النفوذ الغائب: كيف تدير جماعة الإخوان المسلمين علاقتها الخارجية
النفوذ الغائب: كيف تدير جماعة الإخوان المسلمين علاقتها الخارجية
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
مقدمة
منذ بدايات القرن العشرين برزت جماعة الإخوان المسلمين في مصر كجماعة ذات ثقل محلي وإقليمي، اكتسبته من أهدافها التي تسعى إلى إصلاح وتغيير مجتمعي وسياسي تحت مظلة المبادئ الإسلامية، واكتسبته أيضا من حجمها الضخم وتمددها داخل قطاعات وشرائح مختلفة داخل المجتمع المصري والمجتمعات العربية في الشرق الأوسط. ورغم أن هذا الثقل قد منح الجماعة حضورا قويا وفاعلية في الحياة السياسية المصرية، لكنّه لم ينعكس -بنفس القدر- على فاعلية الجماعة إقليميا ودولياً لأسباب ذاتية تتعلق بالجماعة وتصوراتها لعلاقتها الخارجية وممارساتها وإدارتها لتلك العلاقات، ولأسباب خارجية تتعلق بطبيعة الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط وكذلك طبيعة المنظومة الدولية وتعاملها مع الحركات المجتمعية.
بعد انقلاب الثالث من يوليو عام ٢٠١٣ لم تعد فاعليتها كما كانت فقد تلقت الجماعة ضربات قاسية؛ تسببت في تعرض التنظيم لأزمات حادة تتعلق بالحضور السياسي والمجتمعي وكذلك البنية التنظيمية، ومع تشكل تحالف إقليمي -أحد أهدافه الرئيسية تقويض الجماعة والقضاء على وجودها- بدا أن ثمة أسئلة جوهرية تتعلق بالفاعلية الإقليمية والدولية للجماعة ومدى وملاءمتها للتحديات الجديدة والبيئة المختلفة التي اضطرت الجماعة للعمل من خلالها وسط صراع وضغوط داخلية وإقليمية فرضت عليها.
في هذا الإطار تسعى هذه الدراسة للإجابة على سؤال رئيسي:
ما هي تصورات جماعة الإخوان المسلمين لعلاقتها الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية؟ وكيف انعكست تلك التصورات على ممارسات الجماعة بعد ثورة يناير وفي أعقاب انقلاب الثالث من يوليو؟
وتنطلق الدراسة لمناقشة وبحث عدة عناصر أخرى تتعلق بالسؤال الرئيسي، حيث تعرض تطور العلاقات بين جماعة الإخوان ومحيطها الإقليمي والدولي منذ نشأتها وحتى اللحظة الحالية، وتناقش أيضا الآلية التي اعتمدت عليها الجماعة لإدارة علاقتها الدولية. وتسعى الدراسة من خلال عملية المراجعة والتقييم لأفكار وتصورات جماعة الإخوان المسلمين عن علاقاتها الخارجية وفاعليتها الإقليمية والدولية من جهة وممارستها وإدارتها لتلك العلاقات من جهة أخرى لطرح معالجة موضوعية حول كيفية بناء فاعلية دولية للحركات الساعية للتغيير في مصر في ضوء التحديات والأوضاع الإقليمية والدولية الحالية.
الفصل الأول: الإطار المفاهيمي
سيكون من المهم قبل البدء في الدراسة تحديد ومناقشة بعض المفاهيم الأساسية اللازمة التي تتعلق بتعريف جماعة الإخوان المسلمين كحركة اجتماعية، وماذا نعني بالعلاقات الدولية؟ وما هي التقاطعات بين الحركات الاجتماعية والعلاقات الدولية في حقل العلوم السياسية؟ ونسعى من خلال هذه التعريفات لفهم وتحليل موضوعي لتصورات وممارسات جماعة الإخوان للعلاقات الدولية.
-
تعريف الجماعة كحركة اجتماعية
الحركات الاجتماعية هي تلك الحركات التي تنظم جهود مجموعة من المواطنين من أجل إحداث تغيير اجتماعي وسياسي والذي يكون متوافقا مع “القيم الفلسفية العليا التي تؤمن بها الحركة”[1] أو هي الحركات التي تمثل مشاريع جماعية تستهدف التغيير وإقامة نظام جديد بحسب تعريف عالم الاجتماع “هربرت بلومر”[2]. وإجمالا يمكن أن نطلق مصطلح حركات اجتماعية على تلك الحركات التي تمتلك مجموعة من المقومات الرئيسية التي تتلخص في: وجود أفراد مشاركين يحملون نفس الأفكار والقناعات، ويجمعهم عمل منظم، ويسعون لتحقيق أهداف عامة تتعلق بتغيير المجتمع ومواجهة النظام السياسي القائم. من خلال هذا الإطار يمكن أن نفهم العمل الجماعي داخل الحركات الاجتماعية كشكل من أشكال العمل السياسي سواء المباشر أو غير المباشر، وهو ما يجعل الفوارق بين الحركات الاجتماعية والسياسية محدودة وربما غير موجودة عند من يرى أن الحركات الاجتماعية هي في جوهرها سياسية، حيث تواجه تلك الحركات الدولة بمطالب للتغيير والإصلاح[3].
بالرغم من التعقيدات التي تنطوي على التعريفات المختلفة لجماعة الإخوان المسلمين -من حيث كونها تنظيم، أو جماعة، أو حركة، أو حزب- لكن يمكن لمكامن قوة الجماعة أن تساعدنا في الوصول إلى تعريف دقيق. تميزت جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها مع بدايات ثلاثينيات القرن المنصرم بقدرتها على القيام بأشكال مختلفة من العمل الجماعي مستمدة من القيم الإسلامية، وفي نفس الوقت سعت الجماعة منذ نشأتها للتغيير بداية من الفرد والمجتمع ووصولا إلى النظام السياسي، إضافة إلى العمل الجماعي والرغبة في التغيير اللذان مثلا عنوانا رئيسيا للجماعة على مدار تاريخها، فقد تميزت بهيكل تنظيمي متماسك في وقت كانت الثقافة التنظيمية تغيب عن كثير من الحركات والأحزاب في مصر، إلى جانب قدرة الجماعة على الحشد والتعبئة العابرة لحدود الطبقات الاجتماعية.
وهنا يمكننا أن نعد جماعة الإخوان المسلمين حركة اجتماعية وفقا لتحقيقها مقومات وعناصر الحركات الاجتماعية؛ لكنها أيضا تحقق مقومات الحركة السياسية من اتجاهين: الأول كونها حركة اجتماعية فهي تمثل شكلا من أشكال العمل السياسي الجماعي وفق مفهوم الحركات الاجتماعية في العلوم السياسية، والثاني أنه وبالرغم من بروز دور الجماعة في بدايتها في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية جنبا إلى جنب مع دعوة وتربية الأفراد على القيم الإسلامية؛ لكنها سرعان ما انخرطت في القضايا العامة واصطدمت مع السلطة السياسية، وبدا التغيير والإصلاح المجتمعي الذي سعت له الحركة في بدايتها لن يتحقق دون أن يصاحبه مواجهة للسلطة السياسية، وهكذا وبعد فترة قصيرة من نشأة الجماعة أصبح التغيير والإصلاح السياسي ضمن أهدافها الرئيسية. إجمالاً يمكن أن نصف جماعة الإخوان المسلمين بأنها حركة اجتماعية سياسية جماهيرية استندت في نشأتها على “استرجاع دور الإسلام في الحياة الشاملة للمجتمع”[4] ومواجهة الهيمنة الغربية المتمثلة في الاستعمار الذي كانت تعاني منه مصر وباقي الدول العربية والإسلامية.
-
مفاهيم وتعريفات حول العلاقات الدولية
سيكون من المهم إلقاء الضوء على التقاطع بين الحركات الاجتماعية وبين العلاقات الدولية، وكيف يتم تعريف تلك الحركات من منظور العلاقات الدولية. فبالرغم من أن الدولة (State) هي الفاعل الرئيسي في العلاقات الدولية وفي فهم وتفسير تطورات وديناميكيات السياسة الدولية، لكن في العقود القليلة الماضية ظهر “الفاعلون من غير الدول” (Non-State Actors) بشكل بارز في مضمار العلاقات الدولية، وأصبحت تُزاحم المفهوم التقليدي للدولة كوحدة تحليل رئيسية في العلاقات الدولية. وأصبح مصطلح الفاعلين من غير الدول أحد المفاهيم التي من الصعب تجنبها عند تفسير وفهم تطورات السياسة الدولية، لا سيما وأن العقد الماضي (2010-2020) احتلّ فيه الفاعلون من غير الدول مساحة كبيرة من تطورات الأوضاع والأزمات السياسية في الشرق الأوسط وفي العالم. وتندرج الحركات الاجتماعية ومعها المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني والشركات الدولية تحت مصطلح الفاعلين من غير الدول في العلاقات الدولية، حيث يتحقق في تلك الحركات والمنظمات والشركات ثلاث مقومات رئيسية تجعلها تدخل تحت هذا التعريف: فهي تنظيمات مستقلة عن سلطة الدولة -سواء من ناحية التمويل أو من ناحية الإدارة-، وفي نفس الوقت هي عابرة لحدود الدولة القومية حيث تتسع وتتمدد شبكاتها في أكثر من دولة، بالإضافة إلى تأثيرها على الأوضاع والتطورات السياسية في دولة أو أكثر على المستوى الدولي[5].
هناك اختلافات واسعة في حقل العلاقات الدولية نحو أهمية ودور الحركات الاجتماعية كأحد الفاعلين المؤثرين من غير الدول في العلاقات الدولية أو السياسة الدولية، فبينما هناك من يرى تلك الحركات من زاوية إيجابية، حيث يرى أصحاب المدرسة المثالية في العلاقات الدولية الحركات الاجتماعية في مقدمة المجتمع المدني الذي يتحدى استبداد الدول والرأسمالية العالمية، وعلى نفس هذا النسق يرى المؤيدون لقيم العولمة أن الحركات الاجتماعية تقدم نموذجا لبناء شبكات عابرة للحدود وتدعم القيم المشتركة والتكافل الدولي وترسخ مفهوم العولمة، ولا تختلف كثيرا تصورات أصحاب المدارس الليبرالية والبنائية والنقدية في العلاقات الدولية عن تلك التصورات، حيث يرون الحركات الاجتماعية كقوى تساهم في ضبط وموازنة نفوذ الأنظمة السياسية، وكجزء من شبكات المجتمع المدني الممتدة في جميع أنحاء العالم والتي تساهم في التحول الديمقراطي[6]. على الجانب الآخر، هناك من يرى الحركات الاجتماعية من زاوية سلبية، فالواقعيون يرونها كمنظمات تعمل لتحقيق مصالح دول أخرى، أو على أنها منظمات في حقيقتها ثورية تهدد استقرار الأنظمة السياسة وتقوض الأمن القومي، بالإضافة إلى اتفاقهم على أن تلك الحركات تسعى للتحرر من النظام العالمي المهيمن سياسياً واقتصادياً.
كانت المشكلة الأبرز لدى أغلب مدارس العلاقات الدولية هي اختزال الحركات الاجتماعية وأدوارها دوليا في إطار الحركات الداعمة للديمقراطية والمانعة لتغول السلطة والهيمنة العالمية، أو في إطار الحركات المهددة للأنظمة السياسية، في حين لم يتسع هذا الإطار لطيف واسع من الحركات الاجتماعية باختلاف توجهاتها وتنوع أهدافها، سواء تلك التي تتعامل مع الأنظمة السياسية من منظور الواقعية وتتراوح في تعاملها مع الأنظمة بين الحفاظ عليها وإصلاحها، أو تلك التي تتعامل مع الأنظمة من منظور ثوري وتسعى إلى تغييرها والإطاحة بها.
قدمت المدرسة الإنجليزية في العلاقات الدولية مقاربة مختلفة تساهم في فهم أكثر عمقا لصلة الحركات الاجتماعية بالعلاقات الدولية، ويرى أصحاب تلك المدرسة أن الأفكار -وليست المصالح المادية- هي التي تُشكّل السياسة الدولية[7]. وينعكس هذا التصور على رؤيتهم للحركات الاجتماعية، حيث يرون أنه لا يجب النظر إليها على أنها مجموعات ضغط لتغيير السياسات فقط، ولكنها مجموعات لديها أيدولوجيات وأفكار متنوعة ومختلفة يمكن أن تتعارض أو تتوافق مع قيم ومعايير النظام الدولي ومؤسساته[8]، ثم يمكن أن يكون لها دور رئيسي في ترسيخ القيم والمبادئ المشتركة وتغيير الفرضيات التي تشكل المجتمع الدولي.
وبالرغم من أن تصورات مدارس العلاقات الدولية للحركات الاجتماعية متباينة بدرجة غير قليلة، فإنها لم تتطور وتقدم إطارا نظريا لتحليل وفهم الأدوار المتعددة والمعقدة التي تلعبها الحركات الاجتماعية في العلاقات الدولية. سنحاول في هذه الدراسة أن نتبع إطارا نظريا لتقييم فاعلية الإخوان الإقليمية والدولية، وأن نحدد إلى أي مدى توافقت تصوراتهم لعلاقاتهم الخارجية مع التطبيقات والممارسات العملية؟ وسيعتمد هذا الإطار على مفهوم أوسع وأشمل يتضمن المفاهيم التقليدية لمدراس العلاقات الدولية عن دور الحركات الاجتماعية في السياسة الدولية، ويتضمن بعض المحددات الأخرى التي يمكن أن تساعدنا في بناء تصور موضوعي لفاعلية الإخوان الإقليمية والدولية والتي نحددها في عدة نقاط[9]:
- تحديد خرائط شبكات العلاقات العابرة للحدود (Transitional networks).
- معرفة قضايا الاشتباك وأنماط التفاعل مع الدول والمؤسسات الدولية.
- قياس القدرة على تغيير توجهات وسياسات الدول.
- بحث إلى أي مدى هناك تفاعل مشترك مع منظمات المجتمع المدني الدولية.
ومن هنا نصل إلى عدة نقاط هامة وتوضيحية قبل البدء في الدراسة، تمثل جماعة الإخوان المسلمين كحركة اجتماعية أحد الجهات الفاعلة من غير الدول في العلاقات الدولية، وبغض النظر عن تفاوت درجة نفوذها في مصر والشرق الأوسط خلال فترات مختلفة منذ نشأتها، لكنها ظلت حاضرة في تصورات صانعي القرار في الشرق الأوسط على اختلاف توجهاتهم ومصالحهم؛ لإدراكهم دورها وموقعها داخل دول الإقليم، وعلى هذا الأساس وخلال تسعة عقود تعاملت معهما الأنظمة الحاكمة وفق استراتيجيات مختلفة تتراوح بين المواجهة والإقصاء أو الاستيعاب والدعم.
وفي نفس الوقت سيكون من المهم فهم تصورات العلاقات الخارجية للإخوان المسلمين وفق منظور أشمل وأوسع من علاقتها مع الدول حيث يمتد إلى علاقتها مع الجهات الفاعلة من غير الدول التي تشمل الحركات والمنظمات وجماعات الضغط ذات التأثير الإقليمي والدولي.
هناك فارق بين رؤية الجماعة لعلاقتها الخارجية وحلفائها وخصومها، ورؤية الجماعة للسياسة الخارجية المصرية وتفاعل مصر مع الأزمات الإقليمية والدولية، والفارق هنا بين الجماعة كحركة تسعى للتغيير المجتمعي والسياسي لها تصور لعلاقاتها الخارجية كجزء من بناء فاعليتها ونفوذها المحلي والإقليمي والدولي -وهو موضوع الدراسة التي بين أيدينا-، ورؤيتها للسياسة الخارجية المصرية وكيف يجب أن تكون جزءًا من برنامجها السياسي الذي يجب أن تقدمه كطرف يسعى للتغيير السياسي -وهذا ليس موضوع الدراسة هنا-.
الفصل الثاني: أحداث كبرى وتصورات أولية (1930-1970)
فرضت الأحداث والوقائع وطبيعة الظروف التي صاحبت النصف الأول من القرن المنصرم نفسها على رؤى وتصورات الإخوان المسلمين -وجميع التيارات والأحزاب في مصر- للعلاقات الخارجية. ولم يكن من المقبول لدى القوى الوطنية في ذلك الوقت -مع اختلاف منطلقاتها وأيدولوجياتها- أن تتجاوز القضية الوطنية المتمثلة في الاستعمار البريطاني والسعي لإنهائه وتحقيق الاستقلال الحقيقي -سواء من خلال مسار التفاوض أو من خلال مسار المقاومة-. وكذلك كان من الصعب على القوى الوطنية أن تخرج تصوراتها ورؤيتها للدول المجاورة والدول العربية والإسلامية والقوى الدولية المهيمنة بعيدا عن أسباب ومآلات الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث شكلت هذه الصراعات الهائلة الخرائط والتحالفات الجديدة في المنطقة، وهي التي نتج عنها أزمة “القضية الفلسطينية” التي برزت كواحدة من أهم تطورات الأحداث آنذاك.
ستكون المرحلة الزمنية الأولى التي نتناولها هي تلك التي امتدت من عام 1936 حتى عام 1949، والسبب في ذلك يعود إلى عاملين: أحدهما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين نفسها، والآخر يتعلق بالأحداث الكبرى التي شهدتها تلك الفترة الزمنية القصيرة. فمن ناحية يجب الأخذ في الاعتبار نشأة الجماعة في سنواتها الأولى منذ عام 1928 ثم تطورها وزيادة حجمها واتساع انشطتها، وهو تتسلسل زمني يجب الانتباه له في قياس حجم تفاعل الجماعة مع القضايا الوطنية والخارجية وعلاقاتها وتواصلها مع القوى الدولية والذي باتت ملامحه تتشكل بوضوح في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي. ومن ناحية أخرى كانت للأحداث الكبرى -بداية من ثورة فلسطين (1936-1939) والأحداث التي سبقت الحرب العالمية الثانية ثم الحرب نفسها التي امتدت لما يقارب الست سنوات وما تلاها من أحداث، ومرورا بقرار تقسيم فلسطين (1947) وإعلان قيام دولة إسرائيل (مايو 1948)، وانتهاء بحرب 1948- دور بارز في دفع الجماعة -حديثة العهد- لبناء تصوراتها واتخاذ المواقف والتواصل والتفاعل مع الأطراف الإقليمية والدولية المختلفة.
ومع ذلك فإن الفترة الزمنية التي سبقت عام 1936 لا يمكن استبعادها بأي حال من التأثير في تصورات وممارسات الإخوان، حيث أن تلك الفترة شهدت متابعة وتفاعل الجماعة مع مسار تفاوض القوى الوطنية مع الاحتلال البريطاني لتحقيق الاستقلال -والتي بدا معها التعنت البريطاني والمماطلة وانتهت بمعاهدة 1936 التي لم تحقق الاستقلال الحقيقي-. وفي نفس الوقت توجَّه اهتمام الجماعة نحو القضية الفلسطينية لا سيما بعد اندلاع ثورة البراق في الأراضي الفلسطينية عام 1929 وما تبعها من أحداث متلاحقة والتي بدا معها الانحياز البريطاني لصالح الحركات الصهيونية بشكل فج. كان لهذا الانخراط والتفاعل مع القضية الوطنية والقضية الفلسطينية والذي صاحب بداية تكوين الجماعة، مساهمة في تشكيل التصورات الأولية للإخوان نحو الإمبراطورية البريطانية والقوى الدولية الأخرى ونحو الصهيونية العالمية في ذلك التوقيت.
على الجانب الآخر يمكن النظر إلى تلك الفترة -التي عانت فيها معظم دول العالم العربي والإسلامي من الاستعمار الغربي- أن هناك ركيزتين انطلقت منهما جماعة الإخوان في مصر نحو تصوراتها لعلاقاتها مع الدول الأخرى، وهما: الأخوة الإسلامية وعقيدة الجهاد كقيمتين مستمدتين من مرجعية المبادئ الإسلامية، كما أن هاتين القيمتين تمثلان “أهم ركائز الفكر السياسي الإسلامي التي تنظم علاقات المسلمين الداخلية فيما بينهم من جهة، وتنظم علاقاتهم الخارجية مع غيرهم من الدول والقوى غير الإسلامية من جهة أخرى”[10]. وقد انعكست قيمة الأخوة الإسلامية على تصورات الإخوان ومطالباتهم بزيادة وتعميق علاقات التعاون والتكامل بين الدول العربية والإسلامية، والدعوة للتضامن والوحدة فيما بينها، ثم تطورت تلك التصورات وشكلت مفهوم “الوطن الإسلامي”[11] الذي عبر عنه البنّا في أكثر من موضع في بياناته وتصريحاته، وهو مفهوم أوسع وأشمل من مفهوم الوطن بحدوده القومية والقانونية.
وانعكست أيضا قيمة عقيدة الجهاد على تصورات الإخوان لدورها ودور الحكومات والشعوب في مقاومة ومواجهة الاستعمار الغربي والصهيوني، حيث حددت رؤيتها للحلفاء من الدول العربية والاسلامية من جهة، ورؤيتها للأعداء والخصوم من معسكر الإمبريالية الغربية والقوى الدولية الجديدة من جهة أخرى. ويمكن هنا فهم أن تصورات الإخوان لعلاقاتها الخارجية لم تكن قاصرة على مفهوم القضية الوطنية والتحرر من الاستعمار البريطاني فقط، ولكنها -ومن خلال هاتين القيمتين- امتدت وشملت “التحرر الكامل من كل سلطان أجنبي” وهو أحد أهداف الإخوان التي أشار إليها “حسن البنا” مؤسس الجماعة في رسالة المؤتمر السادس عام 1941[12]، لذا كان التصور موجها نحو القوى العظمى عموما وليست بريطانيا فقط، ليمثل ذلك تصورا نابعا من المباديء الإسلامية، ورؤية تتفهم خطورة الاستعمار الغربي؛ فتدعو إلى التضامن والتعاون بين جميع الأقطار العربية والإسلامية لمواجهة قوى الاستعمار وتحقيق الاستقلال.
قبل الحرب العالمية الثانية
مثلت معاهدة 1936 الموقعة بين الحكومة المصرية وبريطانيا بداية تشكل رؤية الإخوان بوضوح نحو الاحتلال البريطاني، فلم يختلف موقف الإخوان عن مواقف أغلب القوى الوطنية التي رفضت المعاهدة ورأتها تمنح بريطانيا شرعية الوجود في مصر، وتنتقص من سيادة واستقلال مصر، وتربط مصيرها بمصير بريطانيا، ولا تحقق سوى استقلالا صوريا وليس حقيقيا. ومع ظهور مؤشرات اندلاع حرب عالمية ثانية، أكدت الإخوان تخوفاتها من المعاهدة التي رأت أنها ستفرض على مصر تقديم الدعم والمعونة لبريطانيا في حربها، مما سيجعل مصر تبتعد عن الحياد وتنحاز عمليا لصالح بريطانيا، وهو ما يمكن أن يتسبب في مخاطر جسيمة على مصر[13].
في القترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية مباشرة تداخلت القضية الوطنية مع القضية الفلسطينية بشكل كبير لدى أغلب القوى الوطنية المصرية والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى أن اندلاع الثورة الفلسطينية في الفترة من 1936 إلى 1939 قد كشف بشكل واضح إلى أي مدى انحازت بريطانيا إلى الحركات الصهيونية في الأراضي الفلسطينية[14]، وهو ما انعكس على اهتمامات التيارات والأحزاب السياسية في مصر -وفي مقدمتها جماعة الإخوان- بالقضية الفلسطينية كامتداد لرفضهم للاستعمار البريطاني وتقديرهم لخطورة الاحتلال الصهيوني على فلسطين وعلى مصر وجميع دول المنطقة.
ألهمت القضية الفلسطينية الإخوان للتفاعل معها كأول وأبرز القضايا الخارجية آنذاك؛ لما تحمله من رمزية دينية وتاريخية في التصور الإسلامي، وكذلك لأهمية ومكانة فلسطين الإستراتيجية بالنسبة لمصر. ومع بداية ثورة فلسطين في عام 1936 بدأت الجماعة تأخذ مسارا آخر غير مسارها التقليدي في التعبئة والتوعية وتقديم المساعدات والتبرعات، حيث اتخذت أولى خطواتها في التواصل مع أطراف إقليمية ودولية بشأن القضية الفلسطينية، فتم تشكيل اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين والتي كان من بين أدوارها إرسال البرقيات للمندوب السامي البريطاني في مصر وفلسطين والحاج أمين الحسيني مفتي القدس وعوني عبد الهادي السكرتير العام للجنة العربية العليا والتي كانت تمثل الكيان السياسي للفلسطينيين أثناء فترة الانتداب البريطاني[15]. واستمرت خلال فترة الثورة الفلسطينية رسائل الإخوان الخارجية سواء تلك التي تندد بالقوى الدولية وموقفها من القضية الفلسطينية -كما هو الحال في البرقية المرسلة للمندوب السامي البريطاني عام 1938 والتي تحمل بريطانيا مسؤولية ما تقوم به الحركات الصهيونية في فلسطين من جرائم-، أو الرسائل التي تدعو الدول العربية والإسلامية لتقديم الدعم للقضية الفلسطينية -كما هو الحال مع المذكرة المقدمة إلى رئيس وزراء إيران عام 1939 والتي تناشد إيران وجميع الدول العربية والإسلامية لاتخاذ موقف موحد وحازم بشأن القضية الفلسطينية-.
الحرب العالمية الثانية وما بعدها
كما كان لأحداث الحرب العالمية الثانية ووقائعها ونتائجها، الدور الرئيسي في تشكيل مسار العلاقات الدولية في القرن العشرين تشكيلا عميقا، فقد انعكس ذلك على جماعة الإخوان وعلى إدراكها لملامح النظام الدولي الجديد الذي تشكل بنهاية الحرب العالمية الثانية بعد انحسار نفوذ بريطانيا وفرنسا كقوى عظمى تقليدية وبزوغ الولايات المتحدة الأمريكة والاتحاد السوفيتي كقوى عظمى جديدة للنظام الدولي. علاوة على ذاك برهنت كثير من المقالات المكتوبة في مجلات الإخوان المسلمين أو الكلمات والخطب في عديد من المناسبات -المنسوبة لمؤسس الجماعة-[16] على إدراك الإخوان لأبعاد خريطة العلاقات الدولية الجديدة والتحالفات التي تشكلت داخل المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وتلك التي تشكلت داخل المعسكر الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي آنذاك. مثلت هذه المفاهيم الإطار الجديد لتصورات وممارسات الإخوان نحو القضية الوطنية وطريقة التعامل مع الاستعمار البريطاني ونحو القضية الفلسطينية وقضايا التحرر الوطني في العالم الإسلامي. ويمكن أن تمنحنا تلك الفترة الثرية بالمتغيرات والملابسات أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية فرصة للاطلاع على ذروة التفاعل الإقليمي والدولي للإخوان على مستوى القضيتين الوطنية والفلسطينية وعلى مستوى قضايا التحرر في العالم الإسلامي كما سنوضح فيما يلي.
مثلت الحرب العالمية الثانية منعطفا هاما لتصورات الإخوان نحو الاحتلال البريطاني والقضية الوطنية، حيث بدا بوضوح خلال سنوات الحرب شبكة المصالح بين القصر الملكي وبريطانيا والطبقة الغنية وبعض رجال السياسة التي استفادت وازداد نفوذها خلال فترة الحرب. وفي غضون تلك السنوات بدا أيضا تزايد التدخل البريطاني في الحياة السياسية المصرية والذي أخذ مظهرا حادا حينما حاصرت القوات البريطانية عام 1942 قصر عابدين لإجبار الملك فاروق على إقالة حكومة علي ماهر باشا وتعيين حكومة الوفد الداعمة لبريطانيا في حربها، وصاحب ذلك التدخل السياسي استغلالا للموارد الاقتصادية المصرية لصالح دعم جيوش الإمبراطورية البريطانية، وأصبحت النتيجة المباشرة للممارسات البريطانية أن معاهدة 1936 ليست ذات قيمة، وتكفينا الإشارة هنا إلى أن عدد الجنود البريطانيين في منطقة القناة في نهاية الحرب كان قد وصل إلى 75 ألف جندي، في حين كان التعهد البريطاني في معاهدة 1936 بالاحتفاظ بحامية عسكرية بسيطة في منطقة القناة[17]. وبالإضافة إلى ذلك، يكفينا للتعبير عن سوء الأوضاع الاقتصادية في تلك الفترة الإشارة إلى الحجم الكبير من الإضرابات العمالية الذي لم تشهده مصر قبل الحرب العالمية الثانية[18].
بنهاية الحرب العالمية الثانية ارتفعت حدة الاحتقان والتوتر إلى مستويات غير مسبوقة بين الإخوان المسلمين ومعظم القوى الوطنية من جانب، وبريطانيا والقصر الملكي من جانب آخر، وأدت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة إلى انخراط الإخوان مع غيرها من القوى الوطنية في لمطالبة الحكومات المصرية المتعاقبة بإعادة التفاوض مع الاحتلال البريطاني للوصول إلى اتفاق يحقق الاستقلال الحقيقي والجلاء الكامل لقوات الاحتلال عن الأراضي المصرية. وعندما اتضحت المماطلة في مسار المفاوضات البريطانية، اتجهت الإخوان للمطالبة بانسحاب مصر من المفاوضات وإلغاء المعاهدة والتوجه إلى هيئة الأمم المتحدة لعرض القضية المصرية، كما برز في ذلك الوقت تأكيد الإخوان على التمسك بوحدة مصر والسودان، والتأكيد أن السودان جزءٌ لا يتجزأ من أرض الوطن. تباينت الوسائل التي استخدمها الإخوان للتعبير عن تصوراتهم لتلك المرحلة الحرجة فبينما اختارت الإخوان المذكرات والرسائل الداخلية إلى الملك ورؤساء الوزراء لتوضيح رؤيتهم ومقترحاتهم فيما يخص الاحتلال البريطاني والتفاوض معه، كانت المقالات والمؤتمرات الشعبية والخطب هي وسيلتها للتعبئة والتوعية بالقضية الوطنية وإيضاح تصوراتها نحو الاحتلال البريطاني.
تسارعت الأحداث فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وبدا أن مقترحات تقسيم الأراضي بين العرب واليهود أصبحت جادة وتؤيدها القوي الدولية، وهو ما دفع الإخوان للتحرك باتصالات إقليمية ودولية؛ في محاولة لمنع قرار التقسيم وبيان خطورته على الأوضاع في المنطقة وتسببه في تأجيج الصراع بين العرب واليهود، ومنها على سبيل المثال البرقية التي أرسلها الإخوان عام 1944 إلى وزير أمريكا المفوض في القاهرة للتنديد بتحالف أمريكا مع الصهيونية وتأييدهم لهجرة اليهود إلى فلسطين، وكذلك البرقيات المرسلة في عام 1947 وقبل قرار التقسيم مباشرة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة “تريجف لي” وإلى وزير الخارجية الأمريكي “جورج مارشال” التي ترفض مشروع التقسيم، وفي نفس الوقت البرقية المرسلة إلى أمين عام جامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا ويعرض فيها الإخوان عشرة آلاف متطوع من الجماعة تحت تصرف جامعة الدول العربية للمشاركة في القتال ضد الجماعات الصهيونية[19].
تغيرت تصورات الإخوان للقضية الفلسطينية بشكل لافت بعد قرار التقسيم في نهاية عام 1947، فعلاوة على مطالبة الإخوان لجميع الدول العربية بالانسحاب من هيئة الأمم المتحدة، أعلنت الإخوان عن رؤيتها لما يجب أن تكون عليه العلاقات مع الدول الداعمة للحركة الصهيونية في ذلك الوقت، حيث ذكرت بوضوح في خطاب لأعضاء اللجنة السياسية في الجامعة العربية أنه يجب على العرب والمسلمين وعلى جامعة الدول العربية “إشعار الدول التي ناصرت الصهيونية هذه المعاني من السخط بكل الوسائل الممكنة”[20]، وفي نفس الوقت يجب اتخاذ خطوات جادة وسريعة قبل قيام دولة إسرائيل والتي كان يتوقع الإخوان أنها ستكون الخطوة التالية بعد إنهاء الانتداب البريطاني عن فلسطين. أما بعد إعلان قيام دولة إسرائيل رأت الإخوان أنه من الأفضل لجميع الدول العربية إعادة النظر في سياستها الخارجية وعلاقاتها مع القوى والمنظمات الدولية التي كانت مواقفها من القضية الفلسطينية سلبية وتكاد تكون متماثلة، ومن ناحية أخرى رأت الإخوان أن العلاقات بين الدول العربية والإسلامية يجب أن تتجه إلى مزيد من الاتحاد والتعاون والتكامل، وتبلورت تلك الرؤية في مطالبة الإخوان لوحدة اقتصادية بين الدول العربية[21].
كواحدة من نتائج الحرب العالمية الثانية تمددت واتسعت حركات التحرر الوطني في جميع الدول العربية والإسلامية المستعمرة، وأسفر تصاعد تلك الحركات والمتغيرات الجديدة في المنطقة عن تشكل تصورات الإخوان نحو أهمية إقامة علاقات واتصال مع حركات التحرر في الدول العربية والإسلامية وأهمية القيام بالتنسيق ودعم التعاون فيما بينها، وكان من أبرز نماذج الاتصال والتعاون التي قام بها الإخوان المسلمون تفاعلاً مع حركات التحرر الوطني إنشاء قسم الاتصال بالعالم الاسلامي عام 1944[22]، وهو نموذج للاتصال والعلاقات مع الحركات والشعوب خارج إطار العلاقات التقليدية مع الدول، وتركزت الأهداف الرئيسية لقسم الاتصال في مساعدة حركات التحرر في العالم الاسلامي وإحياء الوحدة العربية والإسلامية من خلال التعاون والتكامل بين الشعوب لتحقيق الحرية والاستقلال من الاستعمار.
ورغم أن الفترة الممتدة من بداية نشأة الجماعة وحتى عام 1949 -والتي انتهت باغتيال البنا- كانت تمثل العقود الثلاثة الأولى لجماعة ناشئة، لكنها كانت فترة ثرية بالأحداث العالمية والإقليمية والمحلية والتي انعكست على تفاعل وتواصل الجماعة الخارجي بشكل مكثف. وبنهاية هذه الفترة بدأت مرحلة جديدة كانت معالمها الرئيسية أزمة حادة داخل الجماعة بعد اغتيال البنا وقيام ثورة 1952، والخلاف الذي نشب بين الإخوان وعبد الناصر ونتج عنه اعتقالات ومحاكمات للغالبية العظمي من أعضاء الإخوان مما أدى إلى غياب الجماعة ككيان تنظيمي عن المشهد الداخلي والساحة الإقليمية والدولية لما يقارب العقدين.
غابت الجماعة تنظيميا عن التواجد في مصر في فترة الخمسينيات والستينيات وغاب معها ثقلها ونفوذها الإقليمي وتواصلها الخارجي الذي كان محدودا، وبدأت مرحلة جديدة سيغلب عليها الطابع الفردي البعيد عن التنظيم، وهي المرحلة التي بدأ فيها أعضاء الجماعة بالهجرة إلى الخليج وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية هربا من ملاحقات عبد الناصر. ومع وجود أجواء مختلفة عن تلك التي كانت في مصر آنذاك ومع وجود سياقات مناسبة، بدأت مجموعات من أعضاء الإخوان المتناثرة شرقا وغربا في استعادة بعض أنشطة الجماعة وتقديم أفكارها وبناء شبكات تواصل في تلك المجتمعات الجديدة، ولكن ظل هذا العمل يتسم بالشكل الفردي وربما أحتاج وقتا ليس بالقليل ليأخذ شكلا تنظيميا وأيضا احتاج سياقا إقليميا ودوليا مغايرا ليمنحه مساحة أكبر للتواجد والتأثير، وهو ما بدأت ملامحه في الظهور مع بداية السبعينيات.
تقييم ومشاهدات
سنسعى دائما في الدراسة ومن خلال تناول سياقات زمنية محددة إلى تقييم إلى أي مدى كان التطبيق والممارسة العملية متوافقا ومرتبطا مع رؤية وتصورات الإخوان لعلاقتها الخارجية. ويمكننا الاعتماد في الفترة الزمنية من 1936 إلى 1949 على رصد وفهم تصورات الجماعة من خلال متابعة مقالات وكلمات ومراسلات مؤسس الجماعة حسن البنا، والتي شكلت ومثلت التصورات الرئيسية للجماعة في بداياتها -شأنها شأن جميع الحركات الاجتماعية والسياسية في بداية نشأتها والتي تعتمد في تصوراتها بشكل كبير على رؤية وتصورات المؤسس صاحب الشخصية الكاريزمية-.
ورغم كثافة البيانات والمراسلات التي قام بها حسن البنا في تلك الفترة، قد يصعب وصف ذلك أنه معبرا عن رؤية شاملة لمفهوم العلاقات الدولية للجماعة التي تُنظم علاقاتها مع الدول والحركات والحلفاء والخصوم وتبني فاعليتها الإقليمية والدولية، لكن يمكننا وصف ذلك بالتصورات الأولية التي تتميز بالوضوح القيمي كرد فعل على تطورات أحداث كبرى في إطار قيم الجماعة المستمدة من المبادئ الإسلامية، وجاءت هذه التصورات في اتجاهين: أحدهما يُظهِر فهم الإخوان لخرائط العلاقات الإقليمية والدولية التي تشكلت أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، وفهمهم لانتقال منطقة الشرق الأوسط من ساحة صراع للقوى العظمى التقليدية إلى ساحة تحالفات مع الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى، بالإضافة إلى وضوح رؤيتهم للتحالف المتماسك لقوى الاستعمار الغربي والقوى الدولية الجديدة مع الحركة الصهيونية[23]، والاتجاه الآخر نتيجة لفهم واقع السياسة الدولية والمخاطر الجسيمة على مصر والدول العربية والإسلامية آنذاك، وما ينبني عليه من تصور للخصوم والحلفاء وشكل العلاقات معهما.
انحصرت الممارسة العملية للإخوان في تلك الفترة في البرقيات والمذكرات وأحيانا البعثات الخارجية للدول العربية والاسلامية وجامعة الدول العربية وللقوى والمنظمات الدولية، وتبرهن تلك المراسلات والبرقيات العديدة على تشكل رؤى أولية عن أهمية الاتصال المباشر بالقوى والمنظمات الإقليمية والدولية في توضيح وبيان مواقف الجماعة تجاه الأحداث والإبقاء على قنوات للتواصل. على الجانب الآخر فيما يخص حركات التحرر في الدول العربية والاسلامية لم يقتصر الاتصال على الرسائل فقط، ولكن شمل تقديم الدعم والمساعدة بالإضافة الى دعم التنسيق والتعاون بين الحركات.
كان للإخوان تأثير كبير للدفع في اتجاه مشاركة مصر في حرب 1948 بالاشتراك مع بعض الدول العربية لمواجهة الحركات الصهيونية التي أعلنت قيام دولة إسرائيل، وهنا تبدو قدرة الجماعة بارزة كحركة اجتماعية وسياسية للتأثير في سياسات الدول أو المشاركة في صناعتها. ويمكن فهم تأثير الإخوان في قرار المشاركة في حرب 1948 من خلال متابعة تصريحات رئيس الوزراء المصري آنذاك محمود النقراشي التي أخبر فيها الملك فاروق بأن “المشاركة في الحرب ستكون عرضا سياسيا من أجل تهدئة الرأي العام”[24]، ويبدو أن الإخوان من خلال الحشد والتعبئة ساهمت في التأثير في الرأي العام المصري، وانعكس ذلك على متخذي القرار السياسي للسلطة.
في حين كان يرى البنّا أن اقتصار الفعل في القضيتين الوطنية والفلسطينية على كتابة الاحتجاجات لن يجدي شيئا، وهو ما جعل الإخوان تتجه بشكل مباشر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نحو مسار مقاومة الاحتلال البريطاني والحركات الصهيونية، حيث وجّه الإخوان خطابهم الداخلي للتوعية والتعبئة مع القيام بتدريب وتجهيز المتطوعين للقتال. ومع ذلك لم يمنع هذا الفهم لدى البنّا والإخوان من استخدام الأدوات الدبلوماسية المتاحة آنذاك من برقيات ورسائل ومذكرات للمسؤولين والدبلوماسيين الممثلين للدول العربية والإسلامية والدول الغربية والمنظمات الإقليمية والدولية.
في نفس هذا الإطار، وبالرغم من فهم الإخوان لطبيعة دور الأمم المتحدة كمؤسسة دولية جاءت وليدة لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وكأحد أدوات القوى الدولية الغربية لإقرار وإتمام مصالحها في إطار القانون والإجماع الدولي، لكن ذلك لم يمنع الإخوان من التعامل معها بهدف تحقيق بعض الأهداف الجزئية التي يمكن أن تساهم في الضغط على الاستعمار البريطاني، فكانت مطالبة الإخوان بعرض القضية المصرية على هيئة الأمم المتحدة عام 1947 لإيجاد حل عادل لها، وأدرك الإخوان أن هذا التوقيت يجب أن يُستثمر لا سيما بعد تضاؤل النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية وظهور قوى دولية جديدة، وكانت الإخوان من خلال تلك الخطوة تسعى إلى تدويل القضية المصرية والإعلان عن فشل المفاوضات الثنائية بين مصر وبريطانيا وهو ما يمكن أن يمنح مقاومة الاحتلال البريطاني شرعية دولية.
من الأمور اللافتة هنا وفيما يتعلق بالقضية الوطنية، لم يتوجه الإخوان برسائل وبرقيات إلى بريطانيا أو القوى الدولية الأخرى وكانت أغلب رسائلهم محلية وموجهة للملك ورؤساء الوزراء وتتناول ممارسات الاحتلال البريطاني ضد الشعب المصري وحقوقه وتقدم تصورها لمسار المفاوضات مع بريطانيا، لكن فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية كان الأمر مختلفا، حيث قامت الجماعة بإرسال البرقيات والمذكرات للدول والمنظمات؛ لتوضيح رؤيتها حول مخاطر التواجد الصهيوني في الأراضي الفلسطينية وبيان رفضها لدعم وانحياز القوى الدولية لصالح الصهيونية. ويبدو من تباين وجهة المراسلات والبرقيات في حالتي القضيتين الوطنية والفلسطينية، إدراك الإخوان لأهمية توحد القوى الوطنية أمام الاحتلال البريطاني وعدم إعطاءه الفرصة لصناعة انقسامات بين الأحزاب والتيارات الوطنية، بينما كان هناك إدراك لأهمية التواصل مع بريطانيا والقوى الدولية لبيان قيمة ورمزية فلسطين لدى جميع الشعوب العربية والإسلامية.
لم يكن السبب الوحيد لغياب تواجد وتأثير الإخوان داخل مصر في فترة الخمسينيات والستينيات هي تلك الإجراءات التي اتبعها عبد ناصر ضد أعضاء جماعة الإخوان في مصر، فمع تصاعد شعبية عبد الناصر والتي صاحبها تصاعد لأفكار وأيدولوجيا القومية العربية والاشتراكية والعلمانية، تمددت تلك الأفكار وانتشرت بشكل كبير في مصر وجميع الدول العربية، وسرعان ما صُبغت هذه الحقبة بالقومية العربية التي ازدهرت وشهدت صعودا كبيرا، مما كان له أثر كبير على الجاذبية الأيدولوجية للإخوان المسلمين وتغييبا مرحليا لأفكار وتصورات الجماعة.
الفصل الثالث: شبكات عابرة للحدود وفعل خارجي مقيد (1970-1990)
مع بداية السبعينات كانت هناك مجموعة من المعطيات الجديدة والمؤثرة التي غيرت المشهد الداخلي في مصر والمشهد الإقليمي والدولي وانعكست على عودة الإخوان مرة أخرى للتواجد والتأثير وممارسة الفعل الخارجي. شكلت هزيمة يونيو 1967 المشهد الأكثر تأثيرا داخليا وإقليميا حيث كانت النهاية الحقيقة لعهد عبد الناصر والسقوط السريع والمريع للقومية العربية[25]، وبدا أن هناك حاجة للبحث عن أيدولوجيا أخرى تساهم في تفسير الهزائم المتتالية أمام إسرائيل والأزمات الداخلية الحادة وإعطاء المصريين والعرب أملا في إمكانية تحقيق النصر على إسرائيل وتخطي الأزمات الداخلية، وهو ما فتح الطريق مرة أخرى لعودة وصعود أيدولوجيا الإسلام السياسي وفي مقدمتها الإخوان المسلمون. بالإضافة إلى هزيمة 67 كانت هناك عوامل محلية وإقليمية ودولية ساهمت في عودة الإخوان، على المستوى المحلي كان هناك نظام سياسي جديد بقيادة السادات يواجه مجموعة من التحديات الداخلية التي جعلته يمنح الإخوان حرية محدودة للتواجد والعمل[26]، وعلى المستوى الإقليمي والدولي كان لانتقال مركز الثقل الإقليمي إلى الخليج العربي ولتطورات الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي دورا محوريا في عودة الإخوان مرة أخرى.
كان لهجرة بعض أعضاء الإخوان في فترة الخمسينيات والستينيات أثر كبير على ما ستشهده حقبة السبعينيات والثمانينيات من انتشار واسع للإخوان خارجيا -سواء في دول الخليج العربي أو في أوروبا وأمريكا-. بدأت أفراد ومجموعات صغيرة ومتفرقة من الإخوان -لم يحكمها إطار تنظيمي ولكن غلب عليها التحرك بدافع ذاتي آنذاك- في ممارسة أنشطتهم ونشر أفكارهم بسبب أجواء الحرية المتاحة في أوروبا وأمريكا والتي افتقدوها في مصر، ومع تزايد التواجد الطلابي العربي والإسلامي في أوروبا وأمريكا توفرت لدى أفراد ومجموعات الإخوان فرصة الالتحام مع مجموعات من الطلبة من ذوي الطبقة المتوسطة والقادمين لاستكمال مسارهم التعليمي في الجامعات الغربية، وأسفر ذلك عن انخراط الإخوان في العمل الطلابي داخل الجامعات وتكوين اتحادات طلابية إسلامية، وأتاحت لهم الممارسة السياسية والانفتاح على تجارب الأيديولوجيات الأخرى فرصا لفهم النظام العالمي وطبيعة السياسة في أوروبا وأمريكا ودور وأهمية المنظمات الدولية، وأتاحت لهم أيضا فرصا للاتصال مع الرموز السياسية والتواصل وتكوين علاقات مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية[27].
نتيجة لتلك الفترة التي اتسمت بالانتشار الواسع في أوروبا وأمريكا لطلاب وأعضاء من إخوان مصر والتي نتج عنها اتحادات طلابية وجمعيات ومراكز إسلامية تحولت جماعة الإخوان إلى “حركة عالمية يتفاعل فيها الأفراد المتشابهون في الأفكار من خلال شبكة دولية غير رسمية ولكنها معقدة للغاية من الروابط الشخصية والمالية والتنظيمية والأهم من ذلك الأيديولوجية”[28]، وقد ساهم ذلك في فتح قنوات اتصال خارجية لجماعة الإخوان في مصر ومنحها فاعلية خارجية من خلال بعض مؤسساتها أو أعضائها في أوروبا وأمريكا كما هو الحال مع مفوض العلاقات السياسية الدولية لجماعة الإخوان يوسف ندا والذي لعب أدوارا في وساطات واتصالات خلال أزمات إقليمية ودولية في تلك الفترة.
ومع ذلك كانت الفاعلية الخارجية المكتسبة من تمدد وانتشار الإخوان في الغرب في تلك الحقبة محدودة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب رئيسية:
أولاً: بالرغم من الروابط التاريخية والأيدولوجية بين الاتحادات والمراكز الاسلامية في الغرب وبين الإخوان في مصر، فإن جميع تلك المؤسسات والجمعيات قد أصبحت مستقلة تنظيميا فيما بعد عن الإخوان في مصر[29]، وهو ما جعل لها رؤيتها وأهدافها الخاصة التي كانت في الغالب بعيدة عن أهداف جماعة الإخوان في مصر والتي غلب عليها الطابع المحلي.
ثانياً: بالرغم من مرحلة الحرية والانفتاح التي شهدتها حقبتي السبعينيات والثمانينيات في مصر فإن ذلك لم يدفع أعضاء وطلاب الإخوان في أوروبا وأمريكا للعودة إلى مصر ولم يقم بذلك سوى أعداد قليلة كانت لهم إسهامات في تطور فكر الجماعة ورؤيتها للاتصال الخارجي والعلاقات الدولية وفهم النظام العالمي الجديد، وظلت هذه الإسهامات محدودة نتيجة قلة أعداد الطلاب والأعضاء العائدين من الخارج، ونتيجة طبيعة التنظيم وصعوبة الانخراط في هياكله التنظيمية في مصر بعد قضاء سنوات في الخارج.
ثالثاً: حاول الإخوان في مصر تعظيم الاستفادة من تمدد الجماعة في أوروبا وأمريكا من خلال إنشاء التنظيم الدولي في بداية الثمانينيات والذي حرصت جماعة الإخوان في مصر على السيطرة عليه تنظيميا منذ نشأته، وحاولت الاستفادة منه في بناء شبكات علاقات خارجية، ومع ذلك لم يمنح التنظيم الدولي للإخوان مزيدا من الفاعلية الخارجية، والسبب في ذلك يعود إلى طبيعة التنظيم الذي كان هامشيا ولم يتخطَ دوره حدود التنسيق ودعم التعاون بين الإخوان في الأقطار المختلفة والتي كانت بطبيعة الحال مستقلة ولها أهدافها الخاصة البعيدة عن أهداف الإخوان في مصر.
مثلت فترة الثمانينيات سنوات الصعود السريع للإخوان داخليا وخارجيا، وبدا بوضوح أن الجماعة في طريقها لأن تكون قوة متنامية في منطقة الشرق الأوسط. على المستوى الداخلي بدت مشاركة الإخوان في انتخابات برلمان 1984 و1987 مؤشرا واضحا على استعادة الجماعة لثقلها الداخلي، وعلى المستوى الإقليمي والدولي منحت بعض الأحداث الكبرى الإخوان فرصة لإقامة علاقات خارجية وللعب دور الوساطة أحيانا، وقدمت الثورة الإيرانية ونجاحها عام 1979 للإخوان فرصتين: الأولى من خلال تقديم نموذج إسلامي نجح في الوصول إلى السلطة والإطاحة بنظام سلطوي مما ساهم في زيادة الجاذبية الأيدولوجية للإخوان، والثانية من خلال إبراز دور الإخوان أمام الخارج كقوى إسلامية وسطية يمكنها أن تقيم علاقات وتتواصل مع الخارج وأن تقوم بدور في حل الأزمات الإقليمية، وبرز ذلك الدور بشكل واضح عندما طلبت الإدارة الأمريكية من الإخوان التوسط في إنهاء أزمة الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران خلال الثورة الإيرانية[30].
أيضا كانت تطورات الحرب الباردة هي الأخرى عاملا مؤثرا في عودة فاعلية الإخوان الخارجية، حيث كانت الرغبة الأمريكية في احتواء ومحاصرة الاتحاد السوفيتي مستمرة، لا سيما مع استمرار التمدد الشيوعي في أمريكا الجنوبية واحتلال الاتحاد السوفيتي لأفغانستان عام 1979 والذي مثل ذروة تهديد النفوذ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وعلى المستوى الإقليمي كان لحلفاء أمريكا أيضاً تخوفات من التمدد الشيوعي ورغبة في وقف أي تمدد للاتحاد السوفيتي داخل الشرق الأوسط، وقد ساهم هذا السياق الإقليمي والدولي في وجود علاقات وتواصل بين الإخوان وبين القوى الإقليمية والدولية، ولكن في إطار مواجهة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان ودعم المقاومة والجهاد الأفغاني ومما لا شك فيه “أن شخصيات وشبكات الاتصالات والمؤسسات الممتدة للإخوان المسلمين لعبت دورًا حاسمًا في التعبئة واللوجستيات وراء الجهاد الأفغاني”[31].
تقييم ومشاهدات
بالرغم من أن فترة السبعينيات والثمانينيات شهدت أحداثا مؤثرة غيرت من ملامح الشرق الأوسط وفتحت الطريق أمام الإخوان لبناء فاعلية خارجية ومع ذلك من الصعب استنتاج أن ثمة توجه ورؤية للعلاقات الإقليمية والدولية قد تشكلت للإخوان في تلك الفترة، وقد يكون السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى توجيه الإخوان لمجهوداتهم وتحركاتهم في مسار استعادة مكانتهم الداخلية بعد غياب سنوات طويلة، ولكن مع التدقيق في مجريات الأحداث سيدو أن هناك سببا رئيسيا آخر هو أن القوى الإقليمية والدولية هي التي كانت دائما تتحكم في شكل وطبيعة العلاقة مع الإخوان، وهو ما جعل العلاقات بين الجانبين في إطار محدد.
فقد ظلت العلاقات الخارجية للإخوان مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة مقيدة بعدة عوامل رئيسية تمنع الإخوان من بناء نفوذ وفاعلية خارجية أكبر، وكان على رأس تلك العوامل نظرة الغرب لعلاقتهم مع الإخوان من خلال زاوية تتوافق فقط مع تحديات ومصالح الغرب في الشرق الأوسط، وهو ما جعل التعامل مع الإخوان في نطاق ضيق وفي إطار الحرب الباردة والصراع الذي يخوضه الغرب والولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي والتمدد الشيوعي في المنطقة[32].
على الجانب الآخر كانت إسرائيل النقطة الفاصلة في العلاقات بين الغرب والإخوان المسلمين، وبالرغم من إدراك الغرب أن هناك فوائد ليست بالقليلة من إقامة علاقات إيجابية مع الإخوان والاستفادة من ثقل الجماعة في العالم العربي والاسلامي وانتشارها الواسع دوليا، ولكن ظل موقف الإخوان من إسرائيل ورؤيتهم للقضية الفلسطينية لا سيما بعد اتفاقية السلام عام 1979 عائقاً رئيسياً أمام الغرب وأمريكا لبناء علاقات إيجابية مع الإخوان.
بالإضافة إلى هذين العاملين كانت العلاقات القوية للغرب وخاصة الولايات المتحدة مع الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط وفي مقدمتها مصر عاملا حاسما في محدودية العلاقات بين الغرب والإخوان وانقطاعها في بعض الأحيان، ويبدو هنا المثال الأبرز للتدليل على هذه الحقيقة ما شهدته فترة الثمانينات من اتصالات بين أمريكا والإخوان في مصر ثم انقطاعها مع بداية التسعينات بعد طلب مباشر من مبارك لأمريكا بقطع اتصالاتها مع الإخوان[33].
كما برز في تلك الفترة انتشار مؤسسات الإخوان في الغرب والتي أسست شبكات ممتدة في أوروبا وأمريكا، ولكن هذه الشبكات التي كان يمكن أن تُستثمر في بناء نفوذ وثقل خارجي للجماعة، لم تؤدِ هذا الدور لسببين رئيسيين: الأول هو استقلالية هذه الشبكات عن جماعة الإخوان في مصر، ورغم الحرص لاحقا على أن يكون هناك اتصال تنظيمي بينها من خلال ما عرف بالتنظيم الدولي، لكن لم يتخطَ دوره مساحات التنسيق والاستشارة مع الإخوان في مصر، الثاني أن المؤسسات والجمعيات المكونة لهذه الشبكات في بدايتها ولفترة ليست بالقصيرة انحصرت أنشطتها في نشر أفكارها وممارسة العمل الدعوي والتربوي ومواجهة التحديات التي تواجه المسلمين في حياتهم اليومية في الغرب، وربما تطور هذا الدور في السنوات التالية لهذه المرحلة وتشكلت لدى تلك الشبكات قدرات عالية للحوار والاتصال مع النخب الثقافية والسياسية في الغرب.
إجمالا يمكن استنتاج أن هذه الفترة تميزت لدى الإخوان بفهم أدق للنظام العالمي ومقتضيات السياسة الدولية وتعقيدات العلاقات الخارجية مع الغرب وارتباطها بمعادلات المصالح المشتركة مع الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط، وتميزت أيضاً بتكوين شبكات عابرة للحدود وبتجارب ومبادرات للاتصال والتعاون الخارجي، ولكن مع ذلك لم يتطور هذا الفهم وتلك الممارسات إلى رؤية شاملة للجماعة في علاقاتها الدولية والعمل الخارجي وانحصرت علاقتها وأدوارها في إطار رد الفعل للأحداث وداخل النمط المقيد الذي حددته القوى الإقليمية والدولية.
الفصل الرابع: رؤية في سياق غير مواتٍ (1990-2010)
كانت أجواء الحرية المحدودة التي عاشها الإخوان في فترة السبعينيات والثمانينيات وتمدد شبكات الإخوان في أوروبا وأمريكا مع نشأة فكرة تنظيم دولي ذو صلة وثيقة بمكتب الإرشاد في القاهرة دورا رئيسيا في إنضاج رؤية الإخوان للعلاقات الإقليمية والدولية، وادراكهم لتحديات العمل الخارجي وتعقيدات النظام الدولي، وتصورهم للأزمات الإقليمية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي شهدت تطورات متسارعة منذ توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. في نفس الوقت كانت هناك رغبة لدى الإخوان في تأسيس علاقات إقليمية ودولية من منظور جديد يتناسب ويتفاعل مع التحديات الجديدة التي فرضت نفسها على الساحة الإقليمية والدولية مع بداية التسعينيات والتي كان على رأسها الغزو العراقي للكويت وآثار التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي كان انهيار الاتحاد السوفيتي والمشروع الشيوعي والحديث في الغرب عن خطر جديد وعدو جديد يتمثل في الإسلام بشكل عام والجماعات التي تعمل تحت لافتة العمل الإسلامي باختلافاتها المتنوعة بشكل خاص.
على عكس فترة السبعينيات والثمانينات التي شهدت نشاطا خارجيا في أوروبا وأمريكا بدأت حقبة التسعينيات بأزمة إقليمية حادة فرضت واقعا جديدا في المنطقة، وحصرت الفعل الخارجي للإخوان في منطقة الشرق الأوسط فقط، فقد تفاعل الإخوان بشكل سريع ومبادر مع أزمة الغزو العراقي للكويت، واستطاع الإخوان في مصر ومع التنسيق مع الفروع الأخرى في الأقطار العربية والتنظيم الدولي من المشاركة في أدوار الوساطة ومحاولة الوصول لحلول للأزمة في الإطار العربي والإسلامي والتفاعل من خلال تقديم المبادرات، وربما أتاحت هذه الأزمة الفرصة للإخوان لإبراز دورهم وتأثيرهم الإقليمي ومنحتهم الفرصة للتواصل وبناء العلاقات مع مسؤولين رسميين في الشرق الأوسط.
لم يعد الفعل الخارجي الذي حاولت الإخوان القيام به مناسبا مع تفاقم الأزمة وتطوراتها المتلاحقة، وبعد أن أصبح التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط لإنهاء الغزو العراقي للكويت هو الحل الذي تبنته معظم الأنظمة العربية، أصبحت المبادرات والوساطات التي قام بها الإخوان غير ذات جدوى في ظل تمسكهم برفض التدخل الأمريكي في المنطقة وتمسك غالبية الأنظمة العربية والخليجية بالحل الأمريكي للأزمة، ولم يقف الأمر عند التباين في حلول الأزمة فقط، ولكن سرعان ما تحولت المجهودات والاتصالات التي قام بها الإخوان في بداية الأزمة إلى زيادة وتفاقم أزمات الإخوان مع النظام المصري ومع أنظمة الحكم في الخليج، وهو الأمر الذي كان له تأثير كبير على انحسار ثقل وفاعلية الإخوان في دول الخليج، وعلى إضعاف قدرتهم على الاتصال والفعل الخارجي في منطقة الشرق الأوسط.
لم تنتهِ مرحلة التسعينيات والتي فقد فيها الإخوان اتصالهم داخل الخليج العربي حتى بدأت مرحلة جديدة مع بداية العقد الأول في القرن الحادي والعشرين والتي كان لها تأثير أيضا على تحجيم حراك الإخوان السياسي في أوروبا وأمريكا، فقد فاقمت أحداث 11 سبتمبر الفجوة بين الإخوان وبين الولايات المتحدة والقوى الغربية التي رأت في جميع الحركات الإسلامية ومن ضمنها الإخوان المسلمين تهديدا مباشرا لمصالحها، وتحولت مواقف الإخوان من أمريكا إلى مواقف أشد عدائية بسبب احتلال أفغانستان والغزو الأمريكي للعراق، لا سيما وأن الغضب الشعبي الذي اجتاح العالم العربي والإسلامي ضد الغزو الأمريكي للعراق قد وضع الإخوان في مقدمة قيادة الاحتجاجات الشعبية في الشرق الأوسط الرافضة للتدخل العسكري وللسياسات الأمريكية والغربية في المنطقة. كانت أبرز آثار هذه الفجوة المتسعة بين الطرفين هو غياب وضعف التنظيم الدولي الذي كان يمثل ذراعا للتواصل الخارجي وبناء العلاقات الخارجية للإخوان في مصر، حيث تراجع دور التنظيم بشكل لافت لا سيما بعد أن لاحقت الولايات المتحدة الجمعيات والمراكز الإسلامية ومصادر تمويلها داخل أمريكا وفي أوروبا مما صعب من مهام وأدوار التنظيم الدولي والذي عانى أيضا في تلك الفترة من انقسامات حادة بداخله بسبب تباين فروع الإخوان المختلفة في رؤيتهم حول كيفية التعامل مع الغزو الأمريكي للعراق[34].
عند تأمل رد فعل الإخوان على غياب فعلهم وتأثيرهم الخارجي وضعف اتصالهم على المستوى الإقليمي والدولي بسبب ما فرضته الأحداث آنذاك سنجد أن هناك محاولات جادة لاستعادة الفاعلية الخارجية للإخوان كان من ضمنها مبادرة خارجية في عام 2005 هدفها إعادة تعريف الإخوان أمام الغرب[35]. نبعت المبادرة من رؤية عملية للواقع والفجوة التي تعمقت بين الإخوان وبين أمريكا والغرب، وسعت إلى تحقيق هدفين رئيسيين: أولاً عرض وتوضيح الانتهاكات التي كان يمارسها نظام مبارك ضد جماعة الإخوان بالرغم من التزام الإخوان بالعمل السلمي والمسار الديمقراطي في الممارسة السياسية، ثانياً استباق المحاولات الساعية لإدراج الإخوان في قائمة المنظمات الإرهابية ومنع حدوث ذلك، كانت من ضمن فعاليات هذه المبادرة نشر مقال لنائب المرشد العام للإخوان خيرت الشاطر في صحيفة الجارديان[36] لتوضيح تصورات الإخوان لممارسة العمل السياسي، وأيضا في نفس الوقت تم إطلاق موقع خاص بالإخوان المسلمين باللغة الإنجليزية ليمثل حلقة اتصال مع الباحثين الغربيين وقناة للتواصل الخارجي.
تقييم أو مشاهدات
برغم أن الإخوان في بداية التسعينيات قد نضجت تصوراتهم للعلاقات الدولية واتسمت بالواقعية أكثر من أي وقت مضى، لكن الأحداث والوقائع في تلك الفترة كانت أيضا أشد تعقيدا من أي فترة سابقة وبدا أن واقعية تصورات الإخوان ظلت في سياق متأزم ومعقد؛ جعل من تطبيق التصورات أمراً شديد الصعوبة. يبدو ذلك بوضوح من خلال تقييم تأثير الإخوان في القوى الإقليمية والدولية وتقييم شبكاتهم العابرة للحدود في تلك الحقبة، لم تستطع الإخوان في أزمة الغزو العراقي للكويت من خلال التواصل والمبادرات على المستوى الدبلوماسي ومن خلال التعبئة والحشد على المستوى الشعبي من تغيير أي من مواقف طرفي الأزمة، وازداد الأمر تعقيدا بخسارة علاقتها ونفوذها داخل دول الخليج بسبب موقفها الرافض للتدخل الأمريكي في المنطقة. ثم تعرضت شبكات الإخوان في أوروبا وأمريكا لتراجع حاد في أدوارها وقدرتها على التواصل الخارجي وبناء العلاقات بسبب أحداث 11 سبتمبر وما تبعها من محاصرة وتضييق للعمل الإسلامي في الغرب.
لكن وبالرغم من التوترات التي شهدتها بداية التسعينيات بين دول الخليج والإخوان في مصر، ثمة تحول هام في رؤية الإخوان لعلاقتهم بإيران في تلك الفترة، كان من الواضح أن الترحيب الذي أبداه الإخوان بالثورة الإيرانية في بداية نجاحها والذي صاحبه تواصلات وبناء علاقات بين الطرفين قد بدأ يشهد فتورا بمرور الوقت مع تعقد الأزمات الإقليمية التي كانت إيران طرفا رئيسيا فيها، ولكن لم تكن الأزمات الإقليمية وحدها هي الدافع الرئيسي في تغير تلك العلاقات وتحولها نحو الفتور، كان الدافع الرئيسي الآخر يتعلق بالحفاظ على أحد مصادر التمويل الرئيسية للإخوان والقادمة من أعضاء الجماعة المقيمين في دول الخليج والتي أصبحت في تلك الفترة ومع تصاعد أسعار النفط العالمية مركز ثقل الإخوان المالي[37]، مما جعل الإخوان أكثر حرصا على عدم استفزاز دول الخليج بأي سياسات تتجه إلى تطوير علاقتها مع إيران.
من المهم خلال تقييمنا لهذه الفترة أن نشير إلى عدة عوامل أخرى ذاتية ساهمت في ضعف الفعل الخارجي للإخوان والتباعد بين تصوراتهم للعلاقات الخارجية وبين ممارستهم على أرض الواقع:
أولاً: اتساع الفجوة بين الثقافة الدعوية والتنظيمية وبين الثقافة السياسية، حيث إن جسد جماعة الإخوان والمتشكل من “الأسر” التي تعد وحدة البناء الرئيسية للإخوان كان تغذيته الفكرية والثقافية تعتمد بالأساس على المحتوى التربوي الذي يرسخ مفاهيم الأخلاق والعمل الدعوي والجماعي، في حين كان هناك نقص شديد في التغذية الثقافية والفكرية المعنية بالسياسة سواء من الناحية النظرية أو العملية. في نفس الوقت، كان العقل السياسي للجماعة -إذا جاز لنا أن نطلق هذا المصطلح على المجموعة المسؤولة عن صناعة واتخاذ القرار السياسي داخل الجماعة- محصورا في قيادات الإخوان التي نشأت في فترة السبعينات في الجامعات المصرية مع بعض القيادات التاريخية التي تمثل الاتصال الروحي بمنهج المؤسس الأول، وظل جسد الجماعة الضخم بعيداً عن الثقافة السياسية النظرية والعملية إلا من خلال الممارسات الموسمية الخاصة بالانتخابات البرلمانية والنقابية، ومع وجود مجموعات محدودة اكتسبت ثقافتها وخبراتها في العمل السياسي من خلال انخراطها في الممارسة السياسية داخل الجامعات، لكنها ظلت على مسافة من العقل السياسي للجماعة. هذه البيئة الداخلية للجماعة ربما خلقت مناخا إيجابيا على مستوى العمل الدعوي والتنظيمي الذي شهد موجات من التطور خلال تلك الفترة، لكن في الوقت نفسه خلقت مناخا سلبيا افتقر لروح التجديد والابداع في العمل السياسي والذي انعكس على الممارسات السياسية الداخلية وعلى ممارسات الإخوان للعمل الخارجي وقدرتهم على بناء شبكة علاقات خارجية.
ثانياً: انكفاء الجماعة على نفسها، حيث تسببت التضييقات والضربات الأمنية التي برزت في تلك الفترة كتوجه وسياسة متبعة من النظام المصري في تعامله مع الإخوان، في ضعف -وأحيانا- انقطاع قنوات الاتصال الخارجي. بالإضافة إلى ذلك بدا بوضوح أن سياسة النظام المصري قد جعلت من أي تواصل أو علاقات للمعارضة المصرية مع الخارج -سواء دول أو منظمات مجتمع مدني- من الخطوط الحمراء التي أدركها الإخوان جيدا وابتعدوا عن الاقتراب منها إلا في أضيق الحدود وعلى مستوى المنظمات والمؤسسات الإسلامية المرتبطة بالعمل الإغاثي.
الفصل الخامس: انفتاح ونجاح استثنائي (2011-2013)
مثلت ثورة يناير بيئة جديدة وأجواء من الحرية لم تشهدها الإخوان خلال تاريخها الطويل منذ نشأتها، وهو ما ساهم في دفع الإخوان لبلورة رؤيتهم لعلاقاتهم الخارجية بشكل يتناسب مع تلك التطورات الداخلية الجديدة ويتناسب أيضا مع تطورات إقليمية لا تقل أهمية عنها. ومن خلال مطالعة تاريخ العلاقات الخارجية للإخوان خلال العقود الماضية يمكن أن نصف المرحلة التي تلت ثورة يناير بالانفتاح والرغبة في بناء علاقات متعددة إقليما ودوليا، وبالرغم من أن تلك المرحلة امتدت لفترة زمنية قصيرة، لكن يمكن أن نفهم رؤية الإخوان لعلاقاتهم الخارجية من خلال ثلاث زوايا رئيسية.
أولاً، رسائل الطمأنة وبناء الثقة
بعد سقوط مبارك مباشرة بدأت الإخوان في تحركات واتصالات خارجية مكثفة لم يكن هدفها الرئيسي تحقيق نفوذ وفاعلية إقليمية ودولية أو بناء شبكة علاقات خارجية، ولكن نتيجة للتخوفات الإقليمية والدولية من الإخوان التي بات من الواضح أن مشاركتها أو وصولها للسلطة في مصر أصبح وشيكا، كان على الإخوان أن يضعوا على رأس قائمة أولوياتهم الخارجية إيصال رسائل طمأنة عن تصوراتهم وأهدافهم وطبيعة وسائلهم، واعتمدت رسائل الطمأنة وبناء الثقة على مضمونين رئيسيين: رؤية الإخوان للأوضاع الداخلية في مصر وموقفهم من الترشح للرئاسة، ورؤية الإخوان للسياسة الخارجية لمصر والتي أكدت رسائل الإخوان على أنها لن تشهد تحولات كبرى أو تغيرات حادة على المستوى الإقليمي والدولي مع الالتزام بالمعاهدات الدولية.
ثانياً، علاقات قوية مع داعمي الثورة
بحثت الإخوان عن إقامة تحالفات مع القوى والفواعل الإقليمية الداعمة لثورات الربيع العربي والقريبة منها أو غير المتصادمة مع أيدولوجيتها، في الوقت الذي كانت فيه كثير من دول الشرق الأوسط تتخذ منهجاً عدائيا أو متحفظا من ثورات الربيع العربي أو الإخوان المسلمون. وخلال هذا السياق برزت العلاقات المتطورة بين الإخوان من جهة وتركيا وقطر من جهة أخرى كنتاج طبيعي لقوى ناشئة تسعى لبناء تحالفاتها في فترة تموج بالتغيرات الإقليمية والدولية، وبدا أن الإخوان بعد سقوط مبارك في حاجة إلى من يدعم تواجدها على الساحة الإقليمية والدولية كقوى سياسية مرشحة للوصول إلى السلطة في مصر. وفي نفس الوقت حرصت كل من تركيا وقطر على بناء قوتهما الناعمة ودعم شعبيتهما في منطقة الشرق الأوسط من خلال استمرار دعمهما لثورات الربيع العربي ودعمهما للقوة الرئيسية في تلك الثورات.
ثالثاً، علاقات متزنة مع القوى التقليدية
في الوقت الذي سعى فيه الإخوان لزيادة حراكهم السياسي الخارجي والانفتاح والتواصل وبناء التحالفات، كان هناك تحدٍ قائم يتعلق بحلفاء مصر التقليديين ونظرتهم وتقييمهم للسياسة الخارجية للإخوان، برزت السعودية والإمارات كحليفين إقليميين لمصر لديهم تخوفات من وصول الإخوان للسلطة، وفي نفس الوقت برزت الولايات المتحدة كحليف دولي لمصر لديه تخوفاته، لكنه اتسم بسياسة أكثر مرونة وبرجماتية في نظرته للإخوان المسلمين. اعتمد الإخوان على رؤية غير صدامية مع الحلفاء التقليديين، وربما كانت تميل أكثر إلى طمأنة الحلفاء التقليديين بعدم وجود نية لدى الإخوان بإجراء تغيرات جذرية في السياسة الخارجية المصرية حال وصولهم للسلطة. ومع ذلك لم تتطور العلاقات بين الإخوان من جهة والسعودية والإمارات من جهة أخرى لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها استمرار القلق الخليجي من اتساع الثورات والتمدد الإخواني في المنطقة، في حين تطورت العلاقات بين الإخوان والولايات المتحدة إيجابيا وتخطت مرحلة الرسائل والتواصل من خلال وسطاء إلى الزيارات واللقاءات المباشرة التي بدأت مباشرة بعد الانتخابات البرلمانية في أواخر 2011، وتخللها زيارات من مسؤولين أمريكيين للإخوان في القاهرة وزيارة رسمية لوفد من حزب الحرية والعدالة إلى واشنطن في إبريل 2012[38].
مع وصول الإخوان للسلطة في يونيو 2012 بعد فوز محمد مرسي بانتخابات الرئاسة تبنت الإخوان من خلال حزب الحرية والعدالة والذي أصبح يمثل الحزب الحاكم في مصر تصورات لعلاقتهم الخارجية تتماشى وتتوافق مع خط السياسة الخارجية للرئاسة، وهذا يعني أن تقييمنا لتصورات الإخوان في تلك الفترة لن يخرج عن إطار تقييم السياسة الخارجية لمؤسسة الرئاسة. بالرغم من أن هذه الفترة كانت قصيرة ولم تمتد سوى عام واحد فقط، لكنها شهدت حراكا وتفاعلا من مرسي وفريقه الرئاسي في ثلاثة محاور رئيسية: “المحور الأول يمثل الدائرة العربية، والمحور الثاني يمثل الانفتاح شرقاً تجاه الصين ودول شرق آسيا وغرباً تجاه دول أمريكا الجنوبية، والمحور الثالث يمثل السعي إلى إقامة تحالف مع ما يمكن أن نطلق عليها “دول الأركان”، تركيا والسعودية وإيران”[39]. في نفس الوقت التزمت السياسة الخارجية لمرسي تجاه الولايات المتحدة بخط قريب من السياسة الخارجية لمبارك في الحفاظ على طبيعة التحالف بين البلدين واستمرار العلاقات والتعاون مع الالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل، ولم تختلف أيضا كثيرا السياسة الخارجية تجاه دول الخليج عن سياسة مبارك الخارجية، وحاول مرسي التأكيد على إبقاء العلاقات على نفس المستوى من التحالف ومع ذلك ظلت العلاقات متوترة خاصة مع السعودية والإمارات لنفس الأسباب التي ذكرناها سابقاً.
تقييم ومشاهدات
نتيجة لسنوات من التضييق خلال عهد مبارك كان من الصعب على الإخوان أن تتطور قدراتهم في التواصل وبناء العلاقات والعمل الخارجي في فترة قصيرة -هي فترة الثورة والحكم- فضلا عن قدرتهم على امتلاك تصورات تتناسب مع المرحلة الجديدة وسط حجم التغيرات الداخلية والإقليمية، ومع ذلك شهدت تلك الفترة نجاحا استثنائيا في تحقيق فاعلية خارجية للإخوان وبناء العلاقات والتواصل مع الخارج، وبطريقة ما بدا أن الإخوان بعد سقوط مبارك لديهم رؤية لعلاقاتهم الخارجية وممارسات تتوافق معها ويبدو أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى العمل المؤسسي.
على مدار تاريخ الإخوان كان العمل والاتصال الخارجي يتسم بالفردية وغياب العمل المؤسسي، ويبدو هذا بوضوح في النموذج الذي قدمه يوسف ندا كشخص يمتلك من العلاقات ما يؤهله للقيام بتمثيل الإخوان في وساطات وأدوار إقليمية ودولية، لكن لا يمكن إغفال أهمية ودور الفرد صاحب العلاقات الواسعة في مجال العلاقات الدولية، ولكن أيضاً من الصعب أن يحقق هذا الوضع نجاحا ملموسا مع جماعة تسعى إلى تغيير اجتماعي وسياسي في دولة لها موقعها الإقليمي والدولي البارز مثل مصر.
برز هنا العامل المؤسسي وأهميته في الفترة التي تلت الثورة مباشرة، وقدم حزب الحرية والعدالة من خلال لجنة العلاقات الخارجية -والتي انتقل أغلب اعضاؤها فيما بعد للفريق الرئاسي لمرسي- ممارسات متطورة في التواصل الرسمي وغير الرسمي مع غالبية الأطراف الإقليمية والدولية، وبالرغم من الإرث الثقيل لصورة الجماعة الخارجية وأزماتها، استطاعت اللجنة بناء صورة جيدة للإخوان في الدوائر الغربية تتناسب مع الأوضاع الجديدة في مصر واقتراب الإخوان من الوصول إلى السلطة.
الفصل السادس: غياب الفاعلية ومحدودية العلاقات (مرحلة ما بعد الانقلاب)
فرض انقلاب 2013 واقعا جديدا داخليا وإقليميا تحولت فيه أهداف الجماعة من بناء الفاعلية الخارجية وشبكات التواصل إلى محاولة نزع الشرعية عن النظام الذي أطاح بالإخوان من الحكم مع التأكيد على شرعية مرسي من خلال الفعل الخارجي. وسيكون من المهم هنا فهم الوقائع والتحديات التي برزت في تلك الفترة والتي ستمنحنا صورة أكثر دقة لتصورات الإخوان لعلاقتهم الخارجية وممارستهم:
- الانطلاق من واقع جديد مغاير تماما لواقع سابق كان يتسم بالحرية والانفتاح وسهولة الفعل الخارجي.
- غياب العناصر الفعالة وذات الخبرة في تصورات وممارسة العلاقات الخارجية بسبب الاعتقال كما حدث مع مجموعة الفريق الرئاسي أو الملاحقات التي دفعت بمجموعات أخرى إلى مغادرة البلاد.
- الأزمات الداخلية والانقسامات التي شهدتها الإخوان والتي أعاقت وجود رؤية متماسكة ومتفق عليها في مواجهة الواقع الجديد.
- العمل من بيئة خارجية سواء تركيا أو قطر أو بعض الدول الأوروبية وما يفرضه من قيود والتزامات.
اعتمد تصور الإخوان لعلاقاتهم الخارجية في تلك الفترة على تحقيق هدف رئيسي وهو نزع الشرعية عن النظام القائم في مصر وعزله دوليا، وجاء هذا الهدف ضمن رؤية أوسع للجماعة كان عنوانها الرئيسي إسقاط نظام الثالث من يوليو واستعادة المسار الديمقراطي. بالإضافة التي تحقيق مجموعة أهداف أخرى ترتبط بكشف ممارسات وانتهاكات النظام المصري أمام الخارج لخلق ضغط دولي للإفراج عن المعتقلين السياسيين أو تحسين أوضاعهم المعيشية داخل السجون المصرية، ومن ناحية أخرى صد هجمات الثورة المضادة الخارجية على الإخوان والساعية لإدراج الجماعة على قوائم الإرهاب في أمريكا وأوروبا.
يمكننا القول إن الممارسة كانت بعيدة عن تصورات وأهداف الإخوان في علاقتهم الخارجية لهذه المرحلة، فبالرغم من التحرك في دوائر تبدو أوسع من تلك التي تحركت فيها الإخوان في مرحلة الثورة والحكم، حيث الانفتاح على منظمات المجتمع المدني الخارجية واتساع شبكة العلاقات مع الناشطين والباحثين الغربيين، لكن على الجانب الآخر كان الاتصال وبناء العلاقات المؤثرة أو المغيرة مع الدوائر الرسمية والدبلوماسية الخارجية والمؤسسات الدولية محدودة وعلى نطاق ضيق في أغلبها بسبب الوقائع والتحديات التي شهدتها تلك الفترة والتي أشرنا لها سابقا. كانت المحصلة النهائية لمسار متسارع من الأحداث والتطورات الإقليمية والدولية بالتوازي مع مسار آخر من الأزمات والانشقاقات الداخلية للجماعة هي محدودية فاعلية العلاقات وضعف التأثير الخارجي واتجاه الإخوان لعزلة إقليمية ودولية تعمقت مع مرور الوقت واستمرار أزماتها الداخلية.
تقييم ومشاهدات
بدت لحظة الانقلاب مربكة للجميع تزامنا مع الحملة التي قام بها النظام المصري لإلقاء القبض على رموز وقيادات الإخوان، ولم يغب هذا الوضع المربك عن المشهد الداخلي للإخوان لفترة ليست بالقصيرة وهو ما جعل التحرك والفعل الخارجي مدفوعاً بشعور الجماعة بسباقها مع الزمن لنزع الشرعية الدولية عن النظام القائم والعودة لشرعية انتخابات الرئاسة 2012. لم يساعد هذا التصور المتعجل للتحرك والفعل الخارجي في تحقيق الإخوان لهدفهم الرئيسي، ولم يساعد أيضا في بناء علاقات خارجية قوية ومستدامة، ويعود السبب الرئيسي لهذا الإخفاق في انطلاق الإخوان للحراك الخارجي غياب رؤية داخلية تقدر كيفية الفاعلية والتأثير والأدوات اللازمة لذلك، ويكون لهذه الرؤية قدرة على خلق إجماع أوسع حولها من قوى سياسية وشعبية أوسع من الجمهوري المؤيد بشرعية الرئيس مرسي، وظلت التصورات والنداءات المتعلقة بشرعية الرئيس مرسي ومطالب استعادة المسار الديمقراطي والتظاهرات الاحتجاجية أقل من إحداث التغيير والتأثير المرجو.
ثمة عوامل أخرى لا يمكن إغفالها ساهمت بشكل كبير في إضعاف فاعلية الإخوان الخارجية، في الوقت الذي سعت فيه الجماعة للتواصل الخارجي بقدرات محدودة لتحقيق أهدافها كان على الجانب الآخر اجتياح دبلوماسي للإمارات والسعودية في الدوائر الغربية للدفاع عن النظام المصري ومنحه الشرعية الإقليمية والدولية، بل تخطى هذا التحرك الدبلوماسي مساحة الدفاع عن النظام وتحرّك في اتجاه الهجوم ودفع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى إدراج الإخوان على قوائم الإرهاب.
بعد استقرار غالبية قيادات ورموز الإخوان في تركيا وقطر والولايات المتحدة وبعض العواصم الأوروبية، كان على الإخوان أن تقبل بتحديات العمل في بيئة خارجية والتي تجعل التحرك الخارجي وبناء العلاقات وفق قيود والتزامات الدول الحاضنة للإخوان، على الجانب الآخر كانت السياقات الإقليمية والدولية غير مناسبة للتواصل وبناء العلاقات مع الإخوان وهو الأمر الذي جعل من حركة الرموز والقيادات تحت لافتة تنظيم الإخوان غير مقبول لدى كثير من الدوائر الغربية الرسمية وغير الرسمية؛ مما ساهم في صعوبة التواصل وبناء شبكة علاقات خارجية في وقت كانت الجماعة في أشد الاحتياج إليه.
الفصل السابع: خلاصات وتوصيات
جزء من فاعلية الإخوان إقليميا ودولياً يعود إلى عوامل ذاتية ترتبط بطبيعة جماعة الإخوان المسلمون كحركة اجتماعية عابرة للحدود تنتشر أفكارها وأيدولوجياتها المرتبطة بالمبادئ الإسلامية والأخلاق عبر شبكات اجتماعية تتفاعل مع القضايا السياسية والثقافية في أقطار مختلفة، ولعل وضع أهمية القضية الفلسطينية لدى جماعة الإخوان يمكن أن يعطي تفسيرا مبسطا لسرعة انتشار وتمدد الإخوان خارج الحدود المصرية مع بداية نشأتها، ويعطي تفسيرا أيضا للفاعلية الإقليمية التي اكتسبتها الجماعة سريعا بعدما انتشرت أفكارها في أكثر من دولة وباتت محركاً رئيسياً لتوجهات وسياسات الدول العربية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومواجهة الحركات الصهيونية في النصف الأول من القرن العشرين.
من المهم أيضاً فهم هذه الفاعلية من زاوية التنافس الموجود بين القوى الإقليمية في الشرق الأوسط والذي دفع بعض تلك القوى -في سياقات زمنية مختلفة- إلى دعم الحركات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان بهدف استخدامها كأدوات في سياستها الخارجية؛ لتعزيز مصالحها ومنحها الشرعية في مواجهة منافسيها الإقليميين[40]. والمثال الأبرز هنا هو السياسة التي اتبعتها المملكة العربية السعودية في منتصف خمسينيات القرن المنصرم ومع بزوغ القومية العربية واجتياح شعبية ناصر لجميع الأقطار العربية، حيث عمدت إلى استخدام الإسلام كأداة لشرعنة حكمها ومواجهة القومية والاشتراكية العربية المهددة للأنظمة الملكية في دول الخليج[41]، وفي هذا الإطار استوعبت المملكة ومعها باقي دول الخليج بعض قيادات وأعضاء جماعة الإخوان الفارين من مطاردات وسجون عبد ناصر. ومع بداية السبعينيات دعمت أرباح النفط المرتفعة رغبة السعودية في تمدد نفوذها وتأثيرها في العالم العربي والإسلامي من خلال دعمها للحركات الإسلامية في أقطار مختلفة، ومما لا شك فيه أن هذه الرغبة تزايدت لدى المملكة بعد نجاح الثورة الإيرانية والتي بدأت في منافسة قوية للمملكة على دعم الحركات الإسلامية، بدا ذلك بوضوح من خلال دعم المملكة للأنشطة التعليمية والمؤتمرات وبناء المراكز والمساجد لكثير من الحركات الإسلامية في الدول العربية والعالم الإسلامي وفي أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية في فترة السبعينيات والثمانينيات.
بالرغم من التماسك التنظيمي للجماعة الذي تميزت به على مدار عقود، لكنها افتقرت الجماعة للتماسك الأيديولوجي[42]، وبدا ذلك واضحا مع أجواء الحرية التي صاحبت ثورة يناير والتي كشفت حجم الاختلافات والتباين في الأفكار والقناعات الموجودة داخل الإخوان، وربما التوصيف الدقيق للجماعة قبل الثورة وبسبب طبيعة الحياة السياسية في مصر والقمع وممارسات النظام أنها كانت حاضنة لشرائح اجتماعية ومدارس فكرية مختلفة راغبة في ممارسة العمل الجماعي في مجالات متعددة. ساهم ذلك التباين الفكري في عدم وجود رؤية سياسية متماسكة للإخوان عن العلاقات الخارجية والاتصال بالغرب والمنظمات والحركات الدولية في أغلب الأوقات، وساهم أيضا في التناقض الذي ظل دائما في خيال الإخوان ومؤثرا على تصوراتهم بين المثالية الداعية إلى مقاومة الهيمنة السياسية والثقافية الغربية وعدم الانخراط في علاقات واتصالات مع أوروبا وأمريكا، والواقعية المستندة إلى فهم التعقيدات والقواعد التي فرضها النظام الدولي للتأثير والاشتباك مع القضايا والأزمات الإقليمية وما يعنيه ذلك من أهمية الاتصال وإقامة علاقات مع الغرب -وساعد في ذلك الممارسات الغربية التي لم تتوقف عن انحيازات حادة في القضية الفلسطينية لصالح إسرائيل، إضافة لحروب واحتلال بعض الأقطار العربية، وكذلك بناء علاقات استراتيجية مع الأنظمة السلطوية-.
توصيات للراغبين في التغيير السياسي
سعت هذه الدراسة لاستعراض تصورات وممارسات جماعة الإخوان المسلمين لعلاقتهم الخارجية بهدف إجراء مراجعة وتقييم موضوعي لواحدة من أهم الحركات التي سعت الى التغيير السياسي والاجتماعي في مصر منذ بداية القرن العشرين، ومن ثم استنتاج واجبات عملية وتوصيات لا تخص جماعة الإخوان المسلمين وحدها، ولكنها تشمل جميع الأطياف السياسة الساعية للتغير في مصر. ونأمل أن تكون هذه الدراسة وما يشبهها محفزة للباحثين والمهتمين بالشأن المصري والإقليمي؛ لإجراء دراسات مشابهة مع نماذج أخرى لحركات وجهات وأحزاب تسعى للتغير السياسي في مصر، وتقوم هذه الدراسات باستعراض وتقييم أفكارهم وتجاربهم في فاعلية علاقاتهم الخارجية، وتقدم أيضا توصياتها التي يمكن أن تتكامل مع توصيات هذه الدراسة وتقدم خريطة طريق لاكتساب الثقل والفاعلية الخارجية للساعين للتغير في مصر.
-
حسم الخيالات الأيدولوجية
تمثل الأفكار والقناعات عصب كل حركة أو مجموعة تسعى للتغيير، ولذا فمن الأهمية بمكان ضبط الأفكار التي ستتحكم بشكل كبير في تعريف المصالح وتحديد نمط العلاقات والتحالفات ورسم خريطة العلاقات الخارجية. وهنا يبدو أن الخيالات الأيدولوجية في كثير من الأحيان تعيق الوصول إلى رؤية واضحة للعلاقات الخارجية؛ بسبب تبنيها أفكارا وتصورات مثالية غير مرتبطة بواقع السياسية الدولية وتعقيداتها، ولذلك فإن هذه الأفكار تحتاج إلى حسمها وضبطها بفهم دقيق وبعيد عن التفكير بالتمني أو التحليل الرغائبي للسياسة والعلاقات الدولية؛ لينتج عنها في النهاية رؤية واضحة ومتماسكة. ومع أهمية هذه الخطوة، لكنها ستظل خطوة مبدئية وغير كافية، وسيظل التحدي الرئيسي دائما في كيفية تحويل تلك الرؤية والأفكار المنضبطة بفهم الواقع إلى ممارسات وفعل خارجي يحقق نجاحات ويكسب الحركة فاعلية عملية إقليمية ودولية.
-
تماسك تنظيمي وفاعلية محلية
تفرض طبيعة العلاقات الدولية عاملين متكاملين لتحقيق الفاعلية والثقل الخارجي للحركات والمجموعات: أحدهما: يتعلق بالتماسك التنظيمي، والآخر: بالفاعلية المحلية، ويمكن فهم أهمية هذين العاملين من منظور التأثير والتغيير المحلي وقدرة هذين العاملين على تحقيقهما بالإضافة إلى وضع الحركة كمكون لا يمكن استبعاده من المشهد الداخلي. تتيح هذه المعادلة الداخلية للحركات والمجموعات القدرة على التواصل وبناء علاقات خارجية ناجحة تحمل في ثناياها تقدير لحجم وموقع الحركة الداخلي والإقليمي.
-
العمل المؤسسي وقيادات مناسبة
لم يعد الاعتماد على شخصيات تمتلك علاقات وشبكات اتصالات خارجية قوية كافياً مع حجم التعقيدات والتطورات التي يشهدها عالمنا اليوم، وتفرض هذه الحقيقة البسيطة والواضحة على الحركات والتيارات الاعتماد بالأساس على النهج المؤسسي -المحترف القابل للتطور باستمرار- في إدارة علاقاتها الخارجية من خلال وجود تنظيم وهياكل تدير الاتصال والفعل الخارجي وتحقق الفاعلية الخارجية وتحافظ عليها على أرضية احتراف العمل السياسي والاتصال الدولي والعلاقات الدولية، لكن هذ العمل المؤسسي يحتاج دائما إلى الأفراد المؤثرين والموهوبين وأصحاب الإمكانات والقدرات الاتصالية والدبلوماسية والتفاوضية، مع فهم واقع المصالح الأطراف الأخرى ومرتكزات التواصل والتأثير، وهذا يتطلب دائما في مثل هذه المهام والأعمال شخصيات قيادية فاعلة ملائمة ومهيأة للقيام بهذا الدور الفاعل دون الاقتصار على الأدوار الوظيفية التشغيلية التنظيمية.
-
موضع العلاقات الخارجية في العقل السياسي
عملية الاتصال الخارجي وبناء العلاقات عملية مؤثرة في التموضع الإقليمي والدولي للحركة وتؤثر على بقاء الحركة وفاعليتها أو انحسارها أو التضييق عليها، لذا يجب ان تدرك الحركات التغييرية أن منظومة العلاقات الدولية هي منظومة قيادية ترتبط بقيادة الحركة ورؤيتها وتؤثر فيها وتتأثر بها، وهذا يعني أن ملف العلاقات الخارجية داخل الحركة لا يجب تأطيره في مؤسسة محدودة وبعيدة عن العقل السياسي وصانعي القرار، ولكن من المهم أن يكون له موقع ومشاركة في قيادة الحركة وصناعة السياسات واتخاذ القرارات، وهو في هذه الحالة سيكون مساهما بقدر كبير في تحقيق كل من الفاعلية الداخلية والفاعلية الخارجية.
-
وضوح واتساق الخطاب السياسي
من المهم أن يتميز الخطاب السياسي في عمومه -وبغض النظر عن الجهة التي يخاطبها- بالوضوح والاتساق مع الرؤية والتصورات الخاصة بالعلاقات الدولية، وهذا لسببين: أحدهما داخلي مرتبط ببناء الوعي لدى الجماهير المؤيدة للحركة بما لا يتصادم مع اتصالات وعلاقات الحركة الخارجية، والآخر خارجي ويتعلق ببناء الثقة مع الأطراف الخارجية التي تتشكل تصوراتها عن الحركة من خلال الخطاب السياسي ووضوحه والتغيرات التي تطرأ عليه مع اختلاف الجهة الموجة إليها.
-
الخطر من الوقوع في فخ التوظيف
أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الحركات والمجموعات في اتصالاتها وبناء علاقاتها الخارجية هو الانزلاق في فخ التوظيف لصالح الخارج، وبالرغم من أن مصطلح التوظيف هو أحد الاتهامات الرئيسية التي أطلقتها الأنظمة المصرية على مدار عقود لأي اتصالات رسمية أو غير رسمية للمعارضة المصرية مع الخارج، لكن من المهم للحركات أن تتعامل مع مفهوم التوظيف بشكل جاد وأن تدرك أخطار التوظيف الذي يُحوّل الحركة لأداة تخدم مصالح قوى ودول أخرى وفي نفس الوقت يُفقدها فاعليتها وقدرتها على التأثير الحقيقي. ويتطلب هذا الحذر أن تمتلك الحركة رؤية وتصور عميق وبعيد المدى، واستراتيجية قابلة للتطوير والتقييم، وفهم دقيق لمصالح الأطراف الأخرى، وممارسة سياسية واعية تدرك الفارق بين الفاعلية الخارجية والمصالح المشتركة وبين التوظيف والاستخدام كأداة.
-
تقييم وتطوير الممارسات
يتطلب تحقيق ثقل وفاعلية خارجية تقييما مستمرا لممارسات الاتصال والفعل الخارجي، لا سيما مع التغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة التي تفرض تحديات وواقع مغاير في كثير من الأحيان، ويبدو هنا الهدف الرئيس من عملية تقييم وتطوير الممارسات هو بناء المكاسب الصلبة التي يمكن الحفاظ عليها والقادرة على التأثير في المعادلة السياسية وميزان القوى والابتعاد عن المكاسب الهشة التي قد تتراجع وتنحسر مع التغيرات والتطورات.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
المصادر
[1] إبراهيم البيومي غانم، 2014، “الحركات الاجتماعية.. تحولات البنية وانفتاح المجال”، مركز الوفاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب، <https://wefaqdev.net/art760.html>.
[2] محمود صافى محمود، 2012، عرض دراسة نقدية للحركات الاجتماعية بعنوان: سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية للبروفيسور: فرانسوا ديبو، <https://sites.google.com/site/comppoliticsegphd/home/mqrr-2012/syl/presentations/safisocialmovements>.
[3] Christopher A. Rootes (1997) Social movements and politics, African Studies, vol. 56, no. 1, pp. 67-95, <https://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/00020189708707861>.
[4] فهمي جدعان، 2012، “في الخلاص النهائي..مقال في وعود النظم الفكرية العربية المعاصرة”، ص 58-59، الطبعة الثانية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[5] Josselin D., Wallace W. (2001) Non-state Actors in World Politics: a Framework. In: Josselin D., Wallace W. (eds) Non-state Actors in World Politics, pp. 3-4, Palgrave Macmillan, London.
[6] Davies, T & Peña, A, 2017, Social Movements in International Relations: Recognizing Complexity, ECPR General Conference Oslo, p. 7.
[7] Josselin D., Wallace W. (2001) Non-state Actors in World Politics: a Framework. In: Josselin D., Wallace W. (eds) Non-state Actors in World Politics, pp. 12-14, Palgrave Macmillan, London.
[8] Davies, T & Peña, A, 2017, Social Movements in International Relations: Recognizing Complexity, ECPR General Conference Oslo.
[9] Josselin D., Wallace W. (2001) Non-state Actors in World Politics: a Framework. In: Josselin D., Wallace W. (eds) Non-state Actors in World Politics, pp. 12-14, Palgrave Macmillan, London.
[10] إبراهيم البيومي غانم، 2012، “الفكر السياسي للإمام حسن البنا”، ص447، الطبعة الأولى، مدارات للأبحاث والنشر.
[11] كرر البنا التأكيد على مفهوم الوطن الإسلامي في اكثر من موضع، أنظر رسالة بين الأمس واليوم، ورسالة المؤتمر الخامس، ورسالة إلى الشباب عامة وإلى الطلبة خاصة.
[12] مجموعة رسائل الإمام البنا، 2015، ص 439، دار النداء، إسطنبول، تركيا.
[13] مجموعة رسائل الإمام البنا، 2015، ص 446-451، دار النداء، إسطنبول، تركيا.
[14] KROIZER, G 2004, ‘From Dowbiggin to Tegart: revolutionary change in the colonial police in Palestine during the 1930’, The Journal of Imperial and Commonwealth History, Vol. 32, No. 2, pp. 115-133.
[15] إبراهيم البيومي غانم، 2012، “الفكر السياسي للإمام حسن البنا”، الطبعة الأولى، مدارات للأبحاث والنشر
[16] أنظر مقالات اتجاه النهضة الجديدة في العالم السلإمي، ووحدتنا في ضوء التوجيه الإسلامي، وإعلان الأخوة الإسلامية والتبشير بالفكرة العالمية.
[17] عضيد دويشة، 2019، “القومية العربية في القرن العشرين..من النصر إلى اليأس”، ص 115، الطبعة الأولى، منتدى العلاقات العربية والدولية.
[18] طارق البشري، 1987، الديمقراطية ونظام 23 يوليو (1952-1970)، الطبعة الأولى، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان.
[19] إبراهيم البيومي غانم، 2012، “الفكر السياسي للإمام حسن البنا”، ص473، الطبعة الأولى، مدارات للأبحاث والنشر.
[20] نفس المصدر السابق، ص 453.
[21] نفس المصدر السابق، ص 476.
[22] لائحة عام 1948 لجماعة الإخوان المسلمين، ويكيبيديا الإخوان المسلمين، <https://www.ikhwanwiki.com/index.php?title=%D9%84%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9_%D8%B9%D8%A7%D9%85_1948_%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D8%B9%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D9%86>.
[23] BROWN, P 1948, ‘The Recognition of Israel’, The American Journal of International Law, Vol. 42, No. 3, pp. 620-627.
[24] HINNEBUSCH, R 2003, The international politics of the Middle East, p. 156, Manchester University Press, Manchester & New York.
[25] CLEVELAND, W & BUNTON, M 2008, A history of the modern Middle East, p. 344, 4th edn, Westview Press, Colorado.
[26] Fawaz A. Gerges, 2018, “Making The Arab World”, pp. 318-326, Princeton University Press.
[27] سامي الخازيندار، 2008، “تطور علاقة حركات الإسلام السياسي بالبيئتين الإقليمية والدولية”، ص 23-24، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
[28] RAND, 2011, “The Muslim Brotherhood in the West”, p-5.
[29] RAND, 2011, “The Muslim Brotherhood in the West”.
[30] Vidino, L, 2013, “The West and the Muslim Brotherhood after the Arab Spring”, Al Mesbar Studies & Research Center.
[31] Vidino, L, 2013, “The West and the Muslim Brotherhood after the Arab Spring”, p. 17, Al Mesbar Studies & Research Center.
[32] Texas National Security Review, 2021, Book Review Roundtable: The Muslim Brotherhood and the West, p.2.
[33] Texas National Security Review, 2021, Book Review Roundtable: The Muslim Brotherhood and the West, p.17.
[34] Frampton, M, 2018, “The Muslim Brotherhood and the West: A History of Enmity and Engagement”, p. 411, The Belknap Press of Harvard University Press.
[35] Vidino, L, 2013, “The West and the Muslim Brotherhood after the Arab Spring”, p. 22, Al Mesbar Studies & Research Center.
[36] El-Shatir, K, 2005, “No need to be afraid of us”, The Guardian, <https://www.theguardian.com/world/2005/nov/23/comment.mainsection>.
[37] تامر بدوي و أسامة الصياد، 2018، “إيران وجماعة الإخوان المسلمين المصرية: اتجاه نحو تطوير العلاقات أم مجرد إصلاحها؟”، مركز الشرق للأبحاث الاستراتيجية.
[38] Vidino, L, 2013, “The West and the Muslim Brotherhood after the Arab Spring”, p. 34, Al Mesbar Studies & Research Center.
[39] خالد فؤاد، 2021، “صنع السياسة الخارجية المصرية بين الثابت والمتغير: نحو تصور لسياسة خارجية أكثر فاعلية”، مجموعات التحفيز السياسي، <https://political-stimulus.org/%d8%b5%d9%86%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d8%a7%d8%b1%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b5%d8%b1%d9%8a%d8%a9/>.
[40] Dalacoura K, (2001) Islamist Movements as Non-state Actors and their Relevance to International Relations. In: Josselin D., Wallace W. (eds) Non-state Actors in World Politics, p. 247, Palgrave Macmillan, London.
[41] Dalacoura K, (2001) Islamist Movements as Non-state Actors and their Relevance to International Relations. In: Josselin D., Wallace W. (eds) Non-state Actors in World Politics, pp. 240-242, Palgrave Macmillan, London.
[42] Obaid, N, 2017, “The Muslim Brotherhood: A Failure in Political Evolution”, Harvard Kennedy School-Belfer Center.