يناير المُحفّز
يناير المُحفّز
يأتي يناير المُحفّز هذه المرة بعد مرور عشر سنوات كاملة على صوت الجماهير الذي أصبح جامعا ذو إرادة صلبة؛ يمكنها أن تُسقط رئيسا لتمتلك حقها في السيادة من أجل العدل والكرامة وحقوق الناس.
يأتي يناير كشهر مُحفّز لكل من عاشوا هذه اللحظات في الشوارع والميادين، لمن رأي الأمل والقلق والطموح، وكذلك لآخرين ظنوا قبل ١١ فبراير أن التغيير مستحيل وغير ممكن، فقد رأى هؤلاء كيف يمكن أن تتبدل المواقف والسنن، فيوم ٢٥ لم يكن كأي يوم سابق، وما بعد ٢٨ يناير ليس كما كان قبله، و٢ فبراير كان حدثا فارقا، وبالتأكيد ما بعد ١١ فبراير لم يكن كما كان.
يُحفّز يناير كثيرا من أهله عموما ومن النشطاء والساسة خصوصا، لاسترجاع الذكرى والحلم، ومحاولة استحضاره مرة أخرى، كما يُحّفز آخرين على إحياء لافتات قديمة أو إنشاء لافتات سياسية جديدة لعلها تكون مثل “كلنا خالد سعيد” الجديدة، أو ربما تكون كمطالب التغيير وتوقيعات المليون، او قد تكون ائتلافا كـ”ائتلاف شباب الثورة” إلخ.
يهمنا في هذا المقال أن نشير إلى بعض الاستجابات المتعلقة بذكرى يناير:
الأولى: الاستجابة العاطفية
التي تعتقد أن استحضار العاطفة وحدها وإعادة تعبئتها كافٍ ليكون محفزا، فالتغيير واجب، والسلبية مرفوضة، والاتحاد مهم، والاصطفاف ضروري، وغير ذلك من التعبيرات كفيلٌ بأن يُحدث تغييرا في بلادنا للأحسن، وبهذه العاطفة يُسارع كثيرون لإعادة التعبير عنها بلافتات مختلفة لا تتمايز بعضها عن بعض إلا في بعض الصياغات والعناوين وطريقة التعبير عن الأحلام والأماني، واستكمالا لذلك يسعى كثيرون لتحويلها إلي هياكل مؤسسية فهذه التأسيسية وهذه التنسيقية وهذه الهيئة العليا وهذا المكتب التنفيذي وهؤلاء المؤسسون وهذا المتحدث وهذا الرئيس وهذا النائب إلخ.
نمدح في هذه الاستجابة استمرار الأمل واستمرار الرغبة في فعل شيء، والتفكير في أهمية التنظيم والعمل الجماعي فهو ضروري وواجب، لكن أنبه أيضا لأهمية المضمون.
والمضمون هنا ليس المكتوب في ديباجات الوثائق والأهداف ونماذج الرؤية والرسالة، بل المضمون هو طبيعة ما سيقدمه هذا التكوين، فالمسئول عن شيء ومن يرى نفسه قياديا مع مجموعة أخرى، قبل أن يدعو الناس للانضمام ويُلقي بالوعود والأماني عليه واجب عظيم، هو كشف وابتكار المسارات والقدرات والإمكانات وبالتالي وضع الرؤية المناسبة للواقع والهدف الممكن تحقيقه والإمكانات المتاحة -أو التي يمكن أن تكون متاحة-، طبعا هذه الأمور قد لا تُطلب من أصحاب المشاريع والحملات الجزئية التي تدعم قضية جزئية محددة مثل المعتقلين أو التوعية بقضية أو أزمة، لكن التفكير في حركة سياسية يحتاج جهدا وقدرات وميزات نوعية أعمق من لافتة وشعارات وهياكل ولجان ومنصات إعلامية، خاصة لو كانوا من أصحاب الخبرات والتجارب السياسية السابقة.
الثانية: الاستجابة الانعزالية
والتي لا ترى جدوى التفكير في فعل أي شيء.
هذه النظرة غير مقبولة ولا تحمل لصاحبها ولا لمستقبلنا أي خير بل تحمل التعب والنصب والضيق والقنوط، قد لا يكون بوسعك فعل الكثير، لكن لا يخلو كل واحد منا من قدرة على فعل شيء ما، شيء بحسب القدرات والممكن ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والواقع والتاريخ يثبت أن الأيام دُول، وأن أكبر ثابت في هذه الدنيا هو أنها متغيرة، وقد سنّ القرآن لنا سنة عظيمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، بل عظّم الرسول فينا الإيجابية والمبادرة مهما كان الفعل بسيطا ومهما كانت الظروف صعبة “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تَقوم حتى يَغرِسَها، فليَغرِسْها”.
الثالثة: الاستجابة التشغيلية
والتي يقدر أصحابها حجم الأزمات والضغوط، يعرفون أن الأزمات السياسية تتعلق بالقيادة والاستراتيجية والقدرات الكبرى، فيقرر بعضهم هذه الاستجابة، التركيز السياسي على التفكير التنفيذي التشغيلي حتى يأتي القائد المخلص المنقذ.
يُحمد لهذه الاستجابة فهمها لصعوبة الواقع، ورغبتها في الاستمرار في تقديم ما يمكن تقديمه، لكن ما نلفت الانتباه إليه هو “واجب الكفاية” علينا جميعا، وهو وجوب الاستثمار في المشكلة الكبرى التي نعاني منها جميعا، فلا يجب أن نعلق جوهر الأزمات الكبرى على المجهول والمخلّص الذي سيأتي من السماء، بل على الجميع واجب في دعم القدرات البشرية والعقول والكفاءات، وأن يبحثوا عنهم ويدعموهم ويفسحوا لهم المجال ويستثمروا فيهم بالوقت والموارد دون خوف على العمل التشغيلي والعمل الذي يحسنونه ويتقنونه.
الرابعة هي الاستجابة الكيدية
وهي التي تشوّه حالة يناير التحفيزية بين أهل يناير -المصيبين والمخطئين-، ليكون الحافز الوحيد موجها تجاه الكيد والكراهية والغضب من جهة أو شخص أو فئة، بما يعطل التفكير الموضوعي ويفسد المناخ العام الذي نتمنى أن يكون إيجابيا وفاعلا.
إن دور الفرد يختلف عن مجموعات العمل، ويختلف عن دور القادة والرموز والتيارات والكيانات، ومن حق كل واحد منا أن يختار سياقه المناسب الذي يعمل خلاله ويحقق فيه طموحاته، لكن من المهم أن نحرص جميعا على خلق فرص التشارك والتعاون الإيجابي، دون أن نصبغها بصبغات فردية وشخصية تعيق العمل والتعاون المشترك، وما نرجوه من كل من يُقْدِم على الممارسة السياسية أن يحرص على:
١- كفاءة القيادة والتفكير السياسي والتقدير والاستراتيجية والرؤية.
٢- كفاءة القدرة على التقييم والتطوير المستمر.
٣- كفاءة الخطاب المناسب.
٤- كفاءة الإبداع في ابتكار وسائل مناسبة مؤثرة، وألا تزيد الفجوة بين ما نرجوه وما نمارسه.
٥- تغليب منطق التعاون والشراكة على منطق الفردية والهرمية والعمل الوظيفي.
٦- التفريق بين طبيعة التفكير السياسي والسياساتي، وما يترتب على ذلك من فارق في تصورات الحلول والقدرات وموازين القوى والخطاب والإعلام وغير ذلك.
٧- كفاءة الشكل المؤسسي المناسب للعمل.
٨- الانحياز للعدل والكرامة وحقوق الناس وحقهم في التعبير والحياة الكريمة.