صنع السياسة الخارجية المصرية بين الثابت والمتغير
نحو تصور لسياسة خارجية أكثر فاعلية
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
صنع السياسة الخارجية المصرية بين الثابت والمتغير
مقدمة
في الوقت الذي تموج فيه منطقة الشرق الأوسط بأزمات واضطرابات وحالة من عدم الاستقرار لم تشهدها المنطقة منذ عدة عقود، والتي انعكست آثارها بشكل مباشر على خرائط التحالفات بين دول المنطقة بعضها مع بعض ومع القوى الدولية، وانعكست أيضًا في شكل تمدد لبعض القوى الإقليمية في المنطقة، وانحسار لقوى إقليمية أخرى، وظهور فواعل جديدة أصبحت تشارك وتساهم في تشكيل خريطة المنطقة وتتداخل في أزماتها سلبًا أو إيجابًا، تصبح عملية بلورة رؤية متكاملة للسياسة الخارجية المصرية في مثل هذا التوقيت أمرًا شديد التعقيد والصعوبة؛
لا سيما أن أغلب أزمات المنطقة مستمرة في التصاعد، وخرائط التحالفات داخل الإقليم لا زالت تتشكل وتتبدل، وحالة التفاعل الديناميكية وتعدد الفاعلين الإقليميين والدوليين المتداخلين في أزمات المنطقة تشير إلى شرق أوسط يعاد تشكيله، وبناء تحالفاته، وضبط موازين القوى التي تحكمه.
تسعى هذه الدراسة إلى تحديد وفهم الثابت والمتغير في عملية صنع السياسة الخارجية المصرية كخطوة رئيسية يمكن أن تساهم فيما بعد في صياغة تصور واقعي للسياسة الخارجية المصرية يناسب السياق الحالي، ولا يتغافل عن آثار والتزامات الماضي ويسعى إلى تحقيق المصالح العليا واستعادة مكانة مصر الإقليمية والدولية.
ستعتمد الدراسة في منهجيتها على مستويين رئيسيين:
المستوى الأول يتناول مجموعة من المعطيات الأقرب للثبات التي تفرض نفسها على صانعي السياسة الخارجية المصرية، وتشمل مجموعة من المحددات الجغرافية والتاريخية، والتغيرات الدولية والإقليمية الكبرى، والمصالح الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية مع مصر.
والمستوى الثاني يتناول مجموعة من المعطيات الأقرب للتغير التي يفرضها الواقع المحلي والإقليمي والدولي على صانعي السياسة الخارجية، وتشمل التوجهات العامة للسياسة الخارجية المصرية في العقود السابقة، وتوجهات القوى الدولية والإقليمية مع الثورة المصرية والانقلاب العسكري، وواقع إقليم الشرق الأوسط واتجاهات القوى الدولية نحوه.
وقبل البدء نشير إلى ملاحظتين ضروريتين:
ندرك أن تحقيق سياسة خارجية مصرية فاعلة وقادرة على حماية المصالح الحيوية للدولة، واستعادة مكانة مصر الإقليمية والدولية، يحتاج إلى تغيير جوهري في بنية النظام السياسي المصري الحالي الذي كلف الوطن أثمانًا باهظة في سبيل الاعتراف بشرعيته على المستوى الدولي، وساهم وعمَّق في انحدار مكانة مصر ودورها الإقليمي والدولي لتكون تابعا إقليميا يؤدي أدوارًا وظيفية في قضايا وأزمات محددة. لكن هذا الإدراك لا يقلل من قيمة بذل بحثي وعملي في محاولة لصياغة تصور للسياسة الخارجية المصرية، يمكن أن يمثل ركيزة لنظام سياسي جديد في المستقبل، يعبر عن واقع المصريين، ويسعى إلى دور إقليمي ودولي يحقق المصالح العليا للدولة، ويليق بمكانة مصر.
لا شك أن الإسهام في صياغة تصور للسياسة الخارجية موضوع مركب ومهم وينطوي على قدر من التعقيد يحتاج بحوثا ودراسات ونقاشات كثيرة ومعمقة، ولعل هذه الدراسة تلقي حجرًا في مياه راكدة.
مرتكزات السياسة الخارجية المصرية
هناك مجموعة من المحددات الرئيسية التي تسهم بشكل رئيسي في صناعة وتشكيل السياسة الخارجية المصرية، فيما يمكن أن نطلق عليها «مرتكزات السياسة الخارجية المصرية» أو المعطيات الأقرب للثبات، ويمكن تعريفها بأنها تلك العناصر التي لا يمكن لإرادة الدولة أن تغيرها على المدى المتوسط والبعيد، مع الأخذ في الاعتبار أن الثقل النوعي لهذه العناصر يتغير في ظل تغيرات الوضع الدولي وتوازنات القوى[1] (شكل رقم 1).
شكل رقم 1 يوضح المعطيات الأقرب للثبات والمؤثرة في تشكيل السياسة الخارجية المصرية
أولًا: المحددات الجغرافية
تعد الجغرافيا المصرية ذات تأثير قوي ومباشر على عملية صناعة السياسة الخارجية المصرية، ويمكن القول إن المعطیات الجغرافية تفرض على صناع السياسة الخارجية المصرية توجهات محددة، من الصعب أن تحيد عنها تجاه بعض الأقاليم، حيث إن مصر تعتمد في بقائها على مياه نهر النيل الذي ينبع خارج أراضيها من دول تقع خلف حدودها الجنوبية (مجموعة دول حوض النيل) وهو ما يفرض عليها متابعة دقيقة لكل ما يجري في تلك الدول، ويمكن أن يتسبب في تقليص تدفق مياه نهر النيل إلى مصر، ويؤثر على كل أشكال الحياة في مصر، وفي الوقت نفسه تمتلك مصر سواحل طويلة على البحر المتوسط والبحر الأحمر، تجعل المنطقة المحصورة بينهما (شبه جزيرة سيناء) في وضع تحت تهديد أمني مستمر، مما يُلزم صناع السياسة الخارجية المصرية بمتابعة دقيقة أيضًا لكل ما يجري وراء حدود مصر الشمالية الشرقية.
ثانيًا: المحددات التاريخية والثقافية
المحددات التاريخية تشير إلى أن مصر دولة شديدة المركزية منذ القدم في أغلب الأحيان، حيث تتحكم سلطة مركزية في توزيع مياه نهر النيل[2]، وفي الوقت نفسه كان للبعد الثقافي والديني تأثير كبير في توجهات السياسة الخارجية المصرية، لا سيما بعد الفتح الإسلامي لمصر، حيث أصبحت مصر ومحيطها الخارجي يشتركان في وحدة الدين واللغة والثقافة. بناء على المحددات الجغرافية والتاريخية، يجب أن تكون السياسة الخارجية المصرية متسقة وغير متعارضة مع تلك المحددات الثابتة.
ثالثًا: الأحداث الدولية والإقليمية الكبرى
الأحداث والتحولات الكبرى التي طرأت على موازين القوى الدولية والإقليمية، نتيجة مفاوضات أو حروب نشبت أو معاهدات أبرمت، شكَّلت أحد المعطيات الرئيسية التي أثرت بشكل كبير على صانعي السياسة الخارجية المصرية.
ويبدو أن أبرز تلك التحولات التي شهدتها المنطقة هي اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل (1979) التي مثَّلت انقلابًا على ثوابت السياسة الخارجية المصرية وعلى رؤية مصر لأمنها الوطني، ودفعت في اتجاه التقارب مع الولايات المتحدة والغرب، وتشكيل علاقات تحالف استراتيجي، وبالتبعية أثر ذلك التحول الحاد في السياسة الخارجية المصرية على الصراع العربي الإسرائيلي، الذي شهد حالات من الإخفاقات المتعددة لا تزال آثارها ممتدة حتى هذه اللحظة.
على الجانب الآخر انعكست طبيعة وتطورات النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة على توجهات للسياسة الخارجية المصرية، وتسبب الغزو الأمريكي للعراق (2003) في إحداث فراغ مفاجئ في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة انهيار العراق كقوة إقليمية، ونتج عن ذلك تمدد لإيران وتركيا كقوى إقليمية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط، وبروز لدول الخليج العربي كفواعل مؤثرة في المنطقة، خاصة مع الطفرة الاقتصادية التي شهدتها بلاد الخليج نتيجة ارتفاع أسعار البترول (2007– 2008).
ويتمثل التأثير المباشر للغزو الأمريكي للعراق على مصر في إضعاف الدور المصري كقوة إقليمية في المنطقة، والذي برزت ملامحه بوضوح في سنوات مبارك الأخيرة التي اتسمت بحالة من الانكفاء على الذات، وضعف للسياسة الخارجية المصرية.
رابعًا: المصالح الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية مع مصر
تشكل المصالح الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية مع مصر أحد أبرز العوامل المؤثرة في السياسة الخارجية لتلك القوى تجاه مصر، وبالتبعية تشكل أحد المحددات الرئيسية لتوجهات السياسة الخارجية المصرية نحو تلك القوى، ونبرز هنا أهم المصالح الرئيسية للقوى الدولية والإقليمية مع مصر التي يمكن من خلالها فهم محددات السياسة الخارجية لتلك القوى مع مصر والمتبعة منذ عقود وفهم سلوكها تجاه الأزمات التي مرت بها مصر.
الولايات المتحدة الأمريكية
تتركز المصالح الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية مع مصر على المحافظة على أمن وقوة إسرائيل، وهو حجر الزاوية في سياسة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى استمرار الهيمنة على الممرات المائية بما يمثل لها من اهمية جيوسياسية واقتصادية، وتبرز هنا قناة السويس وما تمثله من أهمية للولايات المتحدة، وأخيرًا التنسيق والتعاون في محاربة الإرهاب.
ثمة أمور أخرى لا تقل أهمية لمصالح أمريكا مع مصر غير تلك المتعلقة بإسرائيل وقناة السويس ومحاربة الإرهاب، وتتمثل في الفهم الأمريكي لمكانة مصر الجيواستراتيجية، وتأثيرها المحوري على دول منطقة الشرق الأوسط، وفهم أهمية سياسة مصر الخارجية بمحيطها من الخليج العربي وسوريا والمغرب العربي والسودان وايران وتركيا، ودورها وتأثيرها في الوساطة في الأزمات الإقليمية والتي لها انعكاساتها المباشرة على مصالح أمريكا في المنطقة[3].
روسيا
نظرًا لموقع روسيا الجغرافي الذي يجعل السواحل الروسية متجمدة طوال العام، تسعى روسيا بشكل دائم إلى الحفاظ على الوجود الفعال في منطقة الشرق الأوسط، لضمان وصولها إلى المياه الدافئة عبر الخليج العربي والبحر المتوسط. وإذا ما حاولنا تحديد المصالح الرئيسية لروسيا مع مصر فسنجد عدة ملامح رئيسية:
يتمثل الملمح الأول في الإصرار الروسي الدائم على التمسك بإرث الاتحاد السوفيتي، ومن ثم استمرار مزاحمة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ومحاولة إحداث توازن أمام الوجود الأمريكي في المنطقة، وهو ما يدفع الجانب الروسي لإقامة علاقات قوية دائمًا مع دول المنطقة، لا سيما مع مصر وما تمثله من مكانة في الشرق الأوسط.
الملمح الثاني يرتبط بالمصالح الاقتصادية لروسيا التي ترى في مصر سوقًا اقتصادية كبيرة لها، وبوابة روسيا لأفريقيا، وفي الوقت نفسه أحد أبرز الدول المستوردة للسلاح الروسي، وهو ما يحقق لروسيا بجانب الأرباح الاقتصادية نفوذًا وتحقيقًا لرؤيتها السياسية في المنطقة.
الملمح الأخير يتمثل في السعي الروسي للوجود في شرق وجنوب مياه البحر المتوسط، لتشكل من خلال هذا التواجد طوقًا جنوبيًّا لأوروبا، يمنحها أوراق ضغط في صراعها وتنافسها المستمر مع أوروبا، وهو ما يفسر الحرص الروسي على إقامة علاقات قوية مع مصر على المستوى السياسي والعسكري والاقتصادي منذ عقود طويلة وأيضا الحرص على علاقات قوية مع سوريا[4].
الصين
السياسة الصينية التي تعتمد بشكل رئيسي على التركيز على النمو الاقتصادي، وتوسيع أسواقها التجارية في مختلف مناطق العالم، تنظر إلى مصر كسوقٍ اقتصادية ضخمة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يمكن أن تمنح الصين استثمارات ضخمة، وتعزز من نفوذها السياسي في منطقة الشرق الأوسط، بالطريقة الناعمة التي لا تتصادم مع المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة.
دول الاتحاد الأوروبي
تشترك دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية (ألمانيا– فرنسا- إيطاليا) بالإضافة إلى بريطانيا في عدة مصالح رئيسية مع مصر، تتمثل في محاربة الإرهاب والتنسيق والتعاون الأمني، وملف الهجرة غير الشرعية، وأمن البحر المتوسط، ومشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وصفقات السلاح التي تعد مدخلًا للنفوذ الأوروبي في الشرق الأوسط، ومزاحمة للدور الأمريكي والروسي في المنطقة.
بالاضافة الى إدراك أوروبا لأهمية علاقتها مع مصر حيث توفر تلك العلاقة لأوروبا توزاناً في علاقتها مع إسرائيل ومن ثم حفاظا على مصالحها وعلاقتها مع باقي دول الشرق الاوسط.
إسرائيل
بعد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل أصبحت إسرائيل تعول كثيرًا على الجانب المصري كحليف رئيسي لها في المنطقة، حيث اعتبرت اسرائيل استقرار معاهدة السلام مع مصر “ركيزة استراتيجية لمفهوم الأمن الإسرائيلي”[5]، ورأت في مصر البوابة الرئيسية لتسوية الصراعات القائمة، والتواصل والتطبيع مع بقية الأنظمة العربية، وفي الوقت نفسه أدركت إسرائيل أن هذا التحالف يمنحها عدة فرص لإدارة الحوار مع السلطة الفلسطينية وإجراء المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية وفق رؤيتها وتحقيقًا لمصالحها، وتقديم نفسها كشريك وحليف للأنظمة العربية في محاربة الإرهاب، ومواجهة التمدد الإيراني في المنطقة.
على الجانب الآخر تدرك إسرائيل جيدًا احتياج النظام السياسي في مصر لهذا التحالف، ولتنمية وتقوية العلاقات معها، لما يوفره ذلك للجانب المصري من مدخل لعلاقات قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا وفي نفس الوقت دور إقليمي تحرص مصر على الحفاظ عليه.
ومن هنا يمكن أن نتفهم حرص إسرائيل على الحفاظ على بنية النظام السياسي المصري، ورفض ومقاومة أي تغييرات جوهرية يمكنها أن تمس تلك البنية وتهدد التحالف القائم مع مصر. بدا ذلك بوضوح من خلال رؤية إسرائيل للربيع العربي وللثورة المصرية التي رأت فيها إسرائيل تهديدًا وجوديًّا لها ولمصالحها في المنطقة[6].
المملكة العربية السعودية
بالرغم من أن العلاقات بين مصر والسعودية دائمًا تشهد نوعًا من عدم الاستقرار والتوترات والتجاذبات، بسبب اختلاف التوجهات والرؤى في كثير من قضايا وأزمات المنطقة، فإن ذلك لا يؤثر في رؤية السعودية لمصر وأهميتها في الحفاظ على حالة الاستقرار في المنطقة، وبالتبعية على استقرار النظام السياسي في السعودية.
وتدرك السعودية حجم تأثير مصر على بقية دول المنطقة العربية والإسلامية، لذلك تبدو السعودية معنية كثيرًا بالوضع السياسي في مصر، واستقراره بالشكل الذي يحافظ على مصالحها وعلى بقاء نظامها السياسي. وعلى الجانب الآخر، لا يقل الاهتمام السعودي بالحالة السياسية في مصر عن الاهتمام بالجانب الاقتصادي؛ حيث تعد السعودية ثاني أكبر الدول استثمارًا في مصر بعد الإمارات[7].
وتعد إحدى المصالح الرئيسية للسعودية مع مصر هي الحفاظ على مصر كسوق استثمارية ضخمة للسعودية، وفقًا للرؤية السعودية التي تسعى إلى تنويع القاعدة الاقتصادية، وتنويع مصادر إنتاجها الاقتصادي، بهدف تقليص الاعتماد على النفط كمورد رئيسي لاقتصادها.
الإمارات
لا تختلف الإمارت كثيرا عن السعودية في نظرتها للنظام السياسي في مصر وما يحققه من استقرار في الشرق الأوسط واستقرار للأنظمة السياسية في منطقة الخليج، وأحد الجوانب المهمة التي يمكن من خلالها فهم طبيعة العلاقات بين الجانبين والأهمية التي تمثلها مصر بالنسبة للإمارات هي الجانب الاقتصادي؛ حيث تعتبر الإمارات مصر إحدى أهم الأسواق الاستثمارية الخاصة بها، ويمكن تفهم ذلك التصور من خلال متابعة حجم الاستثمارات الإماراتية في مصر، وتنوع القطاعات التي يستثمر فيها الجانب الإماراتي، وعلى الجانب الآخر تنظر دول الخليج إلى الجيش المصري على أنه صمام أمان وظهير عسكري قوي لمنطقة الخليج، وهو ما يدفع بدول الخليج – خصوصًا الإمارات والسعودية – إلى تمويل كثير من صفقات السلاح المصرية باهظة التكلفة[8].
العوامل المؤثرة على السياسة الخارجية المصرية
بالرغم من أن المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية تفرض نفسها على صانعي السياسة الخارجية؛ بحيث يكون التغافل عنها أو تفاديها خرقًا للثوابت الوطنية، فإن عدة عوامل ومعطيات أخرى تؤثر بشكل ما على صانعي السياسة الخارجية، ويصبح من الصعب أيضًا تخطيها لما تفرضه من التزامات وإملاءات وأحيانًا قيود، ويمكن أن نطلق عليها المعطيات الأقرب للتغير، ويتوقف التعامل والتعاطي معها بحسب القيادة السياسية الموجودة وبحسب توجهاتها وقناعاتها، سواء كانت إصلاحية أو كانت تميل إلى التغيير الجذري، ولكنها على أية حال ستكون لها انعكاساتها على توجهات السياسة الخارجية المصرية في المستقبل.
نحاول أن نتناول من خلال الدراسة ثلاثة عوامل رئيسية لها تأثير مباشر على السياسة الخارجية المصرية (شكل رقم 2).
شكل رقم 2 يوضح المعطيات الأقرب للتغير والمؤثرة في تشكيل السياسة الخارجية المصرية
أولًا: التوجهات العامة للسياسة الخارجية المصرية في العقود السابقة
من المهم قبل أن نشرع في محاولة بلورة تصور متكامل للسياسة الخارجية المصرية، أن نسعى إلى فهم التوجهات العامة للسياسة الخارجية المصرية في العقود السابقة (بداية من فترة مبارك) وما تمثله من التزامات، وما تفرضه من تحديات ومعوقات، وربما تسهيلات، في التصور المأمول للسياسة الخارجية المصرية في المستقبل.
الملامح العامة للسياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك
- توطيد العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والحرص على استمرار تدفق المساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية حيث تتلقى مصر منذ عام 1987 حوالي 1.3 مليار دولار سنويًا كمساعدات عسكرية من الولايات المتحدة[9]. على الجانب الآخر، التوافق مع الرؤية والتوجهات الأمريكية حيال أغلب الأزمات والقضايا الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط وإن كانت العلاقات المصرية الأمريكية قد شهدت بعض التوترات في السنوات الأخيرة لحكم مبارك.
لا يمكن هنا أن نغفل عن بعد هام يتعلق بارتباط قوة العلاقات المصرية الأمريكية واستمرار تدفق المساعدات العسكرية والاقتصادية من جهة مع تطور وتحسن العلاقات بين مصر وإسرائيل والتزام مصر بأتفاقية السلام من جهة أخرى.
يمكن أن نجمل طبيعة العلاقات بين مصر وإسرائيل في بداية عهد مبارك بمصطلح السلام البارد (Cold Peace) حيث كان السمت الغالب على العلاقات منحصراً في العلاقات الدبلوماسية والتنسيق الأمني دون أن تتمدد بشكل كبير إلى تعاون اقتصادي أو ثقافي أو تطبيع مجتمعي، لكن هذه العلاقات تطورت خلال سنوات حكم مبارك مشكّلة مرحلتين إضافيتين غير مرحلة السلام البارد التي اتسمت بها العلاقات في فترة الثمانينات،
حيث اتسعت العلاقات بين الجانبين في فترة التسعينات فيما يتعلق بملف القضية الفلسطينية ولعب مصر لدور الوسيط النشط، ثم الوصول إلى مرحلة العلاقات الاستراتيجية التي بدأت منذ عام 2003[10] وتخللها تعاون اقتصادي كان أبرزه اتفاقية الكويز في 2004 بالإضافة إلى تعاون على نطاق واسع في المجال الزراعي وبلغت ذروة التعاون بين الجانبين بعد اتفاق تصدير الغاز المصري لإسرائيل في 2005، ووصلت هذه المرحلة إلى تعاون وتنسيق أمني متطور مع إسرائيل لفرض الحصار على قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس على القطاع في 2007.
بالرغم من هذا التطور المتدرج في العلاقات خلال فترة حكم مبارك فقد كان هناك حرص على عدم تخطي التطبيع مع إسرائيل إلى المساحة المجتمعية حيث ظل التطبيع المجتمعي كما هو منذ اتفاقية السلام ورقة المناورة التي يحتفظ بها النظام المصري لضبط توازن العلاقات مع اسرائيل.
- استعادة لعلاقات قوية مع الدول العربية، والاتجاه إلى تعميق العلاقات مع دول الخليج العربي.
- سياسة خارجية غير نشطة تجاه أفريقيا، مع عدم الاكتراث بتطورات الأوضاع في السودان ودول حوض النيل، مما كانت نتائجه غياب النفوذ والتأثير المصري داخل أفريقيا ودخول لاعبين جدد في مساحة النفوذ داخل القارة في مقدمتهم إسرائيل وإيران وتركيا، بالإضافة إلى النتيجة المباشرة لغياب وتقلص الدور المصري والتي تتجلى في التهديد القائم لمصر من خلال سد النهضة الإثيوبي.
- تقلص دور مصر الإقليمي والدولي، واتجاهها إلى الانكفاء على الذات، وهو ما نتج عنه مقابل ذلك ازدياد لأدوار قوى أخرى في المنطقة: إيران وتركيا وإسرائيل ودول الخليج.
الملامح العامة للسياسة الخارجية المصرية في عهد مرسي
بالرغم من قصر عهد مرسي الذي لم يتجاوز عامًا واحدًا، وصعوبة تقييم أداء السياسة الخارجية التي تعتمد في تقييمها على المسارات المتوسطة وبعيدة المدى، فإنه يمكن إجمال الاتجاه العام للسياسة الخارجية في تلك الفترة القصيرة في التحرك في ثلاثة محاور رئيسية: المحور الأول يمثل الدائرة العربية، والمحور الثاني يمثل الانفتاح شرقًا في اتجاه الصين ودول شرق آسيا، وغربًا اتجاه دول أمريكا الجنوبية،
والمحور الثالث يمثل السعي إلى إقامة تحالف مع ما يمكن أن نطلق عليها «دول الأركان»: تركيا والسعودية وإيران، إلا أنه بالرغم من السياسة الخارجية التي بدت تستعيد نشاطها، والاتجاه في مسارات جديدة، فإن السياسة الخارجية في مجملها لم تشهد تغيرًا ملموسًا، وربما يرجع ذلك إلى محدودية الوقت، وإلى الأزمات الاقتصادية الحادة التي أعقبت ثورة يناير، وإلى التقييدات التي ورثها مرسي من السياسة الخارجية في العقود السابقة؛ حيث ظلت العلاقات مع أمريكا في مسارها الطبيعي، مع استمرار الفتور الموجود منذ سنوات مبارك الأخيرة، واستمرت علاقات ظاهرية مع إسرائيل يشوبها التوتر والحذر، وحاولت الإبقاء على العلاقات مع السعودية وبقية دول الخليج على ما كانت عليه في عهد مبارك.
على الجانب الآخر، أثارت التحركات الجديدة للسياسة الخارجية المصرية في عهد مرسي بعض القوى الإقليمية والدولية. فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية، كانت زيارة مرسي إلى الصين والاتجاه إلى إقامة علاقات تجارية واسعة تحمل إشارات غير مطمئنة للإدارة الأمريكية، وفي الوقت نفسه جاءت زيارة مرسي إلى إيران والسعي إلى استعادة العلاقات معها لتؤكد المخاوف السعودية من مرسي، ومن وصول «الإخوان» إلى السلطة في مصر.
الملامح العامة للسياسة الخارجية الحالية
بالرغم من أن مصر تمتلك مقومات القوة، من حيث موقعها الجيوسياسي ومحيطها الخارجي، ومن حيث امتلاك عناصر القوة الصلبة والناعمة والذكية التي تمكنها من التموضع كقوة إقليمية إذا ما أحسنت القيادة السياسية استثمار تلك المقومات، وامتلكت الإرادة لفرض مصر كقوة إقليمية حاضرة في أزمات وقضايا المنطقة، فإن الواقع الحالي للسياسة الخارجية المصرية يشير إلى تقلص مكانة مصر الإقليمية،
نتيجة خلل البنية السياسية الذي تعاني منه مصر منذ عقود، ونتيجة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت بشدة في أعقاب انقلاب الثالث من يوليو، ونتيجة إلى التحالفات الإقليمية التي استند اليها النظام المصري والتي أدت إلى ارتباك القرار السياسي وأولويات السياسة الخارجية من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت تدفعه في بعض المواقف إلى اتجاهات تتعارض مع الأمن القومي المصري كما هو الحال في قضية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير أو تدفعه إلى مسارات تخالف اتجاهات السياسة الخارجية المصرية التقليدية كما هو الحال في التعامل مع الملف الليبي بدعم أحد أطراف الصراع على حساب الوصول لتسوية سياسية في بلد يعد استقرارها أحد ركائز الأمن القومي المصري.
ثانيًا: توجهات القوى الدولية والإقليمية مع الثورة المصرية والانقلاب العسكري
الولايات المتحدة الأمريكية
ثورة يناير (الفترة من يناير 2011 إلى يونيو 2012): مثلت ثورة يناير أحد التحديات التي واجهت الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها مع مصر، وفي التوقيت نفسه عدم الاصطدام مع الرغبة الشعبية في تغيير النظام الحاكم. فبالرغم من التصريحات المترددة للمسؤولين الأمريكيين التي صاحبت الأيام الأولى من ثورة يناير، فسرعان ما اتجه الموقف الأمريكي إلى التخلي عن مبارك، والاتجاه إلى التجاوب مع الثورة ومطالبها الشعبية.
واتجهت الولايات المتحدة إلى تكثيف اتصالاتها مع أغلب القوى السياسية والمدنية المشاركة في ثورة يناير، لكن التواصل الأمريكي والتفاعل الإيجابي مع قوى الثورة، لم يؤثر على عمق العلاقات الممتدة مع المؤسسة العسكرية الذي انعكس بدوره على سياسة الولايات المتحدة تجاه مصر في فترة حكم المجلس العسكري، والتي لم تختلف كثيرًا عن سابق سياستها أثناء فترة حكم مبارك، ولكنها لم تخلُ من بعض التوترات؛ خصوصًا فيما يتعلق بقضية «التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني» التي كان ضمن المتهمين فيها 9 مواطنين أمريكيين.
حكم مرسي (الفترة من يوليو 2012 إلى يوليو 2013): لم تشهد فترة حكم مرسي أي خلاف واضح في العلاقات بين مصر والولايات المتحدة، واستمرت العلاقات كما كانت في فترة مبارك والمجلس العسكري؛ حيث لم تتوقف المعونة العسكرية المقدمة لمصر، مع تصريحات إيجابية من الجانب الأمريكي حول استمرار العلاقات الاقتصادية بين الطرفين. وبالرغم من استمرار العلاقات الظاهري بين الطرفين
فإن ذلك لم يخفِ التوجس والترقب داخل الإدارة الأمريكية من سياسات «الإخوان» الداخلية والخارجية، لا سيما أن حلفاء أمريكا التقليديين (إسرائيل والسعودية والإمارات) مارسوا دورًا بارزًا في إقناع الإدارة الأمريكية بخطورة «الإخوان» ومرسي على المصالح الأمريكية في مصر ومنطقة الشرق الأوسط. بدا ذلك بوضوح في تفاعل إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما مع انقلاب الثالث من يوليو، الذي انقسمت فيه الإدارة ما بين من يرى ضرورة احترام نتائج الانتخابات الحرة في مصر، وبين من يؤيد الانقلاب العسكري، وانتهى الأمر بقبول الإدارة الأمريكية الإطاحة بمرسي.
ما بعد انقلاب الثالث من يوليو: لم تعلن الولايات المتحدة موقفًا رسميًا من انقلاب الثالث من يوليو، ولكنها فرضت بعض العقوبات على النظام المصري، شملت إلغاء المناورات العسكرية، والتعليق الجزئي للمساعدات العسكرية، بينما كانت واضحة حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين الولايات المتحدة والنظام المصري، في الفترة التي أعقبت الانقلاب مباشرة.
واستمرت الولايات المتحدة في مطالبة النظام المصري باحترام إرادة الشعب، وعدم استخدام العنف ضد المدنيين، وإنهاء حالة الطوارئ، لكن ذلك الموقف الأمريكي ما لبث أن هدأ تدريجيًّا في ظل حرص الولايات المتحدة على استمرار دعمها للأنظمة الحليفة والصديقة في منطقة الشرق الأوسط. وبدا ذلك من خلال الزيارات الرسمية التي توالت للمسؤولين الأمريكيين على مصر، والتصريحات الإيجابية التي تخللتها تلك الزيارات عن أهمية مصر كشريك وحليف استراتيجي للولايات المتحدة.
بعد وصول السيسي إلى السلطة، وبالرغم من فتور العلاقات الواضح بين أوباما والسيسي، فإن ذلك لم يمنع استمرار العلاقات الأمريكية المصرية في اتجاه التحسن والعودة إلى مسارها الطبيعي، وهو ما حدث بالفعل مع وصول ترامب إلى منصب رئيس الولايات المتحدة؛ حيث صرح بدعمه للسيسي والنظام المصري أكثر من مرة.
وعلى أثر ذلك اتجهت العلاقات بين الطرفين إلى النمو بشكل متصاعد على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني، وربما عودة مناورات «النجم الساطع» بعد انقطاع دام اكثر من 8 سنوات، لها دلالتها على عودة العلاقات إلى مسارها الطبيعي. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه بالرغم من حالة الارتباك التي تبدو عليها احياناً السياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر بسبب الاختلافات بين الإدرات المنتخبة كما هو الحال في الفارق بين إدارة أوباما وإدارة ترامب، لكن يمكننا القول إن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون” بما تمتلكه من علاقات عميقة مع المؤسسة العسكرية المصرية هي الفاعل الرئيسي وحجر الزاوية في العلاقات المصرية الأمريكية ، والطرف الأكثر تأثيرًا في صناعة القرار الأمريكي المتعلق بالشأن المصري.
روسيا
ثورة يناير (الفترة من يناير 2011 إلى يونيو 2012): الرؤية الروسية لمنطقة الشرق الأوسط دائما كانت ترتبط بتأثير وانعكاسات الأحداث في الشرق الأوسط على استقرار المناطق المجاورة للحدود الجنوبية الغربية الروسية والتي تعد عمقاً استراتيجيا لروسيا، ومن هنا يمكن أن نفهم عدم الترحيب الروسي بأي تغيرات مفاجئة في منطقة الشرق الأوسط يمكن أن تصل انعكاساتها إلى مصالح روسيا وأمنها.
مثلت تلك النظرة الروسية لأهمية منطقة الشرق الاوسط أحد الدوافع الرئيسية لرد الفعل الروسي والاتجاه العام للسياسة الروسية نحو التغيرات التي شهدتها المنطقة مع الثورة المصرية وثورات الربيع العربي، حيث اتسمت المواقف الرسمية لروسيا بالتحفظ وعدم التجاوب أو الترحيب بالثورات في البداية، ثم لاحقًا اتجهت روسيا إلى دعم الأنظمة التي ثارت شعوب المنطقة عليها.
انعكست السياسة الروسية تجاه الثورة المصرية على العلاقات المصرية الروسية في فترة حكم المجلس العسكري التي شهدت حالة من الفتور والترقب من الجاب الروسي، لما ستسفر عنه التغييرات في نظام الحكم في مصر وما سيترتب عليه من طبيعة العلاقات بين البلدين في المستقبل؛ لا سيما أن العلاقات المصرية الروسية في أواخر عهد مبارك كانت تتسم بالفتور والهدوء النسبي.
حكم مرسي (الفترة من يوليو 2012 إلى يوليو 2013): بالرغم من أن وصول محمد مرسي إلى منصب الرئاسة كأول رئيس مدني منتخب بعد ثورة يناير، ربما كان يشكل فرصة للنظام الروسي، على اعتبار أن تغيير نظام الحكم في مصر ستصاحبه احتمالات بتوجه النظام الجديد إلى علاقات خارجية مع قوى إقليمية ودولية جديدة، بالمخالفة لنمط العلاقات الخارجية التي اعتمد عليها مبارك والتي كانت تعتمد بالأساس على علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة، والحفاظ على علاقات هادئة مع بقية الأطراف الدولية، فإن السياسة الروسية تجاه مصر أثناء عهد مرسي بدت أكثر تحفظًا من أي وقت سابق.
ولم تحقق زيارة مرسي إلى روسيا مسارًا جديدًا في العلاقات بين الجانبين، غير ذلك المسار المتحفظ من الجانب الروسي بعد ثورة يناير.
ما بعد انقلاب الثالث من يوليو: بعد انقلاب الثالث من يوليو سعى النظام المصري إلى إيجاد بدائل، وصنع خريطة تحالفات جديدة مع عديد من القوى الإقليمية والدولية، بهدف اكتساب شرعية دولية. وبالتزامن مع التوتر الذي أصاب العلاقات بين النظام المصري والولايات المتحدة، اندفع النظام للتقارب مع الجانب الروسي بشكل لافت للنظر، على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، وذلك لتحقيق أكثر من هدف بجانب اكتساب الشرعية الدولية.
وتزامنًا مع سعي النظام المصري لتنامي العلاقات مع الجانب الروسي، كانت هناك رغبة روسية في التوغل في منطقة الشرق الأوسط، وملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي من بعض الملفات، وهو ما جعل مسار العلاقات بين مصر وروسيا يبدو متوافقًا بشكل كبير وقابلًا للتمدد في مساحات متعددة، سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا.
وبالرغم من مسار العلاقات المتنامي بين الجانبين المصري والروسي، فإن ذلك المسار ما زال لا يرقى إلى ما يمكن أن نطلق عليه تحالفًا استراتيجيًّا؛ بل هو تعاون تكتيكي قابل للنمو أو الانحسار، بحسب تطور الأحداث والأزمات المشتعلة في المنطقة، وبحسب المصالح المشتركة بين الطرفين.
إسرائيل
ثورة يناير (الفترة من يناير 2011 إلى يونيو 2012): خلال الفترة التي تلت معاهدة السلام بين الجانبين المصري والإسرائيلي، تطورت العلاقات بين الجانبين بشكل متصاعد، وشهدت فترة حكم مبارك تطورًا وتناميًا مستمرًّا للعلاقات بين الجانبين، ما جعل إسرائيل تعبر عن تأييدها لاستمرار مبارك ونظامه في الحكم، وهو ما انعكس على طمأنة الولايات المتحدة وأوروبا على سياسة مبارك نحو إسرائيل، وتوجهه نحو الالتزام بمعاهدة السلام بين الجانبين المصري والإسرائيلي.
انعكست العلاقات القوية بين إسرائيل ومبارك على الموقف الإسرائيلي من الثورة المصرية الذي جاء حذرًا ومتخوفًا، ولم يخفِ المسؤولون الإسرائيليون تخوفاتهم تجاه الثورة المصرية والمطالبة بتنحي مبارك، والتي تركزت في محورين رئيسيين: التخوف من تغيير النظام السياسي في مصر بحكومة جديدة منتخبة لا تلتزم بمعاهدة السلام القائمة بين الجانبين المصري والإسرائيلي، ومن ناحية أخرى التخوف من وصول «الإخوان المسلمين» إلى السلطة في مصر. ومن ثم رأت إسرائيل في الثورة المصرية وثورات الربيع العربي مقدمة لتحول في الأنظمة السياسية المحيطة بها، يمثل تهديدًا وجوديًّا لها.
وبالرغم من العلاقات الإسرائيلية التي نشأت بعد معاهدة السلام مع المؤسسة العسكرية المصرية، فإن العلاقات بين الطرفين أثناء فترة حكم المجلس العسكري اتسمت في مجملها بالتوتر وعدد من الأزمات، والتي كانت على رأسها أزمة اقتحام السفارة الإسرائيلية. وربما تعود تلك الأزمات بين الطرفين لحساسية الظرف والتوقيت فيما بعد الثورة مباشرة، وليس إلى طبيعة العلاقات الجيدة والممتدة بين الطرفين منذ أكثر من 30 عامًا.
حكم مرسي (الفترة من يوليو 2012 إلى يوليو 2013): لم تشهد فترة حكم مرسي أي شكل من أشكال العلاقات بين الحكومة الجديدة المنتخبة وبين إسرائيل، غير أن التعهد من جانب مرسي بالالتزام بالمعاهدات والمواثيق الدولية، وما تضمنه من التعهد بالالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل، ظل هو المعيار الوحيد في العلاقات بين الطرفين خلال تلك الفترة.
وتظل تلك الفترة هي الأسوأ في تاريخ العلاقات بين الجانبين المصري والإسرائيلي منذ التوقيع على معاهدة السلام. سعت إسرائيل منذ اليوم الأول للثورة المصرية إلى إثارة القلق لدى دوائر صنع القرار الأمريكية والأوروبية، فيما يتعلق بوصول «الإخوان» إلى السلطة في مصر، واستمرت المحاولات الإسرائيلية بشكل مكثف بعد وصول «الإخوان» إلى السلطة. أدركت إسرائيل خلال حربها على غزة 2012، الاختلاف الواضح في التعامل مع الحرب على المستويين السياسي والشعبي المصري. انعكست نتائج حرب غزة 2012 على القيادة السياسية الإسرائيلية التي زادت الرغبة لديها في إزاحة «الإخوان» من السلطة في مصر، وضمان عدم وصولهم إلى الحكم مرة أخرى، وهو ما جعل إسرائيل تقف في مقدمة الدول الداعمة للثورة المضادة، وتتقاطع مصالحها مع مصالح السعودية والإمارات في إفشال وإزاحة «الإخوان» من السلطة.
ما بعد انقلاب الثالث من يوليو: مثَّل انقلاب الثالث من يوليو وإزاحة «الإخوان» من السلطة في مصر، نجاحًا لإسرائيل في إزالة التهديد الوجودي الذي رأته في الثورة المصرية، وفي وصول «الإخوان» إلى السلطة في مصر. بعد الانقلاب مباشرة اندفع الجانبان، النظام المصري وإسرائيل، في إقامة علاقات تعد الأقوى في تاريخ العلاقات بين مصر وإسرائيل منذ التوقيع على اتفاقية السلام، وهو ما نتجت عنه لقاءات متعددة بين المسئولين من كلا الطرفين، بالإضافة إلى المستوى المرتفع للتنسيق الأمني والعسكري بين النظام المصري وإسرائيل في سيناء؛ حيث قدمت إسرائيل نفسها كشريك وحليف للنظام المصري في محاربة الإرهاب في شمال سيناء. وتركزت محددات السياسة الإسرائيلية تجاه النظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو في تقديم الدعم السياسي للنظام المصري، مع تقديم الدعم العسكري واللوجيستي والأمني للجيش المصري في سيناء، والسعي إلى إقامة محور يشمل إسرائيل ومصر والسعودية والإمارات، في مواجهة «الإخوان المسلمين» و«حماس» وايران.
المملكة العربية السعودية
ثورة يناير (الفترة من يناير 2011 إلى يونيو 2012): سعت السعودية في فترة حكم مبارك إلى الحفاظ على النظام السياسي المصري، ودعم المؤسسة العسكرية المصرية كقوة عسكرية تمثل ظهيرًا قويًّا للسعودية ودول الخليج في مواجهة التهديدات الإيرانية. نظرًا لهذه النظرة السعودية تجاه مصر ودورها المحوري في المنطقة وفي المحور السني الذي تتزعمه المملكة العربية السعودية، كان التوجس والريبة هو رد الفعل المباشر من السعودية تجاه الثورة المصرية والخوف من تداعيتها على استقرار مصر، ومن ثم استقرار المنطقة وتهديدها لفاعلية وقوة المحور السني، وهو ما يعني تقلص النفوذ السعودي على النطاقين الخليجي والعربي. ولم يخفِ الترحيب السعودي بالانتقال السلمي للسلطة بعد تنحي مبارك التخوفات السعودية من امتداد آثار الثورة المصرية إلى محيط دول الخليج العربي. في الوقت نفسه حافظت السعودية على علاقتها مع المجلس العسكري بصفته رأس السلطة في مصر بعد تنحي مبارك، وربما مثَّل وجود المجلس العسكري في الحكم بعد تنحي مبارك عامل تهدئة للمخاوف السعودية من خروج صناعة القرار المصري عن دائرة المؤسسة العسكرية.
حكم مرسي (الفترة من يوليو 2012 إلى يوليو 2013): استمرارًا للتخوف السعودي من الثورة المصرية وآثارها وانعكاساتها على أوضاع المنطقة والخليج، جاء فوز الدكتور مرسي مرشح جماعة «الإخوان المسلمين» بالرئاسة في مصر ليزيد من التخوفات السعودية، وبالرغم من أن الدكتور مرسي سعى بشكل جاد إلى تبديد المخاوف السعودية؛ حيث كانت أول زيارة خارجية له وهو في منصب رئيس الجمهورية إلى المملكة العربية السعودية، والتي أبدى فيها حرصه الشديد على احترام الملك عبد الله، فإن شيئًا جوهريًّا لم يتغير من الموقف السعودي تجاه الثورة و«الإخوان»، وبدت محددات السياسة السعودية تجاه مصر خلال فترة حكم الدكتور مرسي في إطار ما يمكن أن نطلق عليه محور الثورة المضادة الذي تسعى فيه الدول الداعمة لذلك المحور -وعلى رأسها السعودية- إلى عودة المؤسسة العسكرية إلى صنع القرار المصري، وهو ما يضمن للسعودية بقاء مصر كحليف وعمق استراتيجي لحماية الأنظمة الملكية في الخليج، مع السعي إلى إزاحة «الإخوان» عن دائرة الحكم، والوصول إلى شكل من أشكال الحكم الذي تظل فيه المؤسسة العسكرية هي رأس الحربة.
ما بعد انقلاب الثالث من يوليو: تعد السعودية أول دولة تعترف بوضع الحكم الجديد في مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو؛ حيث أرسل الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز رسالة تهنئة إلى عدلي منصور، الرئيس المؤقت بعد الانقلاب. وتأتي محددات السياسة السعودية تجاه مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو في إطار ضمان بقاء الجيش في المعادلة السياسية على الأقل حتى استقرار الأوضاع في مصر، والسعي إلى ترسيخ التعاون السياسي والاقتصادي والأمني مع النظام المصري القائم بعد انقلاب الثالث من يوليو، واستمرار الدفع بقوة في اتجاه استئصال قوى الثورة في منطقة الشرق الأوسط، وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وبقية الأقطار العربية.
من المهم الإشارة هنا إلى حجم الدعم المالي المقدم من السعودية إلى النظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو؛ حيث يشير مراقبون إلى أن الأموال المقدمة من السعودية والإمارات والكويت بشكل علني إلى النظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو، بلغت 33 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى إعلان السعودية توفيرها لاحتياجات مصر من النفط لمدة خمس سنوات.
الإمارات
ثورة يناير (الفترة من يناير 2011 إلى يونيو 2012): استشعرت الإمارات تخوفًا شديد إزاء ثورات الربيع العربي بشكل عام والثورة المصرية بشكل خاص، وما يمكن أن تمثله من تهديد مباشر لأنظمة الحكم الملكية في الإمارات ودول الخليج العربي. وهو ما جعل موقفها الرسمي لا يختلف كثيرًا عن الموقف السعودي من الثورة المصرية؛ حيث كان التعليق الأول لوزير خارجية الإمارات بعد عدة أيام من اندلاع ثورة يناير لا يعبر عن تجاوب أو تعاطف مع الثورة؛ بل وصف استغلال بعض الأطراف لما يحصل في مصر باستغلال مقيت ومخزٍ، في تلميح لوجود أطراف خارجية تقف وراء الثورة المصرية.
قدمت الإمارات فيما سبق تأييدًا كبيرًا لنظام حكم مبارك، سعيًا منها لجعل مصر عمقًا استراتيجيًّا لتأمين دول الخليج العربي، وهو ما يمكن أن يفسر السعي الإماراتي الدائم بعد ثورة يناير إلى ضمان عدم إجراء تغييرات هيكلية كبرى في النظام السياسي، أو بالأحرى الإبقاء على الجيش على رأس السلطة، مع استمرار دعمها لرموز دولة مبارك، وهو ما بدا بوضوح من خلال دعمها لترشح الفريق أحمد شفيق في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير. انعكس ذلك التوجه الإماراتي بطبيعة الحال على العلاقات مع المجلس العسكري خلال فترة حكمه لمصر التي لم تشهد توترات أو أزمات بين الطرفين، سوى محاولات فقط من الجانب الإماراتي للضغط على المجلس العسكري لوقف محاكمة مبارك.
حكم مرسي (الفترة من يوليو 2012 إلى يوليو 2013): تمدد التخوف الإماراتي وتعمق من مآلات الثورة المصرية بعد وصول جماعة «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر وفي أكثر من بلد بعد ثورات الربيع العربي. وربما أدركت الإمارات حجم الحاضنة الشعبية التي تمتلكها الجماعة في دول الخليج وغيرها من الدول العربية، وهو الأمر الذي عزز مشاعر الخوف من وجود «الإخوان المسلمين» في مساحة الحكم، وتنامي قوتهم في دول المنطقة، واقترابهم من التهديد المباشر لأنظمة الحكم في المنطقة بأسرها. وربما مثلت هذه التخوفات الدافع الرئيسي الذي دفع الإمارات إلى قيادة مشروع القضاء على الثورة المصرية وثورات الربيع العربي، والقضاء على جماعة «الإخوان المسلمين»، والانتماء إلى محور الثورة المضادة. ومن ناحية أخرى سعت الإمارات من خلال هذا الدور إلى تقديم نفسها في إطار قيادة المنطقة، والقيام بدور الدولة الفاعلة في كل أزمات المنطقة.
لم تشهد العلاقات بين الجانبين المصري والإماراتي خلال فترة حكم الدكتور مرسي منحى إيجابيًّا. على العكس شهدت تلك الفترة عديدًا من الأزمات بين الجانبين، وبدا أن العلاقات ربما تشهد مزيدًا من التوتر مع استمرار «الإخوان» في الوصول إلى الحكم في أكثر من دولة عربية. ومن جهة أخرى بدا أن التقارب المصري القطري فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والاستثمارات يسبب إزعاجًا شديدًا للإمارات؛ لا سيما أن حجم الاستثمارات الإماراتية داخل مصر ليس بالقليل.
ما بعد انقلاب الثالث من يوليو: لم يكن خافيًا الدعم المالي والسياسي الذي قدمته الإمارات في سبيل إزاحة مرسي من السلطة[11]، ومن ثم القضاء على جماعة «الإخوان» من خلال الدفع في اتجاه إضعافها واستمرار التضييق عليها، بحيث لا يمكنها فيما بعد أن تصل إلى سدة الحكم أو أن تعود للمشاركة في الحياة السياسية مرة أخرى. هذا الوضوح في السياسية الإماراتية تجاه الثورة المصرية وتجاه «الإخوان المسلمين» جعل موقفها من الانقلاب لا يختلف بأي حال عن السعودية؛ حيث كانت في مقدمة الدول التي اعترفت بنظام الحكم الجديد بعد انقلاب الثالث من يوليو، مع تقديم الدعم السياسي والمالي الضخم.
يمكن تلخيص محددات السياسة الإماراتية تجاه مصر في الفترة التي تلت انقلاب الثالث من يوليو، في استعادة منظومة الحكم نفسها في عهد مبارك، مع مزيد من تحكم المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي، وضمان الاستفادة من الجيش المصري في تشكيل جزء من منظومة أمن الخليج والإمارات، وكذراع لتحقيق أهداف الإمارات الخارجية، وهو ما يمكن أن نلمحه في التعامل المصري مع الأزمة الليبية، ومدى تقاطعه مع رؤية الإمارات حيال الأزمة نفسها.
ثالثًا: واقع إقليم الشرق الأوسط واتجاهات القوى الدولية نحوه
العنصر الذي لا يقل أهمية عن واقع السياسة الخارجية المصرية في العقود السابقة، وما تفرضه من التزامات، هو واقع وحالة إقليم الشرق الأوسط في الوقت الراهن، والتوجهات الرئيسية للقوى الدولية نحو أزمات وقضايا المنطقة، والذي يفرض مجموعة من التحديات أمام أي تصور متكامل للسياسة الخارجية المصرية التي لا يمكن أن تكون بمعزل عن محيطها الخارجي وأزماته وأوضاعه المضطربة.
نشير هنا إلى التوجهات الرئيسية للقوى الدولية نحو منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
الولايات المتحدة الأمريكية
بعد أن كانت سياسة تقليل الانخراط في منطقة الشرق الأوسط هي السمة الغالبة على السياسة الخارجية الأمريكية خلال عهد أوباما، في محاولة لتقليل الأعباء الأمنية والعسكرية، اتجهت الولايات المتحدة بعد عهد أوباما إلى سياسة مغايرة، ومحاولة للرجوع مرة أخرى لساحة الشرق الأوسط، بدافع استعادة نفوذها مرة أخرى في المنطقة وبدافع ألا تمنح مزيدًا من الفراغ الذي سارعت إليه كلا من روسيا وايران وتمددت فيه بدرجات متفاوتة، وبما يسمح في نفس الوقت للولايات المتحدة بإدارة الصراع والتنافس القائم بينها وبين روسيا والصين، وهو ما بدا بوضوح في صياغة استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي التي نشرتها وزارة الدفاع الأمريكية في عام 2018 والتي تؤكد أن “المنافسة الاستراتيجية طويلة المدى مع الصين وروسيا تعتبر في قمة الأولويات الأساسية لوزارة الدفاع”[12].
تعود أمريكا اليوم إلى منطقة الشرق الأوسط من بوابة تقليص وتحجيم النفوذ الروسي في المنطقة، ومن بوابة مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، وهو ما يمنحها إعادة ترميم لعلاقتها الاستراتيجية مع دول الخليج العربي التي تسعى إلى حماية مصالحها والحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، وهو ما تشير إليه أيضًا استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي؛ حيث تشير إلى أهمية التحالفات والشراكات ذات المنفعة المتبادلة لاستراتيجية الدفاع الامريكية والتي من ضمنها تشكيل تحالفات دائمة في الشرق الأوسط بهدف “تعزيز شرق أوسط مستقر وآمن، يمنع وجود ملاذات آمنة للإرهابيين، ولا تهيمن عليه أي قوة معادية للولايات المتحدة الأمريكية، ويساهم في استقرار أسواق الطاقة العالمية وتأمين طرق التجارة… لضمان الهزيمة الدائمة للإرهابيين في الوقت الذي نقوم فيه بقطع مصادر قوتهم، ومواجهة إيران”[13].
وفي سبيل ترسيخ أمريكا الحفاظ على مصالحها الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، تستمر في الالتزام بالخطوط العريضة لسياستها نحو المنطقة، والتي تتمثل في:
- المحافظة على أمن وتفوق إسرائيل.
- استمرار دعم الحلفاء الاستراتيجيين، وترسيخ النزاع بين دول الخليج وإيران.
- استمرار الهيمنة على مناطق النفط وعلى الممرات المائية وخطوط الملاحة البحرية.
- التعاون والتنسيق مع الحلفاء الاستراتيجيين في مواجهة والقضاء على الإرهاب.
روسيا
تعتقد روسيا بأن الـتأييد الأمريكي الذي صاحب الثورات العربية كان الهدف منه إحداث تغييرات جديدة في منطقة الشرق الأوسط؛ تحافظ من خلالها الولايات المتحدة على مصالحها ونفوذها في المنطقة وهو الأمر الذي فاقم التخوفات الروسية ودفعها أن “تولي اهتمامًا كبيرًا بمزاحمة الولايات المتحدة على النفوذ والسيطرة داخل منطقة الشرق الأوسط، لإدراكها أن المرحلة السائلة التي تمر بها المنطقة تتسم بتغيرات سريعة ومفاجئة، ستسفر عن إعادة رسم خريطة القوى والتحالفات في المنطقة، وهو ما لا تريد روسيا أن يمر دون أن يكون لها في تلك الخريطة الجديدة وجود ودور فعال وبارز”[14].
دفع ذلك الاعتقاد روسيا بإستمرار وتزايد رغبتها في ملء الفراغ الذي أحدثه الانسحاب الأمريكي الجزئي من المنطقة في عهد أوباما، وهو ما منحها مزيدًا من النفوذ في المنطقة، ودفعها للبحث عن توسعة وتطوير هذا النفوذ من التمدد الروسي في سوريا والوصول إلى سواحل البحر المتوسط الشرقية إلى التمدد في ليبيا والوصول إلى سواحل البحر المتوسط الجنوبية، مع استمرار اتباع روسيا لاستراتيجيتها الثابتة تجاه منطقة الشرق الأوسط، ووفق سياستها في حماية مناطق المياه الدافئة جنوب حدودها التي تصل إلى البحر المتوسط، ومع تعميق العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية مع ثلاثة محاور رئيسية في المنطقة، هي مصر وتركيا وإيران.
الصين
بجانب البعد الاقتصادي الذي تتسم به العلاقات الصينية مع غالب دول أسيا وأفريقيا والتي يدخل من ضمنها منطقة الشرق الأوسط وما تمثله من أهمية محورية لطريق الحرير الجديد أو ما يعرف بمشروع “الحزام والطريق” الذي يعد أحد استراتيجيات الصين الرئيسية الهادفة إلى تمدد نفوذها عبر العالم ومنافسة الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي، يبدو أيضاً البعد السياسي والاستراتيجي الذي توليه الصين أهمية في نظرتها لمنطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، وتكفي الإشارة هنا إلى افتتاح الصين لأول قاعدة عسكرية بحرية لها خارج أراضيها في جيبوتي عام 2017، في إشارة بالغة الوضوح إلى عزمها أن يكون لها موطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، وإشارة أخرى إلى بداية الانتقال الصيني من الدور الاقتصادي البارز في المنطقة إلى دور سياسي وعسكري وتعظيم مكانتها كقوة دولية، مع الاستمرار الصيني في التركيز على التعاون والنمو الاقتصادي، وزيادة رقعة نفوذها التجاري في الشرق الأوسط.
الاتحاد الأوروبي
تحرص دول الاتحاد الاوروبي على التواجد والمشاركة بفاعلية ولعب دور نشط في حل الأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط ومحاولة التوصل الى تسويات وتفاهمات بين أطراف الصراع المختلفة بما يحقق لها مواجهة تمدد النفوذ الروسي في المنطقة، لكن تظل الأزمات الداخلية لدول الاتحاد الأوروبي تمثل عائقًا لقدرتها على إحداث تأثير ملموس في أزمات منطقة الشرق الأوسط ومنافسة النفوذ الأمريكي أو الروسي. على الجانب الآخر تحرص دول الاتحاد الأوروبي على عدم التغيب عن صفقات التسليح لدول المنطقة التي لا تنظر إليها من زاوية المصالح الاقتصادية فقط ولكن أيضاً من زاوية الحفاظ على دول المنطقة من الاتجاه لعقد صفقات تسليح ضخمة مع كلا من روسيا والصين، وفي الوقت نفسه تبقى أولويات الاتحاد الأوروبي في المنطقة قائمة وعلى رأسها التعاون والتنسيق في محاربة الإرهاب وضبط الهجرة غير الشرعية وتنمية المصالح الاقتصادية المشتركة.
خلاصات
على مر عقود طويلة لم تعكس السياسة الخارجية المصرية ثقل مصر الجيوسياسي والاستراتيجي في المنطقة، بل عكست توجهات السياسة الخارجية المصرية سياسة النخب والأنظمة الحاكمة باختلاف توجهاتها وباختلاف حجم تمثيلها للإرادة الشعبية؛ حيث ظل الحفاظ على استقرار النخب والأنظمة الحاكمة يقع في جوهر التحديات الداخلية التي تدفع السياسة الخارجية المصرية إلى عقد تحالفات خارجية ليس هدفها الرئيسي تحقيق المصالح الوطنية بقدر ما هو دعم استمرار واستقرار الأنظمة في السلطة.
شكَّلت الأزمات الاقتصادية أحد المنطلقات الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية التي سعت إلى تأمين تدفق الموارد المالية والسلع الاستراتيجية، من خلال إقامة علاقات خارجية غير متوازنة وعلى حساب المصالح الوطنية.
تسببت توجهات السياسة الخارجية المصرية على مر عقود في وضع مصر في حالة من حالات التبعية للقوى الدولية والتي صاحبها انحسار لدور مصر القيادي للإقليم، وفقدت السياسة الخارجية المصرية الإلهام والمبادرة في ظل صراع وتنافس مستمر بين القوى الإقليمية على ريادة المنطقة، ولم تعد هناك إرادة وقدرة على توليد فعالية سياسية خارجية بعيدة عن نطاق الحدود المصرية.
ينبغي للسياسة الخارجية المصرية أن تستند إلى ركيزتين أساسيتين: حماية الأمن القومي المصري، وتعزيز النمو الاقتصادي. وينبغي أن ينطلق فهمنا للأمن القومي المصري من إدراكنا للعلاقة بين حدود مصر السياسية وحدودها الجيواستراتيجية، وهو ما يعني أن الأمن القومي المصري يمتد إلى خارج حدودها السياسية؛ حيث يمتد جنوبًا إلى دول حوض النيل لضمان استمرار تدفق مياه النيل إلى مصر بكميات تتناسب مع احتياجاتها، ويمتد في الشمال الشرقي حيث شبه جزيرة سيناء التي تمثل عمقًا استراتيجيًّا وخط الدفاع المواجه لإسرائيل الذي يمثل وجودها خطرًا على الأمن القومي المصري. وينبغي أن ينطلق فهمنا للنمو الاقتصادي من إدراكنا بأن تعزيزه يساهم بشكل رئيسي في تحقيق الاستقرار الداخلي، ويساهم في بناء الاستقلالية وامتلاك القرار، ومن ثم التوازن في العلاقات الخارجية.
لا يمكن أن نغفل أهمية الاستقرار السياسي والتماسك المجتمعي في دعم صنع السياسة الخارجية واستعادتها للفاعلية والريادة، وهو ما يدفعنا للإعتقاد بأن وضع تصور جاد للسياسة الخارجية المصرية يجب أن يعتمد على عدة مراحل متدرجة، تتناسب كل مرحلة مع حجم الإصلاح السياسي والتماسك المجتمعي القائم.
تمثل أهمية فهم وتحديد المعطيات الثابتة والمتغيرة التي تؤثر في عملية صنع السياسة الخارجية المصرية خطوة رئيسية في بناء إطار عام أو تحديد الخطوط العريضة والخيارات الرئيسية للسياسة الخارجية المصرية، وهو ما يمكن أن يساهم في الإجابة على السؤال المحوري: “كيف تدير مصر علاقاتها الخارجية بفاعلية ورؤية شاملة؟”.
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
المراجع
————-
[1] أحمد داوود أغلو، 2010، العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان.
[2] حسن نافعة، 2011، أسس ومرتكزات السياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك، مركز الجزيرة للدراسات، رابط.
[3] HAWTHORNE, E 2020, As Biden Takes Office, the U.S.-Egyptian Bond Comes Into Question, Stratfor, link.
[4] خالد فؤاد، 2018، العلاقات المصرية الروسية: تقارب أم تحالف؟، المعهد المصري للدراسات،رابط
[5] MILSTEIN, M 2011, ‘A New-Old Middle East: Current Developments and their Implications for Israel’, Strategic Assessment, vol. 14, no. 1, viewed 13 November 2020, link
[6] ISRAEL MİNİSTRY OF FOREIGN AFFAIRS 2011, PM Netanyahu addresses the Knesset: The situation in Egypt, Israel Ministry of Foreign Affairs, viewed 24 November 2019,link .
[7] MOGIELNICKI, R 2018, Growing Saudi-Egyptian Ties Face Challenges of Economic Reforms, The Arab Gulf States Institute in Washington (AGSIW), viewed 25 December 2020,link.
[8] EGYPT INDEPENDENT, 2014, KSA, UAE to finance Russian arms deal with Egypt, viewed 28 December 2020, link.
[9] SHARP, J 2019, Egypt: Background and U.S. Relations, Congressional Research Service, viewed 14 November 2020 link.
[10] ARAN, A. & GINAT, R 2014, ‘Revisiting Egyptian Foreign Policy towards Israel under Mubarak: From Cold Peace to Strategic Peace’. The Journal of Strategic Studies, vol. 37, no. 4, pp. 556-583.
[11] KETCHLEY, N 2017, How Egypt’s generals used street protests to stage a coup, Washington Post, viewed 5 January 2021 link.
[12] عادل رفيق، 2018، استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي 2018، المعهد المصري للدراسات، رابط .
[13] عادل رفيق، 2018، استراتيجية الدفاع الوطني الأمريكي 2018، المعهد المصري للدراسات.
[14] خالد فؤاد، 2018، العلاقات المصرية الروسية: تقارب أم تحالف؟، المعهد المصري للدراسات.
تطور مفهوم الأمن عند وزارة الداخلية