صوت التحفيز ومشروع تقييم الإخوان
بحثا عن الحكمة
وسط الدخان والرصاص والدماء، يصول شبح الظلم ويجول، يقتل ويَحْرق ويُجرّف تحت نداء “عملية فض الاعتصام تتم بقرار من النيابة العامة وبحضور وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية والمجتمع المدني”، وسط دخان القتل والانتهاكات في أغسطس عام ٢٠١٣ وداخل ميدان رابعة العدوية يرى أحدنا سيدة مصرية يتقطّع صوتُ بكائها وتهتز حركة عيونها تصرخ: “ليه يارب كده؟” “ليه احنا مش همه؟”، “يارب صيام وصُمْنا، قيام وقُمْنا، دعاء ودعِينا، نعمل ايه تاني يارب؟”.
في أوقات الضعف والجبن وبيع النفس لصالح السلطة والمال تظهر عظمة الشجاعة، أولئك الشجعان الذي أرادوا حياة كريمة، أرادوا حرية وديموقراطية واحترام قيمهم الدينية، أرادوا الحفاظ على رئيس منتخب حتى يُكمل مدته، ورفضوا الشبح الأمني والعسكري الذي يريد أن يواصل هيمنته وسيطرته على حياة المصريين. هؤلاء الشجعان لم يخافوا من التهديد والتشويه والتحريض، ولم يخافوا من الرصاص والتهديد بالسجن والتعذيب، كتبوا على أجسادهم “مشروع شهيد” بنفس راضية وقلوب مطمئنة من أجل حياة كريمة لمصر والمصريين.
فُض الميدان، وطُمست المعالم، لكن لم تُطفأ نيران نفوسنا ونفوس الملايين، ولا زال صوت هذه السيدة المصرية ينادي فينا كل يوم “نعمل ايه تاني يارب؟”، صراخها ليس موجها لأولئك الأبطال الشجعان، بل هو عابر للزمان والمكان، سيظل يتردد في الآفاق وفي نفوس المخلصين حتى يجد إجابة تُطيّب تضحياتهم، وتكشف خزي المفسدين المخربين، إجابة تستمطر حكمة الله التي من رُزقها فقد أوتي خيرا كثيرا، وتستجلب كلمات المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان … هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرةٍ … بلغتْ من العلياء كل مكانِ
حكمة إذن ندين بها لأولئك الشجعان، نبحث عنها ونُقلّب الأحداث والتحليلات والأفكار والمداخل والاتجاهات والمنهجيات؛ بحثا عنها في الفهم والتحليل والاستنتاج؛ لنعوّض ألم الماضي والحاضر، ونساهم في رسم مستقبلنا.
عن مجموعات التحفيز السياسي
بدأت فكرة التحفيز السياسي بين مجموعات متعددة من شباب الباحثين والمهتمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، انطلق تفكيرنا لتوجيه الاهتمام والبحث نحو التحفيز الإيجابي والموضوعي لقضايا المستقبل، هذا التوجيه شمل مسارين كبيرين:
الأول: يتعلق بكل ما يخص إدارة حياة المصريين للأفضل.
فحياة المصريين اليومية مشحونة بالآلام والضغوط والتعب، أزمات في الأجور والخدمات والبنية التحتية، وما يلحق بذلك من ضرورة النظر والبحث في موارد البلاد وإدارتها وضرائبها التي تُثقل كاهل المصريين، فاهتم بعض باحثينا بالتفكير والبحث في الموارد، والنظام الضريبي، وما يتعلق بالموازنة وعجزها، وسبل تحسين الإدارة العامة للدولة، كما اهتم بعض باحثينا بالتنمية ونماذجها وتجاربها المتعددة، وكيف نحقق نموذجا يتعلق بمحاربة الفقر ويحقق تنمية مستدامة، وما الذي تحتاجه السياسات التجارية والصناعية؟ كما اهتم بعض باحثينا بحاجتنا لتطوير مفهومنا للأمن القومي الذي ينطلق من الإنسان والناس والمجتمع، ولا ينحصر في أمن الحاكم، ولماذا تتصادم تصورات ورغبات الإصلاح بالسياسات الأمنية والمؤسسة والعسكرية؟ وما السبيل لتحقيق انتقال ناجح لنظام سياسي أفضل؛ يحمي كرامة المصريين، ويقوّي اقتصادهم، ويعظّم فاعليتهم الدولية، ويحسن العلاقة بين الناس، والسلطة، والمؤسسات الأمنية، والعسكرية.
والثاني: يتعلق بأهمية تقييم الفاعلين السياسيين
من خلال أفكارهم وتفاعلاتهم مع السياقات المختلفة وتصوراتهم السياسية والسياساتية، وفاعليتهم الداخلية والخارجية، وطرق إدارتهم وتنظيمهم لأنفسهم.
يأتي هذا الاهتمام رفضا لنقاشات اللوم والبكاء ومراكمة الحسرات، ونبذا لجدل الخلافات الضيقة، والصراعات التنظيمية والشخصية، وغضبا من القابلية للتشرذم والتفتت والتقوقع حول الذات، كل ذلك أملا في أن نساهم في تحسين المناخ المحيط بالراغبين في التغيير؛ ليكون أكثر جدية وموضوعية وتكاملا، وقابلا للتعاون والحوار البنّاء.
عن مشروع تقييم حركة الإخوان
عندما أراد الباحثون المشاركون بشكل طوعي في هذا المشروع البدء بتقييمٍ موضوعيّ يتعلق بحركة الإخوان المسلمين في مصر، كانوا يسعون لتحفيز النقاش الموضوعي؛ ليبلغ حركات وتنظيمات ومجموعات عمل أخرى غير الإخوان، وأطلقنا على هذا المشروع -وإن اهتم بجماعة الإخوان- “مشروع تحفيز الحوار حول تقييم الحركات الاجتماعية والسياسية وفاعليتها في مصر – الإخوان نموذجا-“، كما أننا أردنا أن يساهم المشروع في فتح آفاق التفكير في جوانب أخرى غير الجوانب التي بدأنا بها.
أردنا أيضا من خلال هذا المشروع وغيره أن نخلق جسرا -بقدر استطاعتنا- للتفاعل والتواصل بين باحثين وخبراء ومهتمين وناشطين؛ لتكون الجهود البحثية مُقدِّمةً للتفاعل والتواصل الإيجابي، ومُيسّرة للنقاش الموضوعي الذي يطوّر الخلاصات ويُعظّم الفوائد.
انطلق المشروع التقييمي ليبحث في أربع زوايا متعددة: تفاعل الأفكار الأساسية والخيارات الفكرية للجماعة مع السياقات التاريخية الكبرى، وتصورات المشروع السياسي والسياساتي للجماعة وعلاقته بإدارة التغيير السياسي، وفاعلية العلاقات الدولية لجماعة الإخوان، والحوكمة الإدارية.
حمل لواء كل زاوية باحث متخصص، فالزاوية الأولى اهتم بها الباحث عمرو عبد المجيد وهو باحث في العلوم الإنسانية وفض النزاعات وما يتعلق بذلك من أفكار وتفاعلات، والزاوية الثانية اهتم بها الباحث الدكتور أحمد محسن وهو باحث في السياسات العامة، والزاوية الثالثة اهتم بها خالد فؤاد وهو باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والزاوية الرابعة اهتم بها الدكتور سمير عبد العزيز وهو خبير إداري واستشاري الحوكمة، وتشرفتُ بإدارة هذا المشروع البحثي مع هذه الكوكبة المتميزة.
لقد صاحبنا كثير من الخبراء والأكاديميين -الذين لم أستأذنهم في ذكر أسمائهم- وكانوا نعم العون في تقديم النصح والدعم وحسن التواصل المستمر، كما ناقشنا مجموعة متنوعة من الباحثين والباحثات وتشرفنا بتعليقاتهم ومقترحاتهم ونصائحهم النفيسة.
في البداية واجهتنا إشكالية مهمة تتعلق بالوصف العلمي لحركة الإخوان في مصر، حيث الجدل العلمي المتعلق بكونها حركة اجتماعية، أو سياسية، أو جماعة دينية، أو خليط من كل ذلك، أمام تعريف الجماعة لنفسها تعريفا لا يتطابق مع العرف العلمي وهو هيئة إسلامية جامعة، وقد سعى الباحثون لوضع مقاربات متعددة للانطلاق منها، وهو جانب آخر مهم من ثراء هذا المشروع، حيث تتعدد المقاربات وطرق التحليل.
لم نسع في هذا المشروع لتقييم الأشخاص والزعامات والقيادات، واخترنا في هذه المرحلة التركيز على كيفية تفاعل الأفكار الأساسية للجماعة مع السياقات التاريخية الكبرى منذ التأسيس حتى لحظة الربيع العربي، وتقييم تصورات المشروع السياسي والسياساتي وعلاقته بإدارة التغيير في مصر، وتقييم فاعلية العلاقات الدولية، وكذلك نظام الحوكمة وعلاقته باستدامة الفاعلية.
من خلاصات المشروع
خَلْف هذه الأوراق البحثية نداءات غير أيدولوجية تحثُّ على ضرورة البحث والقراءة والفهم، وتصرخ في وجه الجدل العقيم والنزاعات الشخصية والإجرائية، نداءات تحاول التنبيه من خطر تراخي التقييمات الموضوعية، وخطر القابلية للتفتت والتشرذم والتقوقع، وانكفاء كل واحد أو كل مجموعة -اجتماعية أو سياسية- على نفسها وعلى ما تحلم به وتتمناه، فنحن بحاجة لأن ننجو معا؛ لأن خرقا واحدا يُغرق كل ركاب السفينة.
تنطق خلاصاتنا الأولية بوجوب محاربة التسطيح وجدل الشكل والتسابق على اللوم، وتسعى خلاصاتنا للفت انتباه أي مجموعة عمل -اجتماعية أو سياسية- إلى أهمية الانتباه لطريقة التفاعل مع السياقات المحيطة التي تتراوح بين التأثير، والتكيف الإيجابي أو السلبي، والتوظيف ضد المصالح والأهداف لصالح آخرين،
كما تبين أن التفكير السياسي والسياساتي العملي ليس رفاهية، ولا ينبغي أن يكون عملا مؤجلا؛ لأن اللحظات الفارقة عندما تأتي لا تسمح برفاهية البدء من الصفر وسط ضغوط واضطرابات متعددة، كما أن الخوف من حسم النقاشات السياسية الضرورية لصالح تماسك المجموعة الحركي والتنظيمي قد يحقق مكسبا آنيا؛ لكنه معرض للانهيار وظهور التنازع عند كل محطة سياسية فارقة تطلب إجابات سياسية حقيقية،
وأيضا تشير خلاصات مشروعنا إلى أهمية العلاقات الدولية باعتبارها عملا محترفا يجب تنميته وتطويره، وهو عمل يجب أن يكون مؤسسيا يرتبط ارتباطا كبيرا بالعقل القيادي ولا ينبغي أن يكون وظيفة إجرائية أو مرتبطا بسلوك شخصي، وأخيرا نسلط الضوء على أهمية الحوكمة الإدارية ومفهومها العلمي الذي يهتم بفلسفة إدارة العمل التنظيمي، وتوقعاته،
وعلاقات السلطة بداخله، وإهمال هذا المفهوم -والتطوير المرتبط به- داخل أي حركة اجتماعية أو سياسية قد يعرضها لنزاعات وخلافات تهدد استقرارها وفاعليتها في تحقيق أهدافها.
إننا ندعو المهتمين للاطلاع على الأرواق البحثية التي ستُنشر قريبا على موقع مجموعات التحفيز السياسي، وأن يمدّونا بملاحظاتهم وتعليقاتهم التي نرحب بها، كما ندعوهم للمشاركة في أي فاعلية تدعو لها مجموعات التحفيز، آملين أن يكون هذا الجهد مفيدا ومحفزا للمهتمين، وأن يساهم في دعم هموم المصريين وتطلعاتهم في حياة أفضل “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى”.