليه هذه العلاقة بين القيم والواقع ولن نتورط في تقييم ما لم يستقر التاريخ في الحكم عليه.

 

المطلب الأول: التغير في السياق – تطور دور الشعوب وتضاؤل دور النخب

منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بموقع القوى العظمي الوحيدة في المجال الدولي، راحت تظهر للوجود أشكالٌ جديدة للدول تتماشى مع حالة وجود شرطي للعالم؛ قادر على التدخل أينما شاء دون هامش للمناورة معه، حتى تلك الدول التي قاومت ووصمت بأنها مثلث الشر، دخلت في دوامات من الضعف الاقتصادي والاهتزاز الاجتماعي والسياسي، جعلها غير جاذبة للإعجاب كما كان الحال قديماً؛ بل بدا أن الدول تحاول التأقلم مع هذا الواقع عبر زيادة الانخراط في الاقتصاد العالمي وتبني النموذج الأمريكي على المستوى الثقافي والاقتصادي.

 

العولمة وتضاؤل سيادة الدولة

لكن التغير الأكبر في السياق كان التضاؤل المستمر للسلطة بشكلها القادر على ممارسة العنف المباشر وزيادة فاعلية الفرد عالميا، هذا الاتجاه الذي يبدو للوهلة الأولى مسانداً لخاصية من خصائص الإخوان وهي جودة منتجها الفردي -المؤمن بفكرة الجماعة- وضعف منتجها الجماعي، لكن الحقيقة غير ذلك فقد بدأت التصدعات تمس الجماعة ذاتها بداية الألفية (تمام, 2010)⁠، وبدأت قدرة الجماعة على كبح خروج الخلافات للخارج تضعف، مع التغيرات التقنية والثقافية التي صارت جزءاً من السياق العام مثل التدوين، ثم وأخيراً وسائل التواصل الاجتماعي هذه الخلافات التي لم تترك عنصراً من العناصر إلا عبر بعضهم عن احتجاجه أو رفضه أو طلبه أو حتى خروجه ومفارقته الجماعة (عبدالمنعم, 2011).

ثم إذا بثقافة العولمة تصير جزءاً من النمط السائد في المجتمع المسلم، وهو ما دفع حالة العداء للغرب للتراجع وبدأت عملية تطبيع بطيئة ومتدرجة مع هذه الثقافة الاستهلاكية التي استطاعت الوصول إلى إعادة إنتاج الدين نفسه في صورة سلعة يمكن الترويج لها واستهلاكها (لطفي, 2005)⁠، هذه التغيرات الاجتماعية وغيرها أدت إلى تأثير على تصورات الجماعة خاصة بين الطبقة القيادية فيها.

لقد تغيرت التساؤلات الأولية التي أجابت عنها الجماعة وروجت لها باعتبارها أسئلة العصر، وبدأت تظهر أسئلة جديدة مرتبطة بالتغيير والقيم السائدة مثل الحرية والديموقراطية والمواطنة، كقيم ذات أولوية قصوى إذا أردنا تغيير واقع الفقر والتبعية التي تعيشها مجتمعاتنا وحكوماته، لكن القيم القديمة بقيت على حالها دون تطوير على مستوى الخطاب، وهو ما بدأ يصرف الطبقة المثقفة المدنية شيئاً فشيئاً عن الجماعة، وبقيت الفئات المتريفة والسلفية التي تبحث بطبيعتها عن معارك قديمة وتهاب الخوض في مثل تلك النقاشات التي لا ترى فيها أكثر من جدل مفروض من الغرب على واقعنا يهدف إلى تغيير هويتنا (تمام, 2010).

ومن جهة أُخرى وبالرغم من التطور التقني الكبير تراجع دور الدولة وزادت مصروفات الأمن والدفاع مقابل باقي أوجه الإنفاق الأخرى، وهو ما زاد من الشعور العام بانخفاض جودة الحياة وعدم وجود إجابة على السؤال الدائم: ما هو دور الدولة فيما يحدث؟ وهو ما أعاد إلى الوجود الأفكار القديمة عن الظلم ووجوب إزالته بأي وسيلة كانت، مع زيادة شعبية وحضور أفكار النضال السلمي؛ لكن هذا لا ينفي قدرة أفكار المقاومة المسلحة والعنيفة على إعادة إنتاج نفسها في المجتمعات، لكن بقى الإخوان الأكثر قدرة على مقاومة مثل تلك الأفكار، كما أن مراجعات الجماعة الإسلامية المصرية، أعطى دافعاً قوياً لهذا الاتجاه، ومن جهة أخرى ظهر ما يبدو اختراقاً لبنية النظام مع دخول أعداد متزايدة من الإخوان للسلطة التشريعية وتميزهم البرلماني فيما يخص الرقابة وتحسين شروط السجون … إلخ، لكن من جهة أخرى لم يستطع الإخوان إحداث اختراق يذكر في القضايا الجماهيرية مثل ملفات الصحة والتعليم والدعم (الطويل, n.d.)، ناهيك عن التأثير على قرارات وُصفت بالاستبدادية مثل تعديلات الدستور المرتبطة بالرئاسة … إلخ.

 

الانتفاضات العربية

وهكذا كانت لحظة الانتفاضات العربية لحظة لم يستعد لها أحد، ولم يستجب لها بذات القدر أحد، وتعامل معها الجميع بقدر من الرجعية -نقصد هنا قياسها على أهداف الماضي وآماله التي تخطاها الزمن- (فتحي, 2017)⁠، لقد كانت الانتفاضات انطلاقة نحو التغيير الذي لم يكن واضحاً كيف وأين، لكنه كان في المخيلة الكلية (بشارة, 2016)، وقد بحث الجميع عمن يمثل هذا التصور من تغيير الواقع ورفض قواه المستبدة والمحتكرة، وإعادة توزيع الموازين على المجتمع بالعدل، لكن أين كان هذا من القيم التي آلت إليها في مخيلة كافة التنظيميات وعلى رأسها الإخوان، لقد تحولت من قيم تسعى إلى التغيير إلى قيم تسعى للتعايش مع الوضع القائم وترفض كل تحرك حاد غير محسوب العواقب. لقد كانت الانتفاضات العربية تمثل لحظة محاولة الجمهور الإمساك بزمام المبادرة في مواجهة صفوة غير قادرة، وكذلك السعي للتغيير أي تغيير لكن تنتظر من يشير إلى اتجاه.

 

المطلب الثاني: الاستجابة واللا استجابة للواقع

يمكن القول إن الاستجابة الكبرى لهذا التغير كانت في تطور مساحة الصراع السياسي مع النظام على قاعدة الانتخابات، أما على مستوى الخطاب والقيم فلم يحدث تغير يذكر في هذا السياق، بل أكدت أكثر من مرة على بقاء تصوراتها مثل قياس رئاسة الجمهورية على الإمامة العظمى وعدم جواز تولي المرأة وغير المسلم هذا المنصب.

لم يلحظ الجميع أن اختيار المعركة مع المرأة والأقباط عبر نشر مسودة برنامج الحزب العام 2007 (براون, ج & حمزاوي, 2008)⁠، قد يمثل تحول جماعة الإخوان إلى جماعة وظيفية تدخل في صراع مع جماعة وظيفية أخرى وهي الكنيسة القبطية ومن ورائها الأقباط، دون أن تساهم في أي قيمة من القيم الأساسية لجماعة الإخوان، بل ودخلت في صراع خفي مع غيرها من الجماعات الوظيفية الأخرى، ويبقى السؤال ما هي التطبيقات التي حاول الإخوان العمل على تغييرها في الواقع أو تطبيقها كقيم؟ الواضح أن هذه اللحظة كانت لحظة غياب كامل عن الذات وعن الواقع أيضاً والحرج الأكبر أن باقي القوى بما فيها الجماهير نظرت إلى الإخوان على أنهم أداة تغيير، وأعطتهم الفرصة لكي يشعروا بشيء من هذا الاتجاه على الأقل.

 

خاتمة

لقد تحركت قيم جماعة الإخوان المسلمين في فضاء واسع من التعميم، كانت الغاية منه أن يعطي الجماعة مرونة في التعامل مع الواقع وقدرة على القفز إلى الأمام في كل فرصة سانحة، وكان الضابط هو رؤية ملهمها ثم مرشدها، والذي وفقاً للقاعدة الخلدونية لا يمكن أن يستمر بنفس الرؤية أجيالاً متطاولة، وكان ولا بد أن يحدث أمر من أمرين: إما ظهور شخصية ملهمة جديدة قادرة على الإمساك بدفة القيادة والمناورة من جديد، أو تثبيت ما هو غامض وتحديد مسار محدد، لكن كلا الأمرين لم يحدث، وتقاذفت قوة الواقع هذه القيم فعدلتها واستأنستها بحيث تحولت من جماعة تحاول إعادة تشكيل الكون، إلى مجرد جماعة وظيفية يمكن استخدامها أو حتى إحراقها على مذبح القوى المسيطرة -دولية كانت أو داخلية-.

إن فكرة إحياء الإسلام وعودته كمحرك للتاريخ، وتحويل القيم إلى مشاريع صغيرة أو حتى استراتيجية طويلة هو الخاصية الأهم لدى الإخوان كمنظمة حديثة وفاعلة، لكن المشكلة أنها لم تُعنَ بحفظ تاريخها من أجل دراسة أسباب الهزائم وأسباب الانتصارات، ولم تُنتج أو تتبنى أفكاراً تطور هذه القيم؛ لكي تكون أكثر قدرة على الاستجابة لتغيرات الواقع.

لطالما كان أنجح منتجات جماعة الإخوان هو الفرد وضم أفراد جدد للإيمان بدعوتها وفكرتها، ذلك الفرد الذي بادر -نجح أو فشل-، روحه كانت دائماً بوصلة لعمله وسبيلاً للتقويم، وغالباً ما كان الفرد هو القادر على الصمود في مواجهة المحن والحفاظ على الفكرة حية في صورة متحركة وعملية؛ أما مشاريعها الكبيرة -والكلية منها على وجه الخصوص- فيمكن المجازفة بالقول إنها كانت إما فاشلة في تحقيق هدفها أو فاشلة في إبطال أهداف أعدائها.

لم يطالب أحد بأن تتحول جماعة الإخوان إلى مدرسة علمية في كافة التخصصات، لكن هي من أوجب على ذاتها ذلك ولم تستطع، وهو ما ترك هذا الجانب الحيوي من مسارها نقطة الضعف الأكبر والاختراق الأكبر كذلك، فلا هي قادرة على التطور ولا قادرة على تبني فكراً متطوراً، وأصحاب الرؤية من صديق وعدو يحاولون دائماً توجيهها بلا بوصلة ولا استراتيجية، ولا قدرة قيادية قادرة على تحديد أين ومتى يمكن تعديل المسار؟

إن آخر عشرين عاماً من تاريخ الإخوان هو عبارة عن تاريخ الغيبة وعدم التطور، وهو ما وصل في النهاية إلى ما وصل إليه التنظيم من عدم القدرة على الفعل أو حتى الصمود والتماسك، ولعل أولى الخطوات الواجبة الآن، المراجعة الجادة لكل من السياق الجديد، ومدى فاعلية القيم التي تتبناها الجماعة، وتمثيل هذه القيم في أشكال التنظيمية عبر مشاريع وبرامج واستراتيجية للعمل أو التغيير، أو ربما شجاعة إعادة التأسيس وإغلاق مرحلة الماضي باعتبارها استنفذت قدرتها.

وأخيراً

يجب القول إن الإسلام هو أمة وفكرة لا يمكن لمن يقوم بوظيفة -من فروض الكفايات- أن يدعي أنه مالكها الوحيد والمسؤول عنها وحده، فالأمة هي المسؤولة ككل، ويمكن لأكثر من قائم أن يقوم على نفس الوظيفة ما دام يعلم أنه محتسب وأن الغاية هي رضى الله بنفع الأمة.

والله أعلى وأعلم وهو من وراء القصد

 

 

المصادر

  1. Www.marefa.org. (1956). القضاء الشرعي في مصر. Retrieved October 20, 2021, from www.marefa.org website: https://www.marefa.org/القضاء_الشرعي_في_مصر
  2. أبو الفتوح, ع. (2012). عبد المنعم ابو الفتوح..شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية فى مصر 1970-1984 (حسام تمام)نسخة صغيرة.Pdf (ح. تمام, Ed.). القاهرة: دار الشروق.
  3. أبوالنصر, م. ح. (1988). حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمون وعبدالناصر (2nd ed.). القاهرة: دار التوزيع والنشر الإسلامية.
  4. الأبيض, أ., نوفل, أ. س., الفيتوري, أ., قويسي, ح., منصور, ح., السفياني, خ., … حسين, م. (2012). الإسلاميون وتحديات الحكم في أعقاب الثورات العربية (1st ed.; ح. قويسي, ع. البشير, & ج. الحمد, Eds.). عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط.
  5. البريدي, عبدالله, الغفيلي, الحميدان, الرميحي, & عبدالله. (2024). الأيديولوجيا في سياق الفکر الإداري: تحليل فلسفي نقدي للدلالات والبواعث والآثار. المجلة العربية للإدارة, 44(1), 19–38. Retrieved from https://aja.journals.ekb.eg/article_171619_7fe47b75ffb0c9869e52323d86c9e60f.pdf
  6. البنا, ح. (1999). رسائل حسن البنا (1st ed.). الإسكندرية: دار الدعوة.
  7. الحسيني, إ. م. (1952). الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة. بيروت: دار بيروت للطباعة والنشر.
  8. الشاعر, و. ع. (2017). حكم الغرباء والطبقة العليا العربية. Beyrouni for Publishing and Distributing-دار البيروني للنشر والتوزيع.
  9. الطويل, م. (n.d.). الإخوان في البرلمان.
  10. الغزالي, ع. (2007). الفكر الاقتصادي عند الإخوان المسلمين. القاهرة: دار النشر للجامعات.
  11. القرضاوي, ي. (2006). ابن القرية والكتاب: ملامح سيرة ومسيرة (4th ed.). القاهرة: دار الشروق.
  12. بدوي, ج., & المطيعي, ل. (2003). تاريخ الوفد. القاهرة: دار الشروق.
  13. براون, ج, ن., & حمزاوي, ع. (2008). ماذا يحدث داخل جماعة الإخوان المسلمين المصرية النقاش حول برنامج الحزب وتداعياته. In سلسلة الشرق الأوسط. Retrieved from https://carnegieendowment.org/files/amr_nathan_platformJanuary08.pdf
  14. بشارة, ع. (2016). ثورة مصر الجزء الثاني – من الثورة إلى الانقلاب (الأولى). Retrieved from https://bookstore.dohainstitute.org/p-786.aspx
  15. بينارد, ش. (2013). الإسلام الديموقراطي المدني (2nd ed.; إ. عوض, Trans.). القاهرة: تنوير للنشر والإعلام.
  16. بينارد, ش., راباسا, أ., شوارتز, ل., & سيكل, ب. (2015). بناء شبكات الاعتدال الاسلامي (ع. أبوذكري, Ed.; إ. عوض, Trans.). تنوير للنشر والإعلام.
  17. بيومي, ز. س. (1991). الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية في الحياة السياسية المصرية 1928-1948. القاهرة: مكتبة وهبة للطباعة والنشر.
  18. تلي, & تشارلز. (2005). الحركات الاجتماعية 1768-2004. 61.
  19. تمام, ح. (2010). تحولات الإخوان المسلمين تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم. القاهرة: مكتبة مدبولي.
  20. ديفرجيه, & موريس. (2011). الأحزاب السياسية. 61.
  21. رائف, أ. (1990). سراديب الشيطان صفحات من تاريخ الاخوان المسلمين. القاهرة: الزهراء للإعلام العربي.
  22. رمضان, ع. (1993). الإخوان المسلمون والتنظيم السري. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  23. شرشالي, ز. (2015). الاتفاقيات العثمانية الأوروبية وانعكاساتها على الخلافة والعالم العربي 1800-1878م. المدرسة العليا للأساتذة بوزريعة.
  24. عبدالفتاح, ن. (1997). النص والرصاص الإسلام السياسي والأقباط وأزمات الدولة الحديثة في مصر. دار النهار للنشر.
  25. عبدالمنعم, إ. (2011). مذكرات أخت سابقة حكايتي مع الإخوان. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  26. عثمان, ع. ا. أ. (1993). أوجه الخلاف بين النظم الاستعمارية في افريقيا بريطانيا والبرتغال وفرنسا.
  27. عزت, ه. ر. (2015). الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها (2nd ed.). بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
  28. غنی‌عطره, & ‌وئام‌شاکر. (2018). الاستراتیجیة الغربیة لتنفیذ تصریح بلفور عام 1917م. التراث العلمي العربي, 38(7), 399–429.
  29. فتحي, ي. (2017). الإخوان المسلمون وثورة يناير الجزء الأول. المعهد المصري للدراسات, 0–7.
  30. فهمي, خ. (2001). كل رجال الباشا محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة (1st ed.; ش. يونس, Trans.) القاهرة: دار الشروق.
  31. لطفي, و. (2005). ظاهرة الدعاة الجدد تحليل اجتماعي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
  32. محمود, ع. (1994). الاخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ رؤية من الداخل الجزء الثالث (4th ed.). الإسكندرية: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع.

 

pdf لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى