مقالات وآراء

السياسات العامة وثورة يناير

السياسات العامة وثورة يناير

تهتم السياسات العامة بشكل رئيسي بالتصرفات والسياسات والقرارات الحكومية؛ التى تهدف إلى  حل المشاكل العامة التى تهم الناس (كالبطالة والتنمية الاقتصادية وتوفير الرعاية الصحية وتوفير التعليم الجيد وغيرها)، وتُتابع السياسات العامة  هذه المشكلات بداية من أن تصبح جزءا من النقاش العام، مرورا بعملية اتخاذ القرار الحكومية تجاهها وانتهاء بالتنفيذ والتقييم. يقدم بعض الناس نقدا لثورة يناير أنها كانت ثورة بلا حلول أو سياسات بديلة للمشاكل التي يعاني منها المصريون،

فقد كانت التوقعات من الثورة كبيرة؛ من أجل إحداث تغييرات إيجابية، لكن عندما جاءت لحظة الحقيقة يزعم قطاع من الناس أن التصورات والسياسات البديلة كانت غائبة.

السياسات العامة وثورة يناير

يرد البعض على هذا الاتهام بالقول إنه خلال الفترة من 2011 وحتى 2013 تم طرح الكثير والكثير من التصورات والحلول البديلة للسياسات القائمة، ويمكن العودة إلى برامج الأحزاب التي نشأت خلال هذه الفترة، وإلى برامج المرشحين الرئاسيين في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، وفي هذه البرامج سنجد كثيرا من الأفكار والسياسات الجيدة المقترحة، كما يمكن الاطّلاع على النقاشات العامة والأوراق التى كانت تصدر من مراكز التفكير والمراكز البحثية في تلك الفترة،

والتي تؤكد أن المشكلة لم تكن في غياب تصورات السياسات العامة البديلة، بل في غياب الإرادة السياسة التي كانت موجودة وقتها، إما بسبب عدم الرغبة في تغيير السياسات العامة (المجلس العسكري)، أو بسبب عدم القدرة على ذلك (الإخوان المسلمين)، وبمعنى آخر، فالثورة لم تحكم أصلاً بشكل كامل حتى نقيّم سياساتها العامة ونحاسبها عليها، فلو أتيحت فرصة للثورة أن تحكم بشكل كامل، يمكن لاحقا أن نحاسبها على سياساتها.

قد يستمر الجدل حول هذه المسألة، لكنني سأميل إلى مناقشة هذه الفكرة بطريقة أخرى، أتمنى أن تفيدنا في تقييم الماضي وفي بناء تصورات للمستقبل، وسأشير إلى ملاحظتين:

السياسات العامة وثورة يناير
السياسات العامة وثورة يناير

الملاحظة الأولى

التي أود الإشارة إليها هو الحاجة إلى ما يمكن تسميته “مجتمع السياسات”، وذلك من أجل الوصول إلى البدائل، أو من أجل تكوين قناعات وإرادات لدي السياسيين لدفعهم للتغيير.

وأقصد بمجتمع السياسات المجموعات التى تكون قريبة من عملية صنع السياسات العامة في مجال ما، ويكون لديها معرفة وخبرة كافية من أجل المشاركة في النقاشات حول هذه السياسات، وقد يتألف هذا المجتمع من الموظفين الحكوميين والوزراء والفنيين المختصيين، لكنه يمكن أن يشمل أيضا أصحاب المصلحة -المستفيدين أو المتضررين من هذه السياسات-،

والباحثين العاملين في هذا المجال، والإعلاميين المتخصصين، والمواطنين الأكثر تأثرا بهذه السياسات، وعلى الرغم من أن بعض المراقبين يميلون لحصر مجتمع السياسات في البيروقراطيين ورجال الأعمال، فإنني أقصد في هذه المقال المعنى الأوسع الذي ذكرته سابقاً.

لماذا أقصد ذلك؟

لأن السياسات البديلة والأفكار المختلفة تنشأ من خلال النقاشات والحوارات داخل هذه المجتمعات، فهذا المجتمع لديه القدرة على صياغة أفكار مختلفة، وفي نفس الوقت قابلة للتنفيذ، وفي وجود هذا المجتمع المتنوع لدعم صنع السياسات يمكن للنتيجة النهائية أن تعبر عن قطاع واسع يتبنى هذه السياسات، وسيكون ذلك عاملا مهما للضغط على السياسيين لتبنى هذه السياسات، أي أنه يمكن أن يساهم في إيجاد الإرادة السياسية المطلوبة، لكن في غياب مجتمع السياسات هذا، فإنه من الصعب الوصول إلى سياسات بديلة أو إيجاد الإرادة السياسية.

هذا بشكل عام، لكن للأسف في مصر تقل فرص وجود مثل هذه المجتمعات الداعمة لصنع السياسات واتخاذ القرار، لذا نحتاج أن نساهم قدر ما استطعنا في تنمية هذه المجتمعات التي لا تدعمها السلطة، وأن نعمل من أجل تنميتها لمصلحة بلادنا في المستقبل.

 

السياسات العامة وثورة يناير
السياسات العامة وثورة يناير

الملاحظة الثانية

الحاجة لوجود مسارات عملية تسمح بمشاركة قطاعات أكبر من المواطنين في عملية صنع السياسات العامة والتأثير فيها.

لكن في بلدان مثل مصر، تتم عملية صناعة السياسات بطريقة مركزية وبعيدا عن أعين الناس، لذا نفتقد مسارات عملية تسمح للناس -وهم أصحاب الشأن وعليهم ستقع آثار هذه السياسات- أن يشاركوا في نقاش وصنع السياسات التي ستؤثر عليهم في كل أي مجال: الصحي والتعليمي والصناعي والزراعي وغير ذلك.

إن إقدام السلطة والمسئولين السياسيين والتنفيذيين على تنفيذ برامج ومشاريع واستراتيجيات ووضع سياسات؛ من أجل تحقيق ما يريدون في الغرف المغلقة وبأيدي “خبراء”، هي في جوهرها تحمل حرصا على عزل المواطنين، أو الإبقاء على حد منخفض في الاطلاع والمشاركة في مصيرهم والسياسات المرتبطة بتفاصيل حياتهم، لصالح مصالح النخبة وبعض الخبراء وغيرهم من الراغبين في الإبقاء على ما تريده السلطة لا ما يريده ويحتاجه الناس

وباختصار أقول إن السياسات العامة يجب أن تأتي من أسفلٍ وليس من أعلى، وفي دول تم تهميش واستبعاد قطاعات واسعة من المجتمع، فإن استعادة حيوية هذا المجتمع، وكسر الهيمنة المركزية، خطوة أساسية من أجل الوصول إلى إرادات سياسية جديدة وسياسات بديلة.

وخلاصة ما أود الإشارة له بشكل مباشر وواضح:

أولا: ضرورة أن نبدأ في بناء مجتمع للسياسات في المجالات الرئيسية المرتبطة بحياة الناس، فهذا مجتمع خاص بالسياسات الصحية، وآخر بالتعليمية، وثالث بالسياسات الاقتصادية والتنموية، ورابع بقضايا الأمن القومي، وخامس بقضايا التحول الديموقراطي إلخ، وهذه المجتمعات ستكون بداية لحواضن الأفكار البديلة، ونقاط الانطلاق للتأثير على الإرادة السياسية، وبناء المشاريع السياسية على أسس واقعية وموضوعية.

ثانيا: يجب أن نسعى لإشراك قطاعات أوسع من المواطنين في فهم ومناقشة وصنع السياسات، والسماع إلى آرائهم وتطلعاتهم وحاجاتهم، قد يبدو هذا الأمر مستحيلا في ظل نظام مستبد مثل نظام السيسي، لكن الحقيقة أن بناء الآليات والمبادرات والمؤسسات النوعية والمتخصصة والمرتبطة باهتمامات الناس وصياغة الخطاب المناسب لذلك ممكن جدا، ويمكن أن تزداد المشاركات النوعية والفعالة بصورة محلية ضيقة،

أو في صورة أوسع على شبكة الإنترنت، ويمكن أن يفتح ذلك طرقا ومجالات جديدة للتواصل والتأثير والتغيير.

أملنا بعد سنوات من الآن، أن يتغير السؤال الذي نحاول الإجابة عليه من: هل لدينا سياسات عامة بديلة أم لا؟ إلى ما السياسات العامة التي سعينا لتطبيقها والمسارات التي سرنا فيها؟

 

يناير المُحفّز

عن حلمنا للتحفيز السياسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى