مقالات وآراء

الإدارة العامة أداة تقدم الدول

الإدارة العامة أداة تقدم الدول

أحياناً يواجه بعض الناس خلطاً بين الإدارة العامة Public Administration (وهي مأخوذة من أصل لاتيني ومعناه الخدمة العامة وهي ضمن العلوم الاجتماعية) وبين إدارة الأعمال Business Administration ، فالأولى تتعامل مع أنظمة الدولة ومؤسساتها أو بالأدق القطاع العام Public Sector، وتسعى لتحقيق السياسات العامة للدول، باعتبارها أداة التنفيذ ومعيار تقدم الدول -إذا كانت تلك الإدارة متقدمة-، أو تخلفها -إذا كانت تلك الإدارة متخلفة-، فالدول تقاس بالإدارة العامة لديها، بينما إدارة الأعمال تتعلق بالنظم الإدارية في القطاعات الاقتصادية Economic Sector وتهتم بقواعد الأسواق الاقتصادية والاستثمارية والقطاع الخاص Private Sector دون القطاع العام.

ومن الممكن أن تخدم الإدارة العامة الديمقراطية فتكون في قمة فعاليتها وكفاءتها، أو أن يتم تطويعها لخدمة الاستبداد فيكون دورها الرئيسي معطل لصالح الحاكم أو المستبد فتفقد تلك الإدارة فعاليتها وكفاءتها المرجوة منها.

فأهم ما تخدم به الإدارة العامة الدول هو دعمها للديمقراطية ومساعدتها بقوة في التمكين لها، فالمنظمات العامة تؤثر على حياتنا وعلى مواردنا سواء بسواء. لذا فإن الإدارة العامة المتطورة والمتقدمة تعتمد على محاربة الفساد والعمل على إخفائه نهائياً أو تقليله إلى أدنى مستوياته، وكذلك مواجهة محاولات إخضاع الدولة لأهواء السياسيين، كما أنها تتصدى إلى الفساد الوظيفي في تعيين غير المتخصصين أو عدم الاستفادة من المتخصصين المحترفين بعدم وضعهم في المكان المناسب، ومن هنا جاء مفهوم (أنه لا توجد دولة متقدمة ودولة متخلفة)، ولكن في الحقيقة هناك إدارة متقدمة تدعم الديمقراطية وتكون من نتائجها تقدم الدولة، أو أن تكون هناك إدارة متخلفة فتدعم غياب الديمقراطية وبروز الاستبداد والفساد، ثم تكون من نتائجها تخلف الدولة.

الإدارة العامة أداة تقدم الدول

تسعى الدولة إلى إنتاج السياسات العامة، وتعمل الإدارة العامة على إدارة أنشطة المؤسسات المختلفة في الدولة وفق هذه السياسات بأكفأ الطرق لتحقيق النتائج، حيث يعتبر قلب عمل الإدارة هو تحقيق النتائج والمستهدفات. وكلما كانت نظم الإدارة العامة فعالة وعلى درجة عالية من الكفاءة، عاد ذلك بالنفع والتيسير على شؤون المواطنين -الذين هم الاهتمام الأكبر للإدارة العامة السليمة غير الموجهة لخدمة السياسي ورغباته وأهوائه ورفاهيته دون المواطن-، بينما المواطنون بجميع فئاتهم وطوائفهم هم المعنيون بخدمات تلك الإدارة.

لكن إدارة الأعمال عكس ذلك، فهي تعمل في بيئة تقوم على المنافسة، أما الإدارة العامة فهي تعمل في بيئة احتكارية (إلا في حالات قليلة قد تعمل في منافسة مع القطاع الخاص في بعض قطاعاتها)، وتقدم الإدارة العامة خدماتها لجموع المواطنين دون تمييز وليست لشريحة دون أخرى، والإدارة العامة أيضا غير هادفة للربح، وهي تتمثل في إدارة ضخمة، تضم أعداداً كبيرةً جداً من الموظفين بدرجاتهم المختلفة، ويخضعون جميعاً للمسؤولية العامة.

ووفق معيار الأساس القانوني فإن الإدارة العامة قد تبدو غير مرنة أو صعبة التطور، حيث تحكمها تشريعات وأنظمة يستوجب تعديلها اتخاذ إجراءات وتدابير معقدة، وقد تستغرق بعض الوقت؛ لأنها تتطلب الرجوع في أغلب الأحيان إلى السلطة التشريعية في البلاد، وذلك بعكس إدارة الأعمال التي تحكمها أنظمة خاصة، يتم وضعها من قبل كل مؤسسة أو شركة، مما يجعل من تعديلها أمراً سهلاً مقارنة بتعديل أنظمة الإدارة العامة، وبالطبع لا يصح مخالفة الأنظمة للدساتير والقوانين في البلدان المختلفة سواء للإدارة العامة أو لإدارة الأعمال.

جدير بالذكر هنا أن هناك ما يسمى بـ “المدخل الإداري للإدارة العامة” وهو مدخل يعنى بإحداث تقارب بين الإدارة العامة وإدارة الأعمال، بل ويطالب الأولى بالاستفادة من الأخيرة حتى تحقق المؤسسات الحكومية كفاءة في الأداء.

وترجع جذور هذا المدخل إلى بدايات القرن التاسع عشر وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث طالب المتخصصون بأن يتم الاستفادة من مداخل إدارة الأعمال في الإدارة العامة وخاصة بعد أن تدخلت السياسة في الإدارة، مما أدى إلى ظهور قيادات عسكرية غير مؤهلة وغير مناسبة Unfit، وأصبحت وظائف الدولة لأسوأ النوعيات المرفوضة من المجتمع The Nation’s Refuse Garbage (Rainey, 1991) ، هذه الأمور هي التي دفعت “وودرو ويسلون” – السياسي والأكاديمي الأمريكي -والذي شغل منصب الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة الأمريكية– عندما وضع أسس علم الإدارة العامة عام 1880م أن يؤكد على فلسفة إبعاد مجال الإدارة عن السياسة، مؤكداً أن مشاكل الإدارة العامة هي مشاكل إدارية وليست سياسية، وعليها أن تستفيد من مداخل إدارة الأعمال.

الإدارة العامة أداة تقدم الدول
الإدارة العامة أداة تقدم الدول

ويضع المؤرخ الأمريكي في علم الإدارة العامة “ليونارد وايت” تعريفاً للإدارة العامة بأنها جميع العمليات التي من شأنها تنفيذ السياسة وتحقيق أهدافها. ولذلك فإن الإدارة العامة ترتبط بالمستوى الرسمي للدولة والسلطة السياسية، وتقوم على تحقيق وظائف الإدارة المتعارف عليها وهي: التخطيط، والتنظيم، وبناء وتكوين فرق العمل، والتنسيق والتوجيه، والرقابة والمتابعة وتقييم الأداء. كما تسعى الإدارة العامة للتخطيط للتنمية الشاملة في البلاد، بحيث تضمن العدالة في التوزيع والتوازن في تطور المناطق والقطاعات المختلفة، وكل هذا وأكثر هو ما يجعل من الإدارة العامة وفلسفتها وتوجهاتها سبباً في تقدم البلاد، وكلما كان التدخل السلطوي في لي ذراع الإدارة العامة وتوجيهها لخدمة أهواء ورغبات الحاكم فقط، كان الفقد الكبير في فعالية وكفاءة تلك الإدارة في تحقيق النتائج المرجوة منها.

يتوقف نجاح الأداء -على مستوى مناحي الحياة في أي دولة وأداء مرافقها- على نجاح الإدارة العامة في انتهاجها نهجاً متطوراً وقدرتها على بناء قادة وإداريين يستطيعون أن يطبقوا المنهجيات العلمية الحديثة، وبما يحقق الخطط والبرامج التي وضعتها تلك الإدارة العامة لتحقيق الأهداف، وبالتالي إحداث حالات نجاح على مستوى إدارة البلاد، ومن ثم يتطور الإنسان الذي هو محور اهتمام الإدارة العامة والمجتمع ككل، وهذا الإنسان هو الذي تنصب أنشطة الإدارة العامة باتجاه تطوره واستقراره وتميزه.

في ظل تزايد دور الدولة الحديثة لتلعب دوراً بارزاً في تحقيق مستوى معيشي متقدم وراق لمواطنيها بعد أن كان اهتمامها منصباً على الدفاع والشرطة والقضاء فقط في عصور سابقة، ظهر ما يمكن أن نطلق عليه (دولة الخدمات العامة) أو (دولة الرفاهية) ومع هذا الظهور يمكننا التعامل مع الإدارة العامة باعتبارها الركيزة الأساسية لتلك الدولة الحديثة بحيث لا يمكن الوقوف فقط عند مرحلة رسم السياسات العامة الدقيقة، ولكن ليكتمل الأمر فلابد من وجود جهاز تنفيذي فعال (قادر على تحقيق الأهداف) وكفء (قادر على حسن استخدام الموارد البشرية والمالية بحيث يحقق الأهداف في أقصر وقت ممكن وبأقل تكلفة ممكنة كذلك).

وعندما نتخيل أن الإدارة العامة يندرج تحتها مؤسسات الدولة كلها -سواء مركزية أو محلية-، من وزارات ومحافظات ووحدات محلية ومؤسسات وهيئات تابعة للدولة …إلخ، فيمكننا فهم مدى أهمية تلك الإدارة إن كانت متطورة ومتقدمة في تحقيق تطور للجهاز الإداري للدولة ككل وبالتالي مواكبة متطلبات المجتمع والبيئة الخارجية. وهذا يفسر لماذا نجد دولاً لديها موارد كبيرة إلا أنها بقيت مع الدول المتخلفة، وهذا يرجع إلى نقص الخبرة الإدارية لديها وضعف أو إضعاف إدارتها العامة.

الإدارة العامة أداة تقدم الدول
الإدارة العامة أداة تقدم الدول

وبهذا يتضح لنا أهمية الإدارة العامة في تحقيق التطور الاقتصادي والاجتماعي المطلوبيْن لنهضة أي مجتمع، وأن تقدم وتطور هذه الإدارة هو الذي يدفع البلد للتطور والتميز، وكذلك مساهمة الإدارة العامة في دعم وتمتين الديمقراطية وتنفيذ السياسات العامة واستقرار البلدان وتحقيق المستهدفات التي تميز دولة عن أخرى ونظام عن آخر، فهي الأداة الرئيسية لتنفيذ القوانين واللوائح التي تختص بها أجهزة الدولة التنفيذية، وهي التي تعمل على إشباع الحاجات الرئيسية للمواطنين، وكذلك المنوط بها أداء الخدمات العامة بالجودة المطلوبة وبالتكلفة المناسبة، فلا يمكن إحداث تقدم ملموس لأي دولة إلا بتطوير منظومة الإدارة العامة بها وفق النظم الحديثة العلمية؛ لتعمل من أجل المواطن والدولة، وليس توجيه تلك الإدارة لتعمل وفق رغبات وأهواء الحكام.

وأختم هذا المقال بأنه يجب الفصل بين الأمور السياسية وبين الأمور الإدارية، حيث يجب اختيار الموظفين والمديرين العموميين على أساس التميز والكفاءة Merit & Fitness بدلاً عن الاعتبارات السياسية التي تؤدي في أغلب الأحيان إلى تردي مستوى الأداء وانخفاض الكفاءة، ويقول شكسبير “دع الحمقى يتنافسون حول أشكال الحكومات … إن أفضلها إدارة هو أفضلها فاعلية”.

 

السياسات العامة وثورة يناير

يناير المُحفّز

عن حلمنا للتحفيز السياسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى